يجهل كثيرون جوانب من حياة الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، منها اهتمامه بالطب وسياسته العلاجية وإنشاء مستشفيات في المناطق الكبرى.
هذا ما تكشفه دراسة قيّمة للبروفيسور مصطفى خياطي، صدرت عام 2013 في كتاب بعنوان: «الطب والأطباء في دولة الأمير عبد القادر»، معتمدا فيها على مراجع منها مذكرات الأمير عبد القادر المكتوبة في السجن عام 1849 والمجلة الإفريقية العدد 28 لسنة 1884، وكتاب واغنر «انطباعات لمسافر ألماني في منطقة وهران»، مارس 1838.
كان الأمير مولعا بالعلوم ولم يكن يتردد في استدعاء الأطباء الأجانب عندما يكون ذلك ضروريا، للعمل في إقليمه، فلطالما احتفظ بمشاعر العرفان للأطباء الذين عالجوه.
وبحسب الدراسة المذكورة، أول طبيب فرنسي عرفه الأمير هو الدكتور كولين رئيس الأطباء في الحامية العسكرية بوهران، فبعد أن وقع الجنرال دي ميشال المعاهدة التي تحمل اسمه أرسل سفارة يقودها قائد السرية عبد الله دابسون مسيحي سوري جاء إلى فرنسا مع الجيش المصري.
استقبل الأمير مجموعة من الأطباء، سنة 1835، بطلب منه أثناء انتشار عدوى الكوليرا، التي مسّت غرب البلاد وكان المرسى الكبير ووهران نقطة الانطلاق. ومن بين الزوار الذين قدموا إلى معسكر والتقاهم الأمير، الدكتور بوديشون، فقد اهتم الأمير كثيرا بأبحاثه في استعمالاته للأعشاب والحشرات والأحجار.
ومن أكثر الأطباء الذين تقربوا من الأمير نجد الدكتور وارنيي، جراح مساعد في مستشفى وهران، عام 1832 وعضو مساعد في اللجنة العلمية للجزائر في 1839، جاء إلى معسكر بعد توقيع معاهدة تافنة، بصفته طبيبا عسكريا ملحقا بالقنصلية الفرنسية بمعسكر.
ونجد أيضا الدكتور كاباس والدكتور لاري رئيس جراحين سابقين في جيش نابليون، بحسب ما يرويه الدكتور برتراند في إحدى مقالات نشرية الجزائر، العدد الأول نوفمبر 1855.
كان الأمير واعيا بالتأخر المسجل في قطاع الصحة، فرغم ضيق وقت السلم الذي استفاد منه حاول إدخال بعض التحسينات وتجديد هذا القطاع، كما فعل مع قطاعات أخرى مثل صناعة الأسلحة، البنك وتنظيم المدفعية، حيث قننت المادة 24 من القانون السابع التكفل بالمرضى، وتكوين الأطباء والطاقم شبه الطبي وكذلك مرتباتهم، أولى الأمير عبد القادر عناية خاصة بالصحة، وكان يعتبر المهارة الطبية كفن ذو منهل إلهي مثلما كان يدرسه أشهر الأطباء الإغريق.
بالنسبة له إن إمتلاك نظام صحي ناجح لم يكن نابعا من مقتضيات فرضتها الحرب والحاجة الملحة لمعالجة العساكر المصابين.. ولكن في الواقع يعود إلى فريضة دينية، إلى جانب المستشفى بيمارستان الذي أقامه في كل ولاية من ولايات البلاد الثمانية.
مستوصفات بحصون مشيّدة على حواف التلال
افتتح الأمير أيضا مستوصفات بالحصون المشيدة على حافة التلال، وقد كان النظام الصحي للأمير يهدف إلى تأمين العلاج للمرضى والجرحى، وكان يشترط أن يكون المعالجون موقرين ومنضبطين اتجاه المرضى، فالأمر كان يتعلق مسبقا بأخلاقيات مهنة الطب.
لم يتوقف مشروع الأمير الصحي عند هذا الحد فمن جهة أخرى كانت لديه النية لبناء مدارس للطب، وكانت تاقدامت قد بدأت في استقبال النواة الأولى للمكتبة الكبيرة التي ستستضيف أول مدرسة طب.
تفاجأ الدكتور برتراند مؤلف كتاب «الطب والعادات الصحية للعرب»، والذي كان أول مدير لمدرسة الجزائر للطب، من النظام الصحي الذي وضعه الأمير ومخططه بتنظيم أطباء الجنود، حيث وضع القانون السابع وسن فيه منصب طبيب جراح على رأس كل الهيئات والمصالح الصحية، يشتمل المعارف اللازمة ويستوفي كل الشروط لشغل منصبه.
ونص هذا القانون على أن تضع الدولة المعدات الصحية والأدوية أو الصيدليات تحت تصرف الأطباء، واستند خياطي في دراسته على كتاب برتيرلند بعنوان «الطب والعادات الصحية للعرب».
بين هذا القانون في مادته 24 كيفية التكفل بالجرحى والمرضى من الجنود، كما أنشأ القانون سلك الممرضين الذين يتعين عليهم مساعدة الأطباء، فقد خلق جسرا بين التكوين الطبي وشبه الطبي وسمح للمرضين المتفوقين بإتباع تكوين يمكنهم من الإرتقاء إلى أطباء.
من ناحية أخرى كان الأمير يكن احتراما كبيرا للأطباء وإرشاداتهم، وأقرت العديد من الشهادات بالاحترام الذي أحاط به الأطباء الذين قاموا بزيارته مثل الدكتور كولن سنة 1835، والدكتور بوديشون سنة 1838، والإحترام الذي حظي به الدكتور ورانيي من طرف الأمير ومن طرف عائلته ومن طرف سكان معسكر رغم فشله في إنقاذ حياة ابن الأمير الوحيد.
في الكثير من المناسبات، قدم الأمير إسعافات أوّلية للجرحى، بعد انتصاره على لامورسيار في تاقدامت، كما مارس الطب البديل والحقائق التي ذكرها ليون روش الذي عايش الأمير لمدة سنتين تسمح بتأكيد ذلك، كذلك أشرفت لالا زهرة، والدة الأمير، بنفسها على علاج الجرحى العرب والأسرى على حد سواء، وكلفها الأمير بمعالجة السجينات، كما قامت بنفس الشيء أثناء أحداث دمشق، حيث قامت بتضميد إصابات الضحايا.
ومن قبل كانت قد طلبت من القنصل الفرنسي بمعسكر أن يوفر لها قفازات وجوارب لتتجنب التشققات التي كانت تصيبها في فترات البرد، وهذا دليل على تفتحها على العصرنة واهتمامها باللجوء إلى الوسائل الجديدة لكبح الأمراض، فكانت أول من ارتدى قفازات من الصوف البيضاء لتفادي التشققات والتي نصحها بها طبيب فرنسي وأرسلت لها من وهران أثناء هدنة 1837-1838، ولم تكن امرأة ريفية مثلها تجرأ على فعل ذلك.
السياسة العلاجية للأمير
وفي شق السياسة العلاجية للأمير عبد القادر فلم تسمح الحرب للأمير بإقامة أو إكمال سياسته الصحية عبر إنشاء مدرسة للطب والتي لطالما كانت ضمن رغباته، وبحسب ما ذكره برونو ايتيان، فقد حاول الأمير وضع أسس لنظام علاجي في شكل بنى تحتية ثابتة في المدن والحظائر المشيدة، وفي هيئة وحدات متنقلة على مستوى الحاميات العسكرية
وكذلك في الزمالة، كما أسس فرقا طبية ومصحات في كل مكان. وأضاف أن السياسة العلاجية للأمير ارتكزت على سبعة مبادئ، وهي وضع سياسة وقائية وصحية للمحيط.
وتجسدت هذه السياسة من خلال محاربة الآفات الاجتماعية كالتبغ، الكحول، الدعارة وألعاب الحظ، بناء مستشفيات لاستقبال المرضى والجرحى العسكريين والمدنيين، وانتقاء الموظفين ليؤمنوا العلاج في المراكز الصحية على أساس مبادئ أخلاقية، تربوية، وبدنية وتكفل الدولة بالأطباء، الجراحين والموظفين بالصحة.
علاوة على التحسين المتواصل لمعارف الموظفين المساعدين للأطباء والجراحين، إقامة ورشات لصناعة الأدوية، انطلاقا من الأعشاب على مستوى رؤساء الأطباء، وضع نظام تأمين اجتماعي يسمح بالتكفل بالأشخاص الذين لا يقومون بالخدمة الفعلية مؤقتا بسبب المرض أو الإصابات الحربية أو المعفيين وكانت تمنح تعويضات لهؤلاء الأشخاص، الدعوة إلى التعاون في حالة لم تسمح الوسائل المحلية بحل المشاكل الصحية، مثلما كان عليه الحال أثناء غزو القليعة، سنة 1835، كان النظام الصحي تحت مسؤولية عبد الله الزروالي، الطبيب الشخصي للأمير.
مستشفيات في ثماني مناطق كبرى
أول عمل قام به الأمير في ميدان الصحة هو إقامة مرافق صحية، وتحدث نجل الأمير في مؤلفه «تحفة الزائر» عن إنشاء مستشفى في كل المناطق الثمانية الكبرى وهي تلمسان، معسكر، مليانة، المدية، تاقدامت، الأغواط، سباعو وبسكرة، وكذلك تم تنظيم مستشفى في بوغار والزمالة، كانت هذه المستشفيات تستقبل المدنيين أكثر من العسكريين، وفي الزمالة التي كانت عبارة عن معسكر من الخيام كان المستشفى وخيمة الأطباء والجراح الرئيسي في مدخل المخيم بجوار خيمة قائد المدفعية.
في تلك الفترة كان يتواجد عدد هائل من الأطباء التقليديين، في كل مستشفى تم تعيين أربعة من بين أفضل الأطباء، كان توظيف الممرضين يستجيب لمجموعة من المعايير وهي الذكاء، الأدب، المظهر الجيد والهدوء، كان الطبيب الرئيس يتلقى من بيت المال بدلة كاملة و12 ريال شهريا، ربع خروف كل اثنين وخميس، رغيفين أبيضين كل يوم أوكيلتين من الدقيق، كيلتين من الكسكسي، الزبدة أو الزيت في حالة عدم توفر الزبدة وأخيار ثلاثة أرطال من الحطب يوميا، كان الممرضون أيضا يتلقون راتبا شهريا من بيت المال والذي كان يتوقف على خبرتهم.
في المقابل وضعت صيدليات على مستوى جميع المؤسسات الصحية وكان أغلبية الأطباء في تلك الفترة علماء طبيعة، فكانوا يشرفون بأنفسهم على تحضير الأدوية انطلاقا من الأعشاب ومواد أخرى متوفرة تجاريا كالعسل والزبدة.
في كل كتيبة كان يمارس طبيب واحد أو اثنان مهامهم تحت إشراف باش جراح، بحسب ما أشارت إليه مذكرات الأمير عبد القادر المكتوبة في السجن سنة 1849.
كانت النظافة إحدى انشغالات الأمير، كما كان اهتمامه بالصحة راسخا بحسب ما جاء في المادة 24 من القانون السابع. حيث ينقل الجنود المرضى إلى بيوت يعينها المرشد والسلطان، أين سيجدون العلاج الذي تتطلبه حالتهم وسيجدون المأكل والمشرب والمرقد والغطاء، وسيكون هناك عساكر لخدمة المرضى يطلق عليهم تسمية صناع وهم ممرضون أو طلبة في الطب، يجب أن يكونوا أذكياء بشوشين مع المرضى محترمين وذوي همة.
ويتوجب عليهم دراسة الطب، وعندما يرى الجراحون أنهم قادرون بما فيه الكفاية على ممارسة مهنتهم سيتم تنصيبهم من طرف السلطان، وسيمارسون هذه المهام في الحاميات العسكرية كما في الجبال، رواتبهم وغذائهم وشرابهم تقدم لهم من طرف الحكومة.
أدت وضعية الحرب المفروضة على الأمير من تدمير لمدن معسكر وتاقدامت وتشتيت وثائق الزمالة إلى الإخفاء الأبدي للكثير من التفاصيل عن حياة الرجال الذين كانوا يحيطون بالأمير، كان هناك على الأقل أربعون طبيبا يعملون تحت إمرة عبد الله الزروالي، إضافة إلى الأطباء الذين يعملون في المستشفى، وكان هناك أطباء وجراحون آخرون يتبعون الجند، وكان الضابط ريتشارد قد وضع قائمة غير مفصلة عنهم.
لم يحصل أغلبية هؤلاء الأطباء على تكوين طبي ولكنهم كانوا قد اكتسبوا هذا الفن عن طريق التجربة، أحيانا منذ سنهم المبكر وفي وسطهم العائلي أوفي الزاوية، كانوا يبرعون في علاج الكسور، إلتواء المفاصل وحالات الإنخلاع وتوصلوا إلى علاج إصابات بالرصاص عن طريق الطب الطبيعي.
عبد الله الزروالي الطبيب الشخصي للأمير والمكلف بخزينة الصحة، كان معينا في فن المداواة، و برع في استعمال الأعشاب الطبية وتوصل إلى استخراج رصاصات من الأعضاء بمساعدة أعشاب طبية بدون أن يسبب ألما أو يقوم بعملية.
هو من وضع نظاما للرعاية في الدولة التي أقامها عبد القادر، أدى الزروالي دورا كبيرا في صياغة الفصل المخصص للصحة من قانون الجيش النظامي المطبق في دولة الأمير عبد القادر.
استدعي سيدي محمد تونسي لعلاج الأسرى الفرنسيين المصابين والمتواجدين على مستوى الدائرة الواقعة بالقرب من الحدود الجزائرية المغربية، اشتهر بممارسة طب العيون كان يمتلك كفاءة كبيرة في معالجة الأمراض البصرية يقال ان أصوله تونسية، محمد بن زرقة كان من بين أطباء جند الأمير كان جراحا وطبيبا طبيعيا وكان يحضر بنفسه أدويته انطلاقا من الأعشاب.