«مملكة الفلاڤة» هي التسمية الذي أطلقها الجنرال شال؛ القائد العام للقوات المسلحة الإستعمارية بالجزائر على منطقة الميلية، جاء في كتاب «الوقت الضائع» في الفصل الذي يتحدث فيه الكولونيل ترانكي عن مخطط شال، قوله متحدثاً لترانكي: «سأعطيك قيادة المنطقة الأكثر صعوبة في الجزائر،إنّها الميلية».
مات بها الكولونيل ماري الذي كان يحكمها على بعد 100 متر من المدينة، إنّه ثاني كولونيل يقتل في المنطقة (الميلية)، بالإضافة إلى اثنين من متصرّفي المنطقة قتلا في مكتبهما، في العام الماضي قمنا بعملية استلزمت مجموعات كاملة لم نحصل خلال أيام عديدة إلا على بندقية صيد، شيء مضحك ومؤسف في نفس الوقت، هذا ما لا أريده أن يتكرر. الميلية…إنّها مملكة الفلاڤة، هنا أريد أن أنهي الحرب، عندما تتغلّب على تلك المنطقة عند ذلك ستنتهي الحرب…».
من خلال كلام الجنرال شال يتّضح الدور الكبير الذي لعبته منطقة «الميلية» أثناء ثورة التحرير المباركة إلى درجة أنّه يربط انتهاء الحرب بالقضاء على منطقة الميلية.
في هذا السياق، تأتي شهادة المجاهد عمر شيدخ العيدوني لتكشف النقاب عن جوانب من الكفاح الثوري بمنطقة الميلية، وتقدّم صورة وافية عن وقائع ثورة التحرير المباركة في الولاية الثانية، وتكتسي شهادته أهمية خاصة.
فالرجل أحد أبرز المناضلين الذين شاركوا في الحركة الوطنية، وعمره لا يتجاوز سبع عشرة سنة،وعند اندلاع ثورة التحرير المباركة كان في قلب أحداثها، لما أسند إليه من أدوار هامة على مستوى منطقته.
إنّ كتاب «مملكة الفلاڤة» يعتبر شهادة ثمينة عن تاريخ الثورة التحريرية المباركة بالولاية الثانية،بما يحتويه من معلومات عن الحركة الوطنية الجزائرية، والثورة التحريرية بمنطقة الميلية، وقد وصف الأستاذ الإعلامي بلال بوجعدار هذا الكتاب في تقديمه له بأنّه: «وصف دقيق لمنطقة كانت دائما في قلب الأحداث، وكانت دائما في مقدمة الذين رفعوا لواء الجهاد ضد قوى الإستكبار، ودفعت في سبيل ذلك أثمانا باهظة».
هذا المؤلف أول كتاب وأهم كتاب يروي الحكاية من البداية حتى النهاية، حكاية ثورة التحرير المباركة في أولاد عيدون، الميلية حاليا، يعيد الأمور إلى نصابها، ويضع الأحداث في سياقها، ويكشف لأول مرة حقائق مثيرة عن تاريخ الكفاح في المنطقة، التي ظلت سجينة الصدور أو دفينة القبور أو هكذا أريد لها أن تكون.
مملكة الفلاڤة، ليس كتابا في التاريخ يرجع إليه، وليس دراسة أكاديمية تقدم معرفة علمية خالصة، وليست مذكرات شخصية تجعل من صاحبها بطلا قوميا حوله تتمحور الأحداث منه تبدأ وإليه تنتهي،ولكنه شهادة عن الوقائع مثلما عاشها صاحبها، ورواية لتفاصيل هامة حول تعقيدات العمل الثوري في أولاد عيدون، وتشابك أدوار الفاعلين فيه، وتداخل المحلي بالوطني، وتمازج الجزئي بالكلي، وتكامل الفرعي والأصلي، حماية للتاريخ من التشويه وصيانة للحقيقة من التيه.
إنّه توثيق شامل لما حدث في أولاد عيدون منذ نضالات الحركة الوطنية وامتداداتها، مرورا بلحظة التفجير الأولى وإرهاصاتها، هي محاولة لإخراج أولاد عيدون من عزلة ارتضتها لنفسها، أو فرضت عليها من طرف غيرها، ومحاولة لإرجاع الحق إلى أصحابه، حتى يعرف الناس أهل السبق والصدق، لأنّهم راحوا ضحية مواقفهم الرجولية وقراراتهم البطولية، فالحقيقة ليست دائما مثلما تبدو، أو كما أريد لها أن تكون.
الكتاب هو شهادة المجاهد عمر شيدخ عن الأحداث بمنطقة أولاد عيدون (الولاية الثانية المنطقة الثانية الناحية الأولى «221»)، بصفته صانعا لبعض من تفاصيلها، مشاركا في كثير من أجزائها، قريبا من عديد رجالاتها وأبطالها، يرويها مثلما عاشها.
لا يرجو من وراء ذلك غير تبيان الحقيقة التاريخية وحدها، ليعرف الجميع عظمة هذه المنطقة، وعظمة رجالها ونسائها، ولم يكن هذا الأمر هينا عليه لما قد يثيره من حزازات وما يخّلفه من هزات، فالجراح بعد لم تندمل، والبناء بعد لم يكتمل، والإقتراب من أرض فيها الكثير من الألغام مغامرة كبرى، ولا عاصم من هذه القواصم غير نية صادقة وغاية نبيلة وصبر جميل.
مملكة الفلاڤة، رسالة رجل التفجير والتحرير إلى جيل البناء والتعمير، ليواصل المعركة بعزم وثبات، فعدوّ الأمس مازال متربّصا وإن بدّل جلده وأسلوبه، ولن يغفر أبدا للأجيال الحاضرة والآتية ما فعل به الأوّلون، فليأخذوا حذرهم وليحموا مكتسباتهم، وليعدّوا ما استطاعوا من قوة، فالحرب سجال وأبدا لن تنتهي.
قدّم المؤلف لمحة تاريخية عن الحراك السياسي بمنطقة «أولاد عيدون» قبل الثورة، فأشار إلى أن المنطقة عاشت حراكاً سياسياً شكلته ثلاثة كيانات كبيرة، ورسمت معالمه حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية، أحباب البيان وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
من الأسماء الكبيرة التي كانت تعمل في صفوف الحركة الوطنية، وقادت فيما بعد العمل الثوري في أولاد عيدون ذكر المجاهد عمر شيدخ العيدوني: مسعود شعراوي، مسقالجي علي، سعد زعيمش المدعو مصطفى، العربي لحمر، زيدان أرزور، بوشريط عبد القادر، علي بوشريط، عيسى أوصيف، بولعيد محزم، علي بوعرورة، أحمد زويكري المدعو بلحملاوي، محمود لبصير، مسعود بوعلي، عبد الله لبصي، عمار حمودة وغيرهم.
الـمجاهد العيدوني يروي شهادته عن ثورة التّحرير بالولاية الثانية
تطرّق المؤلف إلى عمليات التاسع من ماي 1955م و20 أوت، ففي التاسع من ماي «فاجأ المجاهدون العدو بعملية كبرى شملت دوار أولاد قاسم ودوار أولاد دياب، حيث قاموا بقطع أعمدة الكهرباء وخطوط الهاتف، وأشجار البلوط من منطقة زاهر حتى جسر احزوزاين، ومن جسر بوسيابة حتى حدود القل، و نسفوا الجسور من بينها جسر بوسيابة.
وخرّبوا الطريق الرابط بين أولاد عيدون والقل، ونصبوا العديد من الكمائن على امتداد الطرق الرابطة بين أولاد عيدون، سكيكدة، أولاد قاسم، كاتينة (السّطارة حاليا)، وعلى هذا الطريق تمكّن المجاهدون من الإيقاع بقوة استعمارية كبيرة، وكبّدوها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.
وقد اعترف المستعمر بمقتل ثلاثة من جنوده وجرح اثنين، لكن حسب المجاهدين فإنّ عدد القتلى يفوق ذلك بكثير، وعلى إثر هذه العملية النوعية زار جاك سوستيل الوالي العام في الجزائر المنطقة، ووصل حتى مكان الكمين، واعترف بصعوبة القضاء على الثورة في مثل هذه التضاريس الصعبة، وبعد هجومات 09 ماي بأولاد عيدون رجّحت كفة الثورة والثوار.
وقد تحدّثت حينها وسائل الإعلام العالمية عن هذه الهجومات بإسهاب كبير، وفي 20 أوت قتل عدد كبير من العسكريين الفرنسيين والمعمرين،وفي يوم 22 أوت بمنطقة أولاد عيدون تلقى المستعمر ضربة قاسية، حيث قُتل الحاكم العسكري لأولاد عيدون المدعو«رينو»، وهو برتبة عقيد، كولونيل في منطقة أودادن.
ويشير المؤلف إلى أنّ هذه الضربة القاسمة أصبحت حديث الصحافة العالمية بأسرها، فلم يكن أحد يتصوّر مقدرة الثوار على الوصول إلى الحاكم رمز الهيمنة الإستعمارية ودليل هيبتها وحامي دولتها، وبعد انتهاء هذه الهجمات قال زيغود يوسف: «إنّ الثورة نجحت في سكيكدة نجاحا سياسيا، ونجحت في أولاد عيدون نجاحا سياسيا، وعسكريا».
مجازر مروعة في حق المدنيين
كشف المؤلف النقاب عن أخطر المجازر التي وقعت بالمنطقة، فذكر أن منطقة سطارة مثلاً، والتي كانت منطقة محرمة لجأ سكانها من الترويع، والجوع إلى الجبال القريبة، واحتموا بالمجاهدين وأصبحوا يعيشون معهم، حوصرت من قبل الجيش الفرنسي، ومع هذا الحصار دخل المجاهدون «في اشتباك كبير دام يومين كاملين استشهد فيهما أزيد من 500 شهيد بين مجاهدين، ومدنيين بسطاء من أطفال ونساء وشيوخ ما تزال عظامهم متناثرة حتى الآن بين بني صبيح وبني تليلان».
وفي المكان المسمى تامدور، قام جيش الإستعمار بإبادة أزيد من 30 مواطنا أغلبهم من الشيوخ، وفي قرية الدردار قام جيش الإحتلال بإبادة رجال المنطقة عن بكرة أبيهم فلم يدع منهم أحدا، إلا وقتله وكان ذلك في رمضان قبل الإفطار بحوالي ساعة، وفي مشتة الدرامة أبيد أكثر من 95 شخصا على عدة مرات، أكثرهم من المدنيين العزل، ومنهم بعض المجاهدين على رأسهم بودرمين أحمد بن لبجاوي.
يقول المؤلف إنّ: «من أكبر الأحداث التي مازلت أذكرها وتؤلمني إلى يومنا هذا قصة الطفلة الرضيعة ذات العشرة شهور؛ حيث طوق الإستعمار منطقة بني فرقان، وكانت في حضن أمها وأبيها المجاهد عيسى لكحل، كانت الرضيعة تبكي من شدة الألم والوجع، فاشتد الحصار بالمنطقة وكي لا يكشفهم العدو الغاشم قام أبوها بوضع يده على فمها كي لا يسمع العدو صراخها فماتت، ضحى بفلذة كبده لحماية أكثر من 200 شخص».
من أهم المعارك التي تحدث عنها المؤلف معركة زكرانة الحاسمة التي وقعت في 13 أفريل 1957م، دامت يوما كاملا، وكان القتال ضاريا، وأسفرت عن قتل أكثر من100 جندي من بينهم ضباط كبار، والذي قام بهذه العملية جيش الناحية الأولى، والثانية بقيادة المدعو ميلاط، ورابح جوامع، وعمار ڤـوڤـة.
وفي سيدي معروف، وبقيادة قنيدرة وقعت معركة كبيرة دامت يوما كاملا أسقطت فيها طائرة حربية، والكثير من الجنود الفرنسيين، و وقعت معركة أخرى بمنطقة لعروسة ببني يفتح بقيادة المجاهد اعمر قرفي، وأباد فيها أزيد من 70 عسكريا فرنسيا، حسب شهادة المجاهد محمد شباط المدعو حيمود.