الفاتح من نوفمبر من العام ألف وتسعمائة وأربع وخمسين.. تاريخ اندلاع ثورة هي واحدة من أعظم الثورات في التاريخ المعاصر ومحطة حاسمة في مسار النضال التحرري بالجزائر وإعلان القطيعة مع المستعمر الفرنسي، الذي تمادى في تشويه الحقائق والتنكر لوجود أمة جزائرية عبر العصور ساهمت في الحضارة الإنسانية.
الثورة التحريرية المظفرة بداية مرحلة جديدة في التاريخ الوطني فقد كانت عزيمة مفجري شرارة أول نوفمبر ومن وراءهم الشعب الجزائري أصلب مما كانت عليه وأصلب مما تخيلته فرنسا المغترة بمكانتها العسكرية و بدعم حلف الناتو.
جريدة “الشعب” و بمناسبة الذكرى السابعة و الستون المخلدة لثورة الفاتح من نوفمبر المباركة جمعت مجموعة من الحقائق والشهادات التاريخية لمجاهدي منطقة الولاية التاريخية الثانية.. تحديدا بمنطقة قالمة و ضواحيها. فكان حديثا شيقا مع صناع الحرية أمثال المناضلة داودو الطاوس و الحاج سعيد دحمون، ممن عايشوا الحدث.
خالتي الطاوس تتذكر صور بشعة للتعذيب
بطولات ثورية راسخة من تاريخ المنطقة وذكريات لازالت المجاهدة دادو الطاووس واسمها الثوري “زكية” تتذكرها و ترويها بالتفصيل وبكثير من التأثر، حيث لم تتوان في بداية حديثها عن إبداء استغرابها من إهمال جانب مهم في تاريخ الثورة التحريرية من طرف المؤرخين و كتاب التاريخ، و هو الجانب المتعلق بمراكز التعذيب و الاستنطاق التي أقامتها قوات العدو بعديد المناطق عبر الوطن، و التي لا تزال في طي النسيان رغم مرور أزيد من 6 عقود، رغم ما تمثله من رمزية ثورية تعكس تضحيات و معاناة الشعب الجزائري بجميع فئاته في سبيل نيل الاستقلال.
في حديثها مع الشعب، تقول المناضلة دادو الطاووس، إن كل الشعب الجزائري سنوات الثورة قد شارك بطريقة أو بأخرى، فليس فقط الذي صعد الجبال من صنع التاريخ، بل كذلك الذين آووا المجاهدين أو أعانوهم على الاختباء أو حتى ساعدوا الثورة بكسرة قمح أو شعير و قربة لبن بالقليل..
تتذكر خالتي الطاوس صور بشعة للتعذيب الذي كان يمارس على النساء بقيادة الضباط الفرنسيين التي كانت تزداد قسوة ووحشية، كلما ألحق جيش التحرير خسائر بجنود المحتل الفرنسي.
منطقة قالمة تحديدا تحتفظ في تاريخها الثوري بمشاهد مؤلمة لازالت راسخة في ذاكرة من عايشوا تلك الفترة، و هي تعكس بشاعة جرائم المستعمر الفرنسي، الذي سارع لإقامة المحتشدات و مراكز التعذيب بالمنطقة، في محاولة لترهيب سكانها و وضع حد للمد الثوري و تجفيف منابع الدعم و الإسناد للثوار في الجبال.
في معلومة قد تبدو غريبة للبعض أكدت المناضلة الحاجة الطاووس، أن بعض الحركى الذين تعرفهم، قدموا الدعم للمجاهدين خاصة بالمعلومات وأحيانا بالتستر على أسماء الثوار والمسبلين.
وتقول المناضلة زكية أن الاستعمار الفرنسي عمد إلى إهانة سكان قالمة والمداشر التابعة لها، وتجريدهم من إنسانيتهم بإقامة المحتشدات، والتي كانت في كل من عين خروبة، وبني عدي، وحمام دباغ، و قام المستدمر بتعيين الحركى للإشراف على هذه المخيمات والعمل على جمع المعلومات عن الأشخاص الذين يساندون الثوار سعيا لوقف الإمدادات عليهم، وكذا شن حملات مداهمة و تفتيش الأكواخ والتعدي على حرمات بطريقة بعيدة كل البعد عن الإنسانية..
ولدت الطاوس دادو بتاريخ 26/02/1926 في بلدية الفجوج على بعد 10كلم شمال شرق عاصمة الولاية قالمة، من أبوين جزائريين وكانت البنت الوحيدة بين أفراد أسرتها فقد أنجبت والدتها 4 شبان، كان لوالدتها التأثير الأكبر في حبها للوطن، فقد كانت أول من زرع فيها ذلك الحب و كنت دائمة التذكير لها بأنها جزائرية لا فرنسية، رغم سنها الصغيرة آنذاك.
إنخراط زكية في ثورة الفاتح من نوفمبر 1954
انضمت “الطاوس” إلى جبهة التحرير الوطني بشكل رسمي، لجهاد الاحتلال الفرنسي في عام 1957 وهي في الثلاثين من عمرها، و لكن بداية النضال ضد الوجود الفرنسي في الجزائر بدأ قبل هذا التاريخ بأربعة عشر سنة، تحديدا سنة 1944 فقد كانت من الشخصيات المساهمة في أحداث الثامن ماي 45 المفصلية و عنصرا فاعلا في نشاطات الحركة الوطنية الجزائرية.
كانت زكية تقوم بجمع الذخيرة، والخياطة وجمع الدواء و إرساله إلى المجاهدين في منطقة حمام دباغ، ونظراً لبطولاتها أصبحت المطاردة رقم 1 حتى ألقي القبض عليها عام 1961، والسبب كان إمساك الدرك الفرنسي رسالة موجهة إلى المجاهدين، تحت إسمها المستعار (زكية) وأثناء التحقيقات لم تكفي التهم لإدانتها فبقيت شهر واحد في السجن، وفي يوم 3 ديسمبر عام 1961 ألقي القبض عليها مرة أخرى في منطقة السكة الحديدية (القنطرة الحمرة) في طريقها إلى بلدية “مجاز عمار”، وكانت محملة بالأدوية والملابس العسكرية، وكذا بعض الذخيرة، وهي حامل.
قضت ستة أشهر في سجن قالمة مع المناضلات الجزائريات منهم (اومدور تونس، وكذا المجاهدة بية حنون رحمها الله و زبيدة كماش)، وهنا توفيت في بطنها طفلة حتى تعفنت قبل أن ترسل إلى مستشفى قسنطينة.. و بتاريخ الرابع ماي 1962 خرجت من سجن قالمة بعد معاناة طويلة رغم قصر الفترة التي قضتها..
كانت أخبار المجاهدين تأتيها في السجن، قبل الإعلان عن استقلال الجزائر أخبرها أحد جنود الاحتياط يدعى (جون بوشي)، من مدينة تولوز أن الجزائر ستستقل، وأن بن بلة تحت الإقامة الجبرية في مدينة تولوز ولم يمت.
الصورة الملتقطة في السجن من تصوير الجندي الاحتياطي (جون بوشي )، وبعد الإستقلال جاء ذات الجندي الفرنسي إلى مدينة حمام دباغ، لزيارة المجاهدة “طاوس” التي كان يدعوها أمي البطلة.. رغم أنه فرنسي، وإلى الآن مازالت تسأل عن أخبار الجندي الذي كان يساعد المناضلات بالمعاملة الحسنة في السجن بقالمة.
تروي لنا الطاووس دادو ما وقع ذات يوم جمعة من سنة .. 1961 أي بعد قرابة ثماني سنوات من اندلاع الثورة المباركة وتقول:” قمت بتحضير “الشخشوخة” وإرسالها إلى المجاهدين مع ابني البكر رحمه الله “سليم بكوش” إلى منطقة البياضة بالقرب من جسر السكة الحديدية بين مجاز عمار وحمام دباغ، و في طريقه تفاجأ ابني بوجود عدد من الجنود الفرنسيين وكذا بعض الحركى، في ذات المنطقة وذلك لإلقاء القبض على ثلاثة مجاهدين من بينهم محمد بوڨلاز، إسماعيل لعفيفي المدعو شباب و عمار جريبي.. “.
وتضيف:” تم تفتيش ابني للتحقيق معه بخصوص الأكل ، فأخبرهم بأنه لخالته و أنهم اعتادو إرسال الطعام كل يوم جمعة إليها، فأطلق سراحه لكن كان احد الحركى يراقب سليم و هو يمشي، وإذ بشخص يلتقي بسليم.. إنه المجاهد اسماعيل لعفيفي فأخبره بأن الجيش يحاصر المنطقة وأنهم في خطر”.
وتواصل حديثها:” مراقبة الحركي لسليم و تتبع خطواته مكنته من كشف وجود جماعة إسماعيل لعفيفي وعمار جريبي و محمد بوڨلاز، فتم محاصرة المكان ووقع إشتباك بين الطرفين لمدة ساعتين، استشهد خلاله محمد بوڨلاز، وألقي القبض على إسماعيل لعفيفي الجريح وعمار جريبي بعدما نفذت منه الذخيرة”.
وفي ذلك اليوم تضيف الحاجة طاوس تم مفاجأتي في بيتي من قبل الدرك الفرنسي ومعهم الحركى فقال أحدهم لي “جماعتك تحكموا وفيهم لي مات” فألقي القبض علي المجاهدة.
كانت تضع الرسائل في شعر أولادها
كانت “دادو الطاوس” تستعمل عدة حيل لإيصال الرسائل إلى المجاهدين.. كانت تقوم بتربية شعر أولادها وتضع الرسائل فيه لكي لا يكتشف أمرها، في بعض المرات يكتشف أبنائها الأمر تقول لهم بأنها وضعت لهم “كتاب الحجاب” لكي تذهب عنكم الخلعة..
من أبرز المجاهدين الذين عملت معهم في المنطقة، “إسماعيل مرواني” الشهير ب”قمبولة”، السعيد بن عياد، قبطان بوروح، الإخوة العفيفي (على وإسماعيل شباب
بعد الإستقلال عملت في مركز الراحة للمجاهدين حتى تقاعدت.
شريط المآسي والمجازر الفظيعة التي ارتكبها القائد الفرنسي “لومان”
معركة مرمورة الخالدة.. أحداث تداولت وقائعها عبر كامل مناطق ولاية قالمة ودارت حولها الأحاديث بين أفراد العائلات.. وأصبحت أسطورة تروى جيلا بعد جيل..
ورغم تقادم التاريخ ومرور السنين إلا أن سكان المنطقة وضواحيها لم ينسوا تلك الوقائع التي عايشوها، فلا يخلو بيت هنا أو عائلة من مجاهد أو شهيد.
صالح دحمون (سعيد) أحد الشهود الذين عايشو المعركة، وهو قريب البطل الشهيد طاهر دحمون (الذي تجمع الشهادات والروايات على أنه من أسقط مروحية العقيد الفرنسي جون بيار).. يقول عمي صالح أن تلك المعركة التي كانت بمثابة النكسة العظمى للمستدمر الغاشم، والتي تكبَّد فيما خسائر فادحة لم تكن في الحسبان.
ويشير إلى أن مهمة المجاهدين “بالمنطقة المحرمة” كانت صعبة، دفعوا ثمنا باهظا: “مشاتي أحرقت بالكامل، مئات الضحايا منهم من سقط في جبهات القتال ومنهم من أعدم، نهب للممتلكات وتهجير قسري لبقايا السكان الذين فروا إلى مناطق أخرى بعيدة هروبا من حرب الإبادة التي وصلت إلى حد التطهير العرقي، عندما قرر أحد القيادات الفرنسية بقر بطون النساء الحوامل لتسلية جنوده وإقامة الرهان بينهم حول جنس الجنين ذكر هو أم أنثى”.
وتشير شهادات تاريخية، أن سكان الركنية وبوحمدان وكافة المنتسبين إلى الأسرة الثورية بڤالمة، يحفظون عن ظهر قلب أبرز محطات شريط المآسي والمجازر الفظيعة التي ارتكبها القائد الفرنسي “لومان” الذي تطوع رفقة العقيد “جون بيار” لتطهير القلعة الحصينة من الثوار والأهالي الواقفين إلى جانبهم.
لكن كل الأعمال الإجرامية التي قامت بها فرنسا لم تكسر عزيمة ولاية قدمت من الأبطال الكثير للثورة المباركة.