لم يكن رئيسا عاديا، تميز بصفات نادرا ما نجدها لدى رؤساء هذا العصر، منضبط، صارم، قليل الكلام، ينام ساعتين على الأكثر، هو الرئيس الراحل محمد بوخروبة، المكنى هواري بومدين. في هذه المقابلة يثير المجاهد والدبلوماسي السابق محمد مقراني جوانب خفيّة وغير معروفة عن الراحل.
استهلّ المجاهد مقراني في حديث ل «الشعب»، الحديث بتبيان الوسط الذي نشأ وتربى فيه الرئيس الراحل هواري بومدين، فهو ككل الجزائريين المحرومين حرمانا كليا إبان الاستعمار، عاش الفقر، كان طموحا لأقصى درجة، ورغبته الأولى كانت طلب العلم.
بيضتان مسلوقتان ومعلبات لحم البقر..أكلة بومدين
جاء للمدرسة الكتانية قادما من قالمة بمستوى ضعيف جدا، حفظ القرآن الكريم ثم اتجه نحو تونس، لم ينجح في دخول جامع الزيتونة آنذاك، بحكم أن الإلتحاق بالزيتونة يتطلب حفظ 60 حزبا من القرآن الكريم وليس النحو أو الفقه أو الآداب.
قال مقراني: «الظاهر أن بومدين لم يكن يحفظ القرآن، ولهذا رسب في الإمتحان، وبما أنه لا يملك المال سافر من تونس إلى القاهرة مشيا على الأقدام». وأضاف: «أنا ذهبت من تونس العاصمة إلى القاهرة بالسيارة وأعرف جيدا طول المسافة، وأغلبيتها قام بها بومدين راجلا مع شخص آخر. حين وصل إلى القاهرة، وجد أن الدراسة في جامع الأزهر أصعب من جامع الزيتونة تتطلب معرفة الفقه، التوحيد، النحو وغيرها من القواعد، ولذلك لم يستطع بومدين الاستمرار».
يروي محدّثنا أن الشيخ البشير الإبراهيمي رحمة الله عليه، كان يشرف على تدريس الطلبة الجزائريين بالقاهرة، ومنهم بومدين، أدخله بإحدى المدارس الخاصة حتى يصل إلى مستوى ليسانس، لكنه تفاجأ أن بومدين لم تطأ أقدامه هذه المدرسة منذ اليوم الأول، حسب ما أخبره مدير المدرسة. وتبين فيما بعد أن بومدين انضم إلى مكتب جبهة التحرير الوطني بالقاهرة، حيث جُنّد من طرف بن بلة رفقة خمسة جزائريين شباب، لإرسالهم للكلية الحربية المصرية للتدريب، وخضعوا لتدريب عسكري خاص وصارم.
ويضيف مقراني أنّه حين استكمل بومدين التربص بين 1955 و1956، جرى ملء يخت أهدته الملكة دينا زوجة ملك الأردن بالسلاح، وأرسل على متنه الجزائريين الخمسة يرأسهم مسؤول يدعى نذير بوزار، بحكم أن هذا الأخير مثقف، وحين وصول اليخت إلى الناظور استقبلهم عبد الحفيظ بوصوف، مسؤول الولاية الخامسة. وقال إن من بين الجنود الخمسة كان واحد منهم يعامل معاملة خاصة من طرف بوصوف، الذي أحاطه بعناية استثنائية مقارنة بالأربعة الآخرين وهو هواري بومدين، ففي سنة 1956 قام بوصوف بتكوين الدفعة الأولى لسلاح الإشارة وكانت تتطلب تأطيرا.
حريص على نظافة الجنود وساهم في تنظيم جيش عصري لدولة مستقلة
حسب شهادة محدّثنا، لم يكن بوصوف يفارق الدفعة الأولى التي تلقّت تدريبا عسكريا بمصر ليستعملها مستقبلا في تأطير الثورة داخليا وخارجيا، حيث لاحظ عند بومدين صفات وهي الحنكة، العزيمة والإنضباط، قائلا: «أنا أشهد بذلك فبومدين كان منضبطا وصارما، لكنه لم يكن يحضر الإجتماعات». وأكد «بومدين كان يستجيب لكل ما يطلب منه، كان قليل الكلام لكن حين يعطي رأيه يكون سديدا، ولا يمكنك التشكيك فيه، لديه نظرة ثاقبة وهذا ما لاحظته حتى بعد تعيينه رئيسا للجزائر. في سنوات 1956، 1957 و1958 قام بوصوف الذي كان قائد الولاية الخامسة آنذاك بتكوين قيادتين للأركان واحدة على الحدود الغربية، وعلى رأسها هواري بومدين برتبة عقيد، والثانية على الحدود الشرقية يرأسها محمدي السعيد المدعو سي ناصر».
يروي الدبلوماسي السابق أنه في سنة 1959 وصلته رسالة يطلب فيها التحاق العقيد سي ناصر بتونس وتم تعيين شخص آخر مكانه بالنيابة وهو الطاهر زبيري، مما اضطرهم لمغادرة غار ديماو إلى معسكر التدريب بواد ملاق، وعند ذهابه لتقديم التحية وتوديع الرائد المسؤول عنه، التقى لأول مرة بهواري بومدين الذي أصبح مسؤوله فيما بعد وصافحه قائلا: «أنا لا أعرف بومدين سمعت عنه عبر الرسائل التي كنت أستقبلها من قيادة الأركان شرق وغرب، مدوّن عليها اسمه، أخبرني بأنه على الساعة الخامسة مساءً سيجتمع بنا وطلب مني تقديم تقرير عن وضعية الاتصالات وسلاح الإشارة فأعطيته التفاصيل، فطلب مني مواصلة العمل بنفس المنهج».
يشير مقراني أنّه حين يدخل مكتب بومدين يجده دائما حاملا سيجارة وكان شديد التدخين، حيث يقدّم له التحية العسكرية فينظر إليه بومدين دون أن ينطق ببنت شفة، ويعطيه الدفتر للتوقيع ثم يقرأ ما جاء فيه، مضيفا أنّه حين عُيّن بومدين كان معه ثلاثة مساعدين وهم عز الدين زراري، علي منجلي والرائد القايد أحمد المدعو سي سليمان.
مشاعر الرّاحل لم تكن مرئية
يؤكّد محدّثنا أنه لم يشاهد طيلة عمله مع بومدين أنه يبتسم أو يتحدث، كان كتوما عكس علي منجلي والقايد أحمد، عبوس الوجه إمّا تشاهده يكتب أو شارد الذهن في أمور الثورة. وبحسبه، مشاعر بومدين لم تكن مرئية، قائلا: «كانت نافذتي تطل على مكتب بومدين، وكنت أشاهد علي منجلي ومحمد الصغير نقاش يتحدّثون ويتناقشون، لكن بومدين صامت شارد الذهن ولم يكن له أصدقاء، وأتذكّر هنا أنه في أحد المرات جاء تجار جزائريون من أعيان المنطقة في زيارة، استقبلهم علي منجلي والقايد أحمد، لكن بومدين لم يخرج للحديث معهم بقي في مكتبه».
ممّا لاحظه محدّثنا أيضا عن بومدين، هو حين تمّ عقد المجلس الوطني للثورة، خرج يمشي مسافات طويلة ذهابا وإيابا وفي كل مرة يتوقّف، ويخرج دفترا صغيرا وقلما ويكتب ويطيل في الكتابة. وعند الانتهاء يخرج سيجارة، ويضيف مقراني: «كنا نعتقد أنه بصدد كتابة مذكراته».
ويؤكّد مقراني أنّ بومدين بطاقته وكفاءته، نظّم الحدود الشرقية كاملة، حيث كان ينام ساعتين على الأكثر، لا يمكنك معرفة تحرّكاته، عمل على تكوين المناطق بالجهة الغربية منطقة شمال نواحي القالة ومنطقة جنوب نواحي تبسة، وما بين المنطقتين كون كتائب قتالية على رأسها مسؤول وهم مجموعة من الطلبة المتخرجين من الكليات الحربية بالقاهرة، الأردن وبغداد.
وبسبب النقص تم ملئه بالضباط الجزائريين الفارين من الجيش الفرنسي مثل خالد نزار وعبد المجيد علاهم، بعدها تمّ تكوين سرايا الجنود، حيث كان بومدين يسهر على تفقد كل النواحي ويسدي أوامر وتعليمات للمسؤولين، وهكذا أصبح جيش التحرير الوطني الند للند بالحدود الغربية والشرقية، وكان أقوى من العدو.
ويضيف مقراني: «بومدين ساهم في تنظيم جيش عصري لدولة مستقلة، انضباط تام لا تجد جنديا لحيته دون حلق، حريص على نظافة كل الجنود، مما زرع الخوف في قلوب المسؤولين من أن يأتيهم بومدين في زيارة فجائية ويعاقبهم على أي تهاون في تطبيق التعليمات».
وبالنسبة لأكل بومدين، يروي مقراني أنه في أحد المرات أصيب بقرحة سبّبت له أوجاعا، فذهب لطباخ بومدين، هذا الأخير أخبر الرئيس الراحل فأجابه بالقول: «الأكل الذي تقدّمونه لي في العشاء أعطه له، فأخبرني الطباخ أن بومدين أعطى الموافقة لإحضار لك نفس الأكل الذي يتناوله والمتمثل في بيضتين مسلوقتين ومعلبات لحم البقر، والتي كانت تأتي هدية من يوغسلافيا، مع قطعة خبز. هذه هي أكلة بومدين»، مشيرا إلى أن طعام الجنود العاديين يتمثل في العدس أو لوبيا أو معكرونة يتناولونه على الساعة السابعة مساءً.
وحسب شهادة محدّثنا، في بعض الأحيان يسلم بومدين للجنود قطعة من لحم البقر الوحشي الذي يصطاده عبد الرحمان بن سالم من غابة بنواحي القالة مرة كل ثلاثة أشهر.
لم يكن بومدين يُظهر مشاعر الحنان، مشاعره كانت داخلية وغير مرئية، يعامل الناس على قدر من المساواة.
يروي مقراني أن أقارب بومدين كانوا يعملون معهم دون أن يعلموا بذلك، بحكم أن الرئيس الراحل يرفض الوساطة وتفضيل أبناء عمومته عن بقية الجزائريين، ونفس المنهج اتبعه عند توليه حكم البلاد إلى غاية وفاته، فهدفه معين هو استقلال الجزائر وإخراجها من عبودية الاستعمار، وبعد الاستقلال أخرج مشاعره اتجاه الفلاحين البسطاء، ويتحدث معهم بانشراح ويبتسم ويضحك معهم.
ويروي مقراني حادثة لبومدين مع أحد الفلاحين عندما بنى القرى الفلاحية، فسأل أحد الفلاحين: «هل أنت راض عن المنزل الذي سُلّم لك؟»، فأجابه ب «نعم، لكن ينقصني شيء واحد يا سيادة الرئيس وهو تلفاز لو تحقّقه لي ربّي يعطيك حجة، فضحك بومدين كثيرا وطلب من مستشاره عبد المجيد علاهم إحضار التلفاز».
علاقته متينة مع الصّديق الوحيد..
الرئيس الراحل لم يكن له أصدقاء بحسب ما أكّده لنا المجاهد، فعلاقته المتينة كانت مع مسعود زوقار، فعندما كان هذا الأخير يسافر يرفع بومدين سماعة الهاتف للاطمئنان عليه ويسأله عن مكان تواجده. هنا يقول مقراني: «عندما جاء بومدين إلى المغرب سنة 1956 التقى زوقار الذي كان يملك مصنعا للحلوى، كما أن زوقار كان يملك روح الدعابة وينبع حنانا، فاحتضن بومدين وساعده فنشأت بينهما علاقة متينة وحميمية، علاقة الأخ بالأخ». ويضيف: «أخبرني زوقار أنه بعد الإستقلال تواصلت العلاقة بينهما، ولم يفارق بومدين إلى غاية وفاته».
وعن السياسة الخارجية للرئيس الراحل، يذكر محدثنا خطاب بومدين في المؤتمر الإسلامي بلاهور في باكستان، الذي لم يكن روتينيا مثل خطب الرؤساء والملوك الحاضرين، فقد دافع عن الفقراء والمساكين قائلا: «إن المسلم يرفض دخول الجنة وبطنه فارغا»، وهذا ما أثار غضب ملك السعودية فيصل، وتدخّل رئيس دولة فلسطين الراحل ياسر عرفات لترطيب الأجواء، فردّ عليه الملك فيصل: «أبو عمار نحن نقرأ ما بين السطور»، لكن بومدين أفهم الملك فيصل بأن ما كان يقصده هو أن شعوب الدول الإسلامية فقيرة، ولابد من تغيير المنظومة الاقتصادية الدولية وتقاسم الثروات، ومن هنا جاءت فكرته لإنشاء نظام دولي جديد، يضيف مقراني.
وحسب شهادة محدّثنا، أول خرجة للرئيس الراحل كانت سنة 1966 ليوغسلافيا، حيث حاول الرئيس اليوغسلافي جوزيف بروس تيتو إقناع بومدين بتغيير الجو والإستمتاع بوقته في جزيرة بريوني، لكن بومدين رفض وكان ذهنه شاردا وهمه الفلاحين البسطاء..
أرجع هيبة الجزائر الدولية
يؤكد مقراني أنّ هيبة الجزائر في الخارج كانت مصانة بفضل بومدين، وفي فترة حكمه كانت الصرامة والوطنية وكل من تسول له نفسه إيذاء الجزائر أو محاولة الإنقاص من سمعتها، يكون ردّه سريعا، وكان جواز السفر الدبلوماسي له قيمة في الدول، متأسّفا أن الذين أتوا بعده خاصة الذين كانوا مقربين منه لم يسيروا على نفس نهجه وأفعاله، فلو طبّقوا قليلا من سياسة الرئيس الراحل لأصبحت الجزائر الآن تتصدر الدول الكبرى، وبدون مجاعة ولا مشاكل في السكن والنقل.
يقول مقراني: «حسنات الرجل تتحدّث عنه، أتذكّر الإضراب الذي شنّه عمال النقل الحضري وشبه الحضري، فوصل الخبر لبومدين ونزل بنفسه وسويت مشكلتهم، ونفس الحادثة وقعت لعمال الميناء، والأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى من أفعال ومواقف الرجل».
ويروي محدّثنا أنّه حين كان سفيرا في بلغراد سنة 1969، أراد قضاء الشهر الأول من العطلة في الجزائر، فاقتنى سيارة من نوع بيجو 204 وسافر رفقة عائلته عبر الحدود الفرنسية الايطالية، وحين وصل إلى منطقة فانتيني على الحدود الفرنسية كان يظن أن الفرنسيّين ما يزالون حاقدين على الجزائريين، وحضر نفسه للمشاجرة في حالة تعرضه للشتم من طرف الفرنسيين، لكنه تفاجأ بتعامل الجمارك معه بكل احترام وقدّموا له التحية، قائلا: «فسحوا لي الطريق وكأنّي رئيس دولة ركبت الباخرة متوجّها نحو الجزائر، ونفس الحادثة وقعت لي في مطار أورلي بفرنسا فقد سلّموا لي جواز السفر وقالوا لي تفضل أنت في بلدك، لكن بعد وفاة بومدين أصبح جواز السفر الدبلوماسي لا قيمة له، وأصبحنا ننتظر في طوابير للتأشير على جواز السفر».