تمثلت استراتيجية الثورة في الانتشار داخليا بالموازاة مع الانتشار خارجيا لجلب الدعم المادي والدبلوماسي.
الثورة متأكدة أن بقائها محصورة داخل الجزائر لن يحقق لها النتائج المرجوة، لأن الضغط على فرنسا وإحراجها يتجلى في محاربتها في عقر دارها وبين حلفائها، بتهييج الرأي العام الأوروبي في سبيل دعم القضية الجزائرية، لهذا عمل قادة الثورة على تشكيل خلايا ثورية خارج الجزائر وبخاصة في الدول الأوروبية لنقل الرعب إلى المعسكر الآخر.
وكانت سويسرا من بين أهم الدول الأوروبية التي أولتها جبهة التحرير أيما اهتمام مع بداية الثورة إضافة إلى فرنسا، بلجيكا وألمانيا، لانها كانت مكان التقاء ومركز عبور النشطاء الجزائريين خاص.
كما استخدمت كقاعدة للدعم المادي للثورة خاصة بالأموال والعتاد، حيث تبرز لنا بعض وثائق الأرشيف سواء الفرنسية أو السويسرية نماذج من هذا النشاط الذي امتد طيلة سنوات الثورة فكيف كان النشاط الثوري في إحدى أهم الدول الأوربية المعروف عنها التزامها الحياد الدولي؟.
حاولت قيادة جبهة التحرير الوطني أن تجعل من سويسرا مكانا آمنا لتنقلهم ونشاطهم منذ البداية، فاقتصر نشاط أعضاء الجبهة على الدعاية وتشكيل خلايا لجبهة التحرير مع جمع الأموال، إضافة إلى الدعم الإعلامي، وحاولت قدر المستطاع ان تبعدها عن الصراع المسلح مثلما كان عليه الحال في فرنسا، عدا محاولة تفجير السفارة الفرنسية بتاريخ 14 جويلية 1956.
لتكون بذلك سويسرا المكان المفضل لالتقاء النشطاء الجزائريين حسب ما جاء في جريدة Journal de Genèveبتاريخ 22 جوان 1955 عندما تطرقت لنشاط بعض الثوريين الجزائريين على الأراضي السويسرية، نقلا عن تصريح مراد طربوش للشرطة السويسرية.
يذكر هذا الأخير أنه دخل سويسرا على مرتين منذ اندلاع الثورة، المرة الأولى كانت بين ديسمبر 1954 وجانفي 1955، أما المرة الثانية فكانت بين 06 و23 أفريل 1955 وكانت مهمته هي الإجتماع مع بوضياف ونقل تعليماته لداخل فرنسا.
قاعدة خلفية لتأمين الأموال للثورة
لم يتأخر الجزائريون في استغلال سويسرا كمقر لدعم جيش التحرير الوطني وممر آمن للأموال، فبدأت قيادته في ربط علاقات شخصية ونسج شبكة لجمع الأموال من أجل شراء الأسلحة خاصة في المرحلة الأولى لاندلاع الثورة، إن هذه المغامرة لم تكن مجانية بالنسبة للجزائريين، بل نتائجها انعكست بسرعة على أرض الواقع.
ففي وثيقة عثرت عليها الشرطة الفرنسية سنة 1956 حولت المبالغ المالية التي جمعتها خلايا جبهة التحرير في فرنسا، بلجيكا، ألمانيا وسويسرا، قالت أنها تجاوزت مبلغ 15.063.000 فرنك فرنسي، يضاف إليها مبلغ 490.770 فرنك فرنسي تتمثل في غرامات مختلفة، ومبلغ 253.604 عبارة عن عائدات مبيعات الجرائد، ومثّلت عائدات الضرائب التي فرضتها جبهة التحرير على بعض التّجار والمُلّاك رقما مهما حيث بلغ 2.682.126 فرنك فرنسي، من جهته بلغ مبلغ اليوم إلى 3.518.000 فرنك فرنسي.
باختصار، مجموع المبلغ المالي الذي ذكرته الوثيقة بعملية حسابية بسيطة بلغ حوالي 22.007.500 فرنك فرنسي. ورغم أن عملية جمع الأموال كلّفت الجزائريين الكثير من التعب والعناء، وكلّفت البعض الإعتقال والمتابعة، إلّا أن الأصعب في هذه العملية تمثّل في البحث عن الكيفية التي يتم بها توصيل هذه المبالغ ليستفيد منها جيش التحرير الوطني في الجبال الجزائرية وبخاصة في شراء السلاح الذي كان شريان الثروة وعمودها الفقري وأحد أهم عوامل نجاحها في مواجهة جيش فرنسي لديه كل الإمكانات العصرية.
انصبّ تخطيط جبهة التحرير في البداية على إنشاء شبكات دعم في أوروبا وبناء علاقات وتهيئة أرضية لتنفيذها، فكانت سويسرا تتوفر على كل الشروط الملائمة لتنفيذ هذه العمليات، ليستغل قادة الثورة تساهل القانون السويسري في التعاملات المالية.
أموال بهذه الكمية يتوجب إيجاد قنوات رسمية لتحويلها، لذلك قاموا في أول الأمر باختيار البنوك التي تسمح بوضع هذه الأموال في حسابات بأسماء مستعارة دون شروط ثم في مرحلة ثانية اختاروا تُجار، وحتى سياسيين (من مؤيدي الثورة، مثلما حدث مع وزير الاقتصاد المغربي سنة 1958)، لتحويل هذه المبالغ بأسمائهم.
وفي الأخير تم إشراك بعض الشخصيات السويسرية من عمال البنوك في هذه العملية مثل فرانسوا جونو François Genoud الذي لقبه جاك فارجاس بـ”بنكي جبهة التحرير” كانت تربطه علاقة صداقة قوية مع كل من بن بلة، حيث كان يشغل منصب مهم في البنك العربي في جنيف، وهو من أهم البنوك السويسرية التي قامت بأدوار مُهمة في تحويل الأموال الموجّهة لجبهة التحرير من أوروبا إلى الجزائر ومصر وتونس.
وفي تقرير للخارجية الفرنسية أنه تم تحويل سنة 1956 ما قيمته 400 مليون فرنك فرنسي موجهة خصيصا لاقتناء عتاد حربي لصالح جبهة التحرير الوطني، ويذكر تقرير للشرطة الفرنسية أهم البنوك التي قامت بتحويل الأموال لصالح جبهة التحرير، مستغلة بعض الثغرات في القانون الفيدرالي السويسري الذي يضمن سرية التعاملات في مثل هذه الحالات، ومن بين البنوك التي ذكرها التقرير:
– Volksbank.
– Crédit Suisse.
– l’ Union du Banques Suisse.
– Banque de Commerce de Genève.
– Handels Bank du Zurich.
وتذكر وثائق الأرشيف أن البنك الأخيرHandels Bank du Zurich تمثلت مهمته في تحويل الأسلحة والملابس العسكرية إلى تونس، وقد بلغت الأموال التي تم تحويلها من خلال البنوك السالفة الذكر حوالي 11 مليار فرنك سنة 1958.
أما عن الجهات التي كانت تدعم جبهة التحرير عن طريق هذه البنوك السويسرية فيذكر التقرير أن هنالك مبالغ تم تحويلها عن طريق جامعة الدول العربية حوالي 2.200.000.000 فرنك فرنسي، الصين 90.000.000 فرنك، الهند 88.000.000 فرنك، ألمانيا الديمقراطية 30.000.000 فرنك وأخيرا الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة (CISL) حوالي 21.000.000 فرنك
هذه التعاملات لم ينفها الطرف السويسري، بل وفي نفس السياق نجد وثيقة من وثائق أرشيفه الدبلوماسي مؤرخة في 31 جويلية 1958 تؤكد على قيام بنك أمريكي بصب ما قيمته 500.000 دولار أمريكي لحساب فرحات عباس، على أن يكون ضخ هذا المبلغ في حساب وزير الاقتصاد المغربي الذي يتكفل بدوره لإيصاله لصاحبه.
ويؤكد مدير البنك أن هذه العملية لا تُشكل أيّة صعوبة. الذي نفهمه من خلال هذه الوثيقة أن البنوك كانت تعلم مصدر ووجهة الأموال لكنها كانت وبالنظر إلى القانون السويسري لا يمكنها أن تكشفه أو تصادره.
ولم يقتصر النشاط الثوري فوق الأراضي السويسرية على استغلال البنوك فقط، بل امتد إلى أوساط فئات المجتمع المدني الذين وقفوا موقف الداعم للقضية الجزائرية سوف نتطرق إلى جزء منه من خلال ما توفر لدينا من الوثائق الأرشيفية في المبحث التالي.
دعم الشعب السويسري لجيش وجبهة التحرير وشبكة جونسون
لم يتوقف دعم الثورة على شخصيات بعينها، بل انتقل إلى جزء هام من الشعب السويسري لم ير في الثورة إلا عدالة القضية التي تحملها، وتذكر إحدى الوثائق الأرشيفية مؤرخة في 27 أكتوبر 1960، أن سويسرا كانت تمثل مقر التقاء ونشاط قادة الثورة حتى قبل اندلاعها.
وهنا نذكر ان آخر لقاء لإعلان الحركة التي ستقود الثورة كان شهر أوت 1954 بفندق النخيل في بيرن السويسرية بحضور كل من بن بلة، ديدوش، بن بولعيد وبوضياف.
ولم يكن هذا الأمر ليتم لولم يتأكد هؤلاء القادة من دعم الشعب السويسري لهم وهوما يؤكده الصحفي السويسري شارل هنري فافور الذي يؤكد بأن “دوافع هؤلاء السويسريين كانت متباينة وقد تختلف من شخص لآخر، ولكنها كانت تلتقي جميعها في اقتناعهم جميعا بواجب نصرة شعب يناضل ضد قوة استعمارية”. ومن بين مظاهر دعم الشعب السويسري للثورة نذكر تأسيس لجنة باسم (سويسرا-الجزائر) لدعم الثورة، كما انخرطوا في العديد من الحركات المضادة للاستعمار مثل حركة “الشاب المقاوم” و”الحركة ضد الاستعمار الفرنسي MAF “.
لا يمكن الحديث عن الدعم الشعبي دون أن نذكر شبكة جونسون التي كان لها نشاط كبير في سويسرا.
توزع عملهم بين إقناع الشباب بدعم الثورة، وإطلاق دعوات صريحة بعدم التجنيد في الجيش الفرنسي، إضافة إلى مطالبة الجنود بالفرار من الثكنات في الجزائر، ضمت العديد من المثقفين، وتُعتبر شبكة جونسون من أهم مظاهر دعم الأوروبيين للثورة وأشهرها، ليس في طريقة عملها والدعم الكبير الذي قدّمته للثورة خاصة في مجال جمع الأموال فحسب، بل في نوعية الأشخاص التي ضمتها هذه الشبكة.
ويعكس نشاط هذه الشبكة توجها شعبيا وسياسيا داخل فرنسا من الاستعمار خصوصا ما تميز به من بربرية وهمجية وسلب لحقوق الجزائريين وعلى رأسها الحق في الاستقلال، حيث فضح نشاط شبكة جونسون إزدواجية الخطاب الذي اتسم به السياسيون الفرنسيون تجاه شعبهم، فهو يرفع راية الحقوق والمساواة، ولكنه يطبق التضييق والدكتاتورية في كل من يعارض توجهاته الإستعمارية.
هذه السياسة جعلت الكثير من الفرنسيين والأوروبيين الشرفاء يسيرون في طريق معاكس للحكومة، بل أن أكثر راديكالية عندما نجدهم يتجندون لخدمة ودعم الثورة التحريرية مما أدى إلى اتساع رقعة المؤيدين امتدت للدول المجاورة.
وتُعتبر سويسرا من بين محطات نشاط هذه الشبكة، حيث كانت أراضيها ساحة نشاط وتنقل أعضاء هذه الشبكة شملت شخصيات سويسرية، كانت مساهماتهم تتنوع بين المشاركة في إيواء الجزائريين، وكذلك الجنود الفارين من الجيش الفرنسي مثلما كان يقوم به الصحفي جاك بارتيلات Jack Berthelet أحد أعضاء هذه الشبكة والمقيم في سويسرا، والدعاية لصالح جبهة التحرير واستقلال الجزائر.
إضافة إلى جمع التبرعات وتقديم الدعم المادي للثورة، ومن بين هذه الأعمال نذكر تقديمهم لسياراتهم من أجل تنقل أعضاء هذه الشبكة واستعمالها في نقل السلاح والألبسة والعتاد، إذ يذكر الصحفي والكاتب السويسري شارل هنري فافرو أنه من بين أوائل السويسريين المنخرطين في شبكة جونسون امرأة تدعى “إيفلين سيلرو”، التي أصبحت فيما بعد مشهورة بعضويتها في المجلس الدستوري، والتي بدأت بتهريب وإيواء الطيب بولحروف نفسه قبل أن تُسهم في النّضال إلى جانبه بصحبة آخرين.
كانت تجتاز الحدود الفرنسية السويسرية بسهولة على متن سيارتها المكشوفة وهي تحمل حقائب مملوءة بالأموال لصالح الثورة الجزائرية.
وقام فافرو نفسه بالمشاركة في عمل هذه الشبكة من خلال استضافته في بيته في لوزان، مرات عديدة، فرنسيس جونسون، رئيس شبكة حاملي الحقائب الذي كان ينقل معه الأوراق المالية ليخبئها ثم ينقلها من أجل إيداعها في مصرف “كريدي سويس” لتشكل ما عُرف فيما بعد بأموال جبهة التحرير الوطني.
بيان الصومام طُبع في سويسرا
من مظاهر تغلغل شبكات إسناد الثورة الجزائرية في المجتمع السويسري هو استخدام مطابع سويسرية، حيث تكفلت بطبع وثائق ومناشير وكتب صنفتها فرنسا في خانة الممنوعات مثل كتاب “القضية LA QUESTION” والذي تم إعادة طبعه في سويسرا.
من جهته يؤكد المؤرخ فافرو أن وثائق الصومام كانت تُطبع في سويسرا وتُنقل عبر شبكات حاملي الحقائب إلي التراب الفرنسي، ويضيف فافور: “أن فكرة طبع ميثاق الصومام أتت من معاون الطيب بولحروف رئيس مكتب اتصال الثورة الجزائرية في لوزان، سيرج ميشيل الذي وجهنا إلى مطبعة صغيرة في منطقة إيفردون لصديق يدعى كورناس كان يهتم بطبع أطروحات الطلبة وما شابه ذلك”، وقد تعرضت هذه المطبعة لمراقبة الشرطة عندما تم اكتشاف أن كورناس يشتري كميات من الورق والحبر تفوق بكثير ما كان يتوصل به من أعمال طباعة.
ولما حاول تبرير ذلك بأنه لطباعة أطروحة اكتشفت الشرطة السويسرية طبيعة هذه الأطروحة التي لم تكن غير ميثاق الصومام مما عرضه لغرامة مالية لا غير.
أ.د/ محمد قدور
أستاذ التعليم العالي
المركز الجامعي مرسلي عبد الله تيبازة