“الشهيد الذي لم يمت “..عبارة ترددت على مسامعنا كثيرا. مسعود نملة مجاهد من الرعيل الأول ناضل بالقاعدة الشرقية بقيادة العميد علي بوحجة، بالفيلق 24 جيش السمندو عن الكتيبة الأولى، تنقل بجبال تاكسنة رفقة مناضلي المنطقة لمحاربة العدو الفرنسي، إلى غاية الحدود التونسية .
كلف بمهمة جلب الأسلحة للثورة ، وواجه صعوبات لتسوية وضعيته في الحالة المدنية. في 2017 تخلص أخيرا من كابوس الوثائق التي تحمل شهادة وفاته وتمكن من استخراج شهادة الميلاد.
…. استقبلنا رفقة زوجته وأبنائه وأحفاده الصغار في بيته بحسين داي ، وهو في شوق كبير لسرد شهادته عن كفاحه بالولاية التاريخية الثانية الشمال القسنطيني، وكله حرصا على إعطاءنا أدق التفاصيل المتعلقة بالثورة وبكفاح مجاهدي المنطقة المخلصين والذين كانوا رفقاءه في النضال، منهم من رحل ومن هو حي يرزق.
حدثنا عمي مسعود عن المناطق، التي تحملت عبء الثورة وقدمت تضحيات جسام منها الأوراس، سكيكدة ومنطقة تاكسنة التي ينحدر منها وهي منطقة ثورية بحق نظرا لتضاريسها الوعرة من جبال وأودية، وقفت في وجه الإستعمار الفرنسي بكل بسالة وشجاعة .
رفع العلم الجزائري لأول مرة بها سنة 1956، لكن للأسف لا يذكرها المؤرخون ولا يتحدث عنها الإعلام بالقدر الذي تستحقه يقول عمي مسعود.
ولد بتاريخ 14 جوان 1937 بدوار سرج الغول، بمحاذاة بلدية تاكسنة بولاية جيجل، التحق بصفوف جيش التحرير وعمره لا يتجاوز 17 سنة مسبلا مدة قاربت 5 أشهر ، كان يقوم بمهمة تدمير الجسور وأعمدة الكهرباء، وبعدها تم تحويله رفقة الكتيبة التي تضم 145 مجاهد وكتيبتين من الولاية الثانية بقيادة المدعو محمد الشينوة (أي محمد الصيني) ، وصديقه العريف الطاهر نحو تونس سنة 1957 لإحضار الأسلحة.
يقول عمي مسعود:” حين وصلت الكتيبة إلى قالمة وبالتحديد بمنطقة الزعرورية في سوق أهراس لم ننجح في العبور نحو الحدود التونسية وفقدنا العديد من رفقائنا المناضلين، بسبب وشاية من الخونة عدنا من حيث أتينا”.
ويضيف :”في مطلع سنة 1958 طلب منا المسؤولون العودة في قافلة بقيادة رابح بوذراع، وكلفنا بمهمة وإعطائنا المعلومات من طرف سعيد بن طوبال شقيق لخضر بن طوبال” .
بعد أسبوع تم تغيير بوذراع بالعريف الطاهر بوعقبة، الذي طلب من قيادة الثورة تزويده بالمجاهدين الذين عملوا معه ومشهود لهم بالشجاعة والإقدام والإخلاص، وقد كان له ما أراد مما أثلج صدري فرحا، بعدها توجهت نحو تونس وهذه المرة تمكنا من دخول تونس بعدما قطع خط شال ونجحنا.”
بقيت الكتيبة في واد مليس مدة شهر، بعدها قام كل من القائد أحمد وعلي منجلي بزيارتهم طالبين منهم العودة إلى الجزائر وبحوزتهم الأسلحة والألبسة، فتم قطع خط شال لكنهم لم يتمكنوا من قطع خط موريس، كونهم لم يستطيعوا الحصول على دليل لتوجيههم وإعلامهم بالأماكن الخطرة وكان من المفروض أن يزودهم بها لخضر بن ورتي وعطايلية، وبذلك أرغموا على العودة إلى الحدود التونسية حيث مكثوا مدة شهر.
بومدين نظم الجيش ولم يكن جهويا
بعدها تم تغيير المسؤولين منهم، محمدي سعيد الذي كان قائد الأركان وعوض بالعقيد هواري بومدين وكان ذلك عام 1958، بحيث قدم بومدين الكثير للثورة بتنظيم الوحدات ورسم حدود الفيالق، بحيث قضى على الفوضى، وأعطى تعليمات بضرب فرنسا يوميا.
ويقول المجاهد نملة في شهادته :” حين جاء بومدين كانت الأمور تسير بشكل منظم، حين يطلب منا ضرب العدو على الساعة العاشرة من أم طبول إلى مغنية تنفذ الأوامر، لم يكن جهويا”.
هنا يتوقف عمي مسعود برهة و يذرف الدموع، تحسرا على بومدين والإنتقادات التي طالته من البعض وهو الذي كان يدافع في سبيل هدف أسمى وهو استرجاع السيادة الوطنية، كان حريصا على عدم إراقة الدم الجزائري بأيادي جزائرية.
ويضيف أنهم بقوا مع بومدين إلى غاية سنة 1962، وأنه رغم الانشقاقات فالفقيد كان يجتمع بهم ويطلب منهم عدم التصويب بالبنادق على الإخوة إلا إذا بادروا هم بذلك، وهذا تفاديا لإقتتال الإخوة وكان يراقب في كل خطوة وكل منطقة، ويجول بالمروحية رفقة ذراعه الأيمن علي منجلي لتفقد عدم حصول ذلك.
واجهت صعوبات في استخراج الوثائق الإدارية
وعن قصة عبارة “شهيد لم يمت”، قال المجاهد نملة أنه تم تجنيده في 10 أكتوبر 1956، لكنه رفض وهرب، فقامت الإدارة الاستعمارية بعملية تمشيط بحثا عنه لإجباره على التجنيد فوقع اشتباك في المنطقة التي كان يقطن فيها، مما أسفر عن مقتل العديد من الأبرياء من النساء والرجال.
بعد العملية أبلغت الإدارة الفرنسية أن جثة المجاهد من بين الضحايا الذين قتلوا، فسجلوا وفاته، لكنها بقيت تبحث عنه إلى غاية سنة 1962، بعدما انقطع خبره وظن الجميع أنه مات فعلا في حين هو متواجد بتونس.
غداة الإستقلال وبعدما قدم عمي مسعود تضحيات كبيرة، من أجل استرجاع السيادة الوطنية، واجه صعوبة في تسوية وضعيته الإدارية بسجل الحالة المدنية، المدون عليها وفاته، ووجد نفسه في رحلة البحث عن شهادة الميلاد.
والى غاية 2017 تمكن من تسويتها نهائيا، ويقول:” في 1963 حين أردت الزواج رفضوا توقيع عقد الزواج، حتى أرغمتهم بالقوة على ذلك، الأمور آنذاك لم تكن منظمة، ولم تكن لهم ثقافة طلب إحضار الشهود”.
ويضيف أنه سنة 1988، حين تقاعد من الجيش الوطني الشعبي، ذهب بحثا عن العمل كون معاشه لا يكفي لإعالة أفراد عائلته، فطلب منه إحضار الوثائق التي رفضت بسبب أنها مسجلة متوفى وواجه صعوبات جمة.
قام بمراسلة وزير العدل آنذاك بن حمودة ورحماني صالح الذي كان رفيق دربه في الكفاح ، بحيث اتصل الوزير ببلدية سطيف لتسوية وضعيته اتجاه الحالة المدنية، لكنه لم يسجل بالقرار.
بحلول عام 2014 عاد كابوس الوثائق يلاحقه من جديد، حين تقدم لمصالح الحالة المدنية لإستخراج شهادة الميلاد الأصلية “أس 12″، قصد الحصول على جواز السفر له ولزوجته لأداء مناسك الحج، وبعد شهر من منحه جواز السفر تم استدعاءه، وأخبروه أنه مسجل ميت وطلبوا منه تسوية الوضعية.
جمدت كل المنح المتعلقة به، وفي الأخير بفضل اجتهاد إحدى العاملات بالبلدية وتفطنها، تمت تسوية وضعيته بعدما أحضر الشهود وأستخرج عقد الميلاد، الذي خلصه من كابوس لازمه منذ الإستقلال.
بالنسبة لذكرى هجومات الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955 ، قال عمي مسعود أن هذه الذكرى مفضلة وعزيزة على قلوب الجزائريين، لأنه برهن بقوة بأن منطقة الأوراس ليست وحدها في تحمل ضغوطات الإحتلال الفرنسي وعبء الثورة، وكل المناطق تؤازرها.
بيان أول نوفمبر 1954 خارطة طريق
أشاد في حديثه ببطولات منطقة الأوراس، قائلا أن أول المجاهدين وأحسن الأبطال انطلقوا من هذه المنطقة ولا ينبغي تقزيم دورها إبان حرب التحرير الوطني وتدوينه في الكتابات التاريخية، وعن مؤتمر الصومام المنعقد في 20 أوت 1956 قال أنه يشكر كل من حضر اجتماع المؤتمر الذي كانت له ايجابيات وسلبيات على حد قوله.
ويضيف أنه حين سمع مجاهدو منطقته بالهجوم كانوا على أهبة الإستعداد وجبهة مرابطة في انتظار ردة فعل الإستعمار الفرنسي العنيفة ليتدخلوا ويدافعوا، عن إخوانهم بمنطقة سكيكدة التي شهدت وقوع مجازر في حق سكانها.
في رده عن سؤالنا حول بيان أول نوفمبر 1954 الذي خطط له وكتبه رجال عظماء، يؤكد أنه يبقى خارطة الطريق الوحيدة التي لا يمكن تعويضها فهو البداية و النهاية، كونه هو من أعطى الأوامر بإطلاق أول رصاصة على الساعة 12 منتصف الليل عبر كل القطر الجزائري.
تأسف المجاهد نملة عن التهميش الذي طال زوجة الشهيد، بجعلها عاملة نظافة في البيوت ، مطالبا بالإحترام ورد الإعتبار للأسرة الثورية التي قدمت تضحيات بالنفس والنفيس لهذا الوطن الغالي في سبيل الإنعتاق والحرية.
بالنسبة لمذكرات بعض المجاهدين التي تفتقد للموضوعية، يقول عمي مسعود أنه مجاهد شارك في الثورة و يعرف دهاليزها من سوق الاثنين إلى غار ديماو و من دشرة إلى دشرة وقرية بقرية رفقة أصدقاءه الذين رحلوا بقي منهم اثنين، لا يمكنه الطعن في مصداقية مجاهد آخر أي كان دون معرفة مسيرته النضالية.
ويضيف:” لا أستطيع الإدعاء عن شخص أنه حركي دون حقائق، خط أحمر بيننا وبين الحركي، هذه مسألة مفروغ منها “.
وعن كتابة مذكراته يؤكد أنه لو يعثر على مؤرخ يتقن منهجية الكتابة التاريخية بكل موضوعي يقدم له شهادته لتدوين مذكراته، ويشير إلى أنه كل يومي الإثنين والخميس يتنقل إلى المتحف الوطني للمجاهد لتسجيل شهادته، عما عايشه إبان حرب التحرير ومشاركته فيها.
ينبغي الكف عن تزييف التاريخ
ويطالب بالكف عن تزييف الحقائق التاريخية من طرف البعض الذي يحضر في بلاطوهات تلفزيونية ويتحدث عن تواريخ وأحداث مزيفة.
ويوضح أن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية طلبت من قيادة الثورة تجنيد أبناء المهاجرين كمجاهدين، حتى ولو التحقوا بالثورة أسبوع قبل وقف إطلاق النار، وعليهم الاعتراف بهم لأنهم شاركوا ولو بالقليل.
غادرنا عمي مسعود، وهو يحثنا على البحث والتقصي عن الحقائق لتدوين ذاكرة الأمة الجزائرية بكل موضوعية، معربا عن استعداده لتقديم أي مساعدة ومنحنا المعلومات وكذا أخذنا إلى المناطق التي ناضل فيها المجاهدون، والمخابئ التي لا يمكن للطائرات أن تصل إليها.