محمد الصديق بن يحيى شهيد الدبلوماسية الجزائرية ومهندس إتفاقيات إيفيان، لقبته جريدة “باري ماتش” بـ”ثعلب الصحراء” لما أظهره من قدرة على الجدل والإقناع.
هو واحد من الدبلوماسيين القلائل الذين أنجبتهم الجزائر.
شهيد الدبلوماسية
قال عنه الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد :”لو كان لي 6 أشخاص مثل بن يحيى لجعلت من الجزائر قوة إقليمية”، واصفا فقدان وزير خارجيته بأنه خسارة لذراعه الأيمن، وقال عنه رضا مالك السياسي المحنك، أما رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي اللبناني وليد جنبلاط فوصفه بالرجل المتواضع يمثل دولة رصينة.
ولد محمد الصديق بن يحيى بشارع سي الحواس بقلب مدينة جيجل،بتاريخ 30 جانفي 1932، تحصل على شهادة الليسانس في الحقوق بجامعة الجزائر، شارك وهو شاب في المفاوضات الجزائرية الفرنسية سنة 1960.
يقول عنه ابن عمه أنه كان يجالس الكبار بإحدى مقاهي جيجل ويستمع لحديثهم ليتعلم منهم، كان عمه يناديه محمد الوطني، لمواقفه الثابتة وذكاءه الخارق، كان متطوعا من أجل القضايا الإنسانية في العالم.
وفي شهادة لرفيقه المرحوم زهير احدادن أن محمد الصديق بن يحيى كان مثقفا وذكيا له تكوين سياسي وقانوني، على دراية بالفكر الفرنسي وخفايا السياسة الفرنسية، شديد الإخلاص لوطنه، كانت له قدرة للإستماع للجميع والقيام بحوصلة ليستخرج الرأي السديد الذي يرضي الجميع.
مسار الفقيد حافل بالإنجازات عايش كل مراحل الثورة حتى الإستقلال، ترأس الوفد الجزائري المفاوض في مولان، نجح في تحرير الرهائن الأمريكيين الـ52 الذين كانوا محتجزين في السفارة الأمريكية بطهران لمدة 444 يوما سنة 1981، حيث نزل الرهائن بالجزائر في 20 جانفي 1981.
بعد الإستقلال عين وزيرا للخارجية عام 1979 إلى غاية وفاته، وعضو المكتب السياسي، قبل الثورة انضم إلى حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية عام 1951، انسحب منها لكنه بقي متصل بمناضلي الحزب، شارك في تأسيس الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين سنة 1955 رفقة أحمد طالب الإبراهيمي ولمين خان.
كان من المنظمين لإضراب الطلبة الجزائريين عن الدراسة وإلتحاقهم بصفوف جبهة التحرير الوطني يوم 19 ماي 1956، قام بتمثيل جبهة التحرير الوطني في مؤتمر الشباب المنعقد بباندونغ سنة 1956، عين عضوا في المجلس الوطني للثورة، عضوا في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية سنة 1960، ثم مديرا للديوان برئاسة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية عام 1960.
“ثعلب الصحراء”
شارك في المفاوضات الجزائرية الفرنسية خلال الفترة 1960 – 1962، وأدى دورا كبيرا في التأثير على مسارها، وقد أعجبت بحنكته الشخصيات الفرنسية المشاركة في المفاوضات حتى لقبته صحيفة باري ماتش الفرنسية بثعلب الصحراء، لما أظهره من قدرة على الجدل والإقناع.
كان يراجع قراءة محاورات اتفاقيات إيفيان ويعيد تصحيحها لينير الطاقم الذي حاور المستعمر من أجل إسترجاع حقوق الجزائريين قبل وبعد الإستقلال، كان يعرف بنود الإتفاقية جيدا كونه ساهم فيها بجزء كبير، وفي صياغة نصوصها.
عين سفيرا بموسكو، لندن، ووزيرا للإعلام في 22 أكتوبر 1966، وفي 22 جويلية 1970 وزيرا للتعليم العالي، كان أول منظم لمهرجان إفريقيا عام 1968، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي من 1971 حتى 1977، وزير المالية من 1977 حتى 1979.
نجا من محاولة إغتيال في حادث طائرة في 30 ماي 1981 في باماكو بمالي، كانت له مهمة إلى بوركينافاسو حول الصحراء الغربية، وقد استقل طائرة خاصة تابعة لرئاسة الجمهورية من نوع “ميستر 20” ،وعند الرجوع من بوركينافاسو تعرضت الطائرة لحادث على مستوى مطار باماكو بينما كانت تهم بالهبوط، كان الجو ممطرا جدا فنزلت الطائرة قبل أن تصل إلى رواق المطار.
عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، كلفه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد بإجراء وساطة بين البلدين لإنهاء الحرب بينهما، وذلك نظرا لرعاية الجزائر للإتفاق الحدودي بين العراق وإيران الذي وقعه صدام حسين مع شاه إيران في الجزائر سنة 1975.
بدأ بن يحيى وساطته بين البلدين عبر رحلات مكوكية شملت طهران وبغداد وغيرها، وخلال رحلته في 3 ماي 1982 أعلن مقتله رفقة ثمانية من مساعديه وصحفي وطاقم الطائرة الرئاسية غرومان غولفستريم ، وذلك في تفجير استهدف أثناء عبورها الأجواء بين العراق وتركيا وسقطت داخل الأراضي الإيرانية.
شكلت لجنة تحقيق يرأسها آنذاك المجاهد صالح قوجيل، انتقلت إلى موقع الحادث، وعثرت على بقايا صاروخ جو-جو استخدم في ضرب الطائرة، وبعد البحث تبين أن هذا الصاروخ من ضمن طلبية سلاح روسي تسلمتها العراق، وتملك الجزائر الرقم التسلسلسي لهذا الصاروخ، بالتحديد ينتمي للقوات الجوية العراقية.
غير أن العديد من المصادر اختلفت في تفسير هذا الحادث، هل كان قصفا متعمدا من أجل إسقاط الطائرة نظرا لعدم رغبة صدام لإتمام عملية الوساطة أو وقع بالخطأ بإعتبار أن الأجواء التي كانت مخيمة على المنطقة هي أجواء حرب، سقطت الطائرة على مسافة 50 كلم من الحدود بين تركيا والعراق.
هل المستفيدين من بقاء الحرب بين إيران والعراق هم من أسقطوا الطائرة؟ تساؤلات عديدة راح ضحيتها بن يحيى.
من التلاميذ النابغين
وفي شهادة للمجاهد والدبلوماسي الأسبق صالح بلقبي أن محمد الصديق بن يحي كان من التلاميذ النابغين في الطور المتوسط والتعليم العالي، ويشير إلى أن الفقيد كان من أقاربه عن طريق الأم واكتشف ذلك صدفة .
ويضيف:” كنا ندرس معا في الجامعة المركزية، فالشهيد كان يدرس حقوق أما أنا فكنت في شعبة الأدب العربي، حيث لم تكن في الجزائر إبان الإستعمار إلا جامعة واحدة، وكان بها عدد قليل جدا من الطلبة الجزائريين لا يتجاوزون 400 طالب من مجموع 5 آلاف طالب في جميع المجالات آنذاك”.
ويقول أيضا:” نظرا إلى الحاجة لتمويل دراستهم اشتغل أغلب الطلبة كحراس في الثانويات، يأتون للجامعة لحضور الدروس الهامة والأساسية، وكان من بينهم محمد الصديق بن يحي الذي كان يشتغل كمحامي متربص عند محامي بالعاصمة من جنسية أوروبية وفي نفس الوقت يتابع دراسته بالجامعة”.
وبحسب شهادة بلقبي فإن الشهيد كان ينتمي لحزب الشعب الجزائري الذي سمي فيما بعد بحركة إنتصار الحريات الديمقراطية، ولهذا كان من الأشخاص المؤهلين للإتصال بالمسجونين في أول نوفمبر 1954 ، وهم المناضلين الذين استنطقتهم الشرطة الفرنسية في ظروف استثنائية، ومنهم من قتل ورمي في البحر بعد التعذيب .
ويبرز السفير الأسبق أن بن يحيى كان من المحامين الجزائريين القلائل الذين يملكون وسيلة ليكونوا في إتصال مع المناضلين لإنقاذهم من الموت وإيداعهم سجن سركاجي، قائلا :” كان المحكوم عليهم محرومين لا يمكنهم الكلام، تعطى لهم قطع من أقمشتهم أو لباسهم تكتب بدمهم أسماء الذين ذكرتهم الشرطة الفرنسية في الإستنطاق “.
بوحوش: أول من فكر في النظام الأمريكي للتعليم
يصف الأستاذ الجامعي الدكتور عمار بوحوش، محمد الصديق بن يحيى بعبقري زمانه يتمتع بذكاء خارق ويحسن المخاطبة ، غير متحزب وطني حتى النخاع، و من الطلبة المؤسسين للإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين درس الحقوق.
ويقول في تصريح لذاكرة الشعب :” المرحوم لديه شخصية فريدة من نوعها لا يعرف إبراز إنجازاته والإشهار بها كان نزيها لا يترك أقاربه يستفيدون من المزايا في الدولة ، عملت معه في الرئاسة يتناقش مع الجميع ويشاورهم، لكنه في الأخير يأخذ برأيه السديد”، ويشير إلى أن الميزة السيئة في الرجل هو كثرة التدخين.
يتذكر بوحوش انه في إحدى المرات كان في إجتماع مع عميد كلية الحقوق بعد الإستقلال أحمد محيو الذي كان يحبه كثيرا، فقال له محيو :”من كثرة ذكاءك سوف تفقد بوصلتلك “.
ويضيف محدثنا :” محمد الصديق بن يحيى كان أول من فكر في إعتماد النظام الأمريكي في التعليم يسمى السميستريالي عندما كان وزيرا للتعليم العالي، وآنذاك مستحيل الحديث عن هذا النظام في الجزائر، رفض إقتراحي بإعتماد العلوم الإدارية بحكم وجود المدرسة العليا للإدارة وليس من الممكن إنشاء مدرستين بنفس التخصص في الجامعة “.
ويشير إلى أنه ثلاث ساعات اجتماع في الرئاسة مع بن يحيى، وفي الأخير قرر وضع علوم التنظيم، وطلب منه وضع المواد وتنشيطه قائلا له :” موضوعي أقوى من موضوعك، ثم غير تسمية كلية الحقوق بالعلوم الإدارية والقانونية “.
وبحسب شهادة بوحوش فإن الفقيد ليس إنسانا قاصرا يفعل ما يقال له، كان يتبع النظام الأمريكي المرتكز على التشاور ومعرفة كل الآراء ثم يأخذ بالرأي الصائب الذي يقتنع به ويراه الأنسب، ويضيف أن المرحوم لم يكن يخاف لا من بومدين ولا من الطلبة ولا حتى الأساتذة.
ويروي بوحوش حادثة وقعت له مع الفقيد عام 1975 عندما كان يشتغل بالرئاسة وأراد العودة للتدريس ، لكن محمد الصديق بن يحيى رفض طلبه لأن هناك تعليمة فرنسية قديمة تنص على أن من يملك شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية والقانون لا تسمح له بممارسة نشاط أستاذ محاضر يجب عليه المرور عبر la gregation، فقط الذين لديهم دكتوراه في تخصص التاريخ أو العلوم من يسمح لهم بالتدريس.
ورغم أن محدثنا قدم شكوى ثلاث مرات على التوالي، إلا أن محمد الصديق بن يحيى رفض مساعدته بالقول :”لو ساعدتك سيتهمونني بأنني أدعم إبن منطقتي “، ما دفع بوحوش للإتصال بالسفير الأسبق المرحوم محمد صالح دمبري الذي كان أحد طلبته لدراسة الموضوع وعرضه على مدير الوظيف العمومي آنذاك عبد الكريم حساني.
هذا الأخير أنصف بوحوش طلب من مدير الدراسات بوزارة التعليم العالي مراد بن أشنهو بالتعامل على قدر من المساواة مع كل من يحمل شهادة الدكتوراه وتطبيق القانون الجزائري الذي يتناسب معنا وليس الفرنسي، ونفذ القرار وألغيت التعليمة الفرنسية وإستفاد بوحوش من منصب أستاذ محاضر بالجامعة بفضل دمبري وحساني.