كم يحلو الرجوع بالزمن إلى الوراء والسفر في ذاكرة وذكريات إحدى تلميذات ومدرسات المدرسة الحرة الجزائرية،التي تقلدت أول منصب لها وهي لا تزال ابنة الـ15 ربيعا، ولا تزال تواصل دراستها لنيل شهادة التعليم المتوسط.
تجربة غنية بالتحديات وحب الوطن تقاسمتها معنا السيدة غنية بيرم ميجاك، التي ترعرعت بعائلة محافظة ووطنية دفعت بالعديد من أبنائها فداءا لتحرير الوطن.
ولدت ونشأت في حي القصبة العتيق بالجزائر العاصمة، كانت أول بداياتها على مقاعد الدراسة بالمدرسة الحرة التهذيب، في 1947 إلى أن أصبحت بدورها من فوج المدرسين الصغار الذين تقلدوا مهام التدريس وهم يحضرون شهادة الابتدائية ولكي يخلفوا أساتذتهم الذين قتلتهم فرنسا الاستعمارية في 1956.
تكلمت عن ” مدارس “الرشاد” بحي عمارة علي، “الصباح” بالقصبة، “الخلدونية” بباب الجديد، “الشبيبة (أ)” و”الشبيبة (ب)”. درس بالأولى كل من عبد الرحمان الجيلالي، الأخضر السائحي ومحمد الحسن فضلاء.
تقول غنية إن هذه المدارس كانت “تدرس فيها العربية والفرنسية والحساب والتربية الدينية والتاريخ والجغرافية.
وتضيف: “كانت تقدم حصة المحفوظات التي كنا نتعلم من خلالها الأناشيد الوطنية وغيرها من المواد التي كانت تتطرق إلى الوطنية، والى خريطة الجزائر وعلمها وتاريخها الذين لم تذكرهم كتب الإدارة الفرنسية”.
أناشيد أقلقت الفرنسيين
“وتشير إلى أن أناشيد “عليك مني سلام يا أرض أجدادي،ودمت يا بيضاء ما دام الزمن، بلادي، هيا إلى الأمام يا جيل الشباب”، وغيرها، كانت تُعلم للتلاميذ الذين كانوا يرددونها بفخر، وكان التقليد أن يقوم كل يوم قسم من الأقسام بالدوران في الساحة يؤدون احد الأناشيد في حين يقصد تلاميذ آخيرين أقسامهم.
تقول: “كنا نستعمل كتيبا جمع ودون فيه الأستاذ الفاضل محمد الصالح رمضان كل هذه الأناشيد وحفظها للذاكرة، إلى أن جاء نشيد قسما الذي كان ترديده في المدارس يثير غضب وسخط العساكر الفرنسية، وأصبحت تقتحم مع تصاعد عملية انخراط الأساتذة وخرجي المدارس الحرة في النضال وصفوف جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني”.
صفوفي الأولى بمدرسة الخيرية
كان أول لقاء لمحدثتنا بالتعليم الحر في مدرسة الخيرية بالقصبة، التابعة لمدرسة الشبيبة، كانت المعلمات بها تلبسن “الثوب” أو “الحايك”، منهم فتيحة موازيري، آسيا زناني، زهية تقليت، زهية غازي، الزهرة صمغوني، وفريدة سكير.
وكانت المدرسة عبارة عن بناية من الطراز التركي، أقسامها مجهزة بطريقة عصرية، تسير وفقا لبرنامج بيداغوجي يواكب المدارس بمصر وسوريا وتونس، وكان القائمون عليها يعتمدون على كتب بالعربية صادرة في الشرق الأوسط.
تقول: “لكن اجتهاد وتفاني جمعية العلماء المسلمين والأساتذة الأحرار لم ينته عند هذا الحد، بل كانت هناك قاعدة معتمدة في كل المدارس، وهي أن يفتتح كل مدرس أو مدرسة الحصة بخمس دقائق تخصص للأخلاق الحميدة وللتربية الوطنية، وكانوا يحدثوننا عن الجزائر الجزائرية ويرسمون لنا خارطتها على الصبورة والعلم الجزائر بألوانه الزاهية، هذا العلم الذي لم نكن نجده في الكتب المدرسية الفرنسية”.
وتضيف أنه بعد استشهاد علي “لابوانت ” ورفقاءه، اقتحمت القوات الفرنسية المدرسة واتخذتها مقرا لها، وخربت واحرقت الأرشيف بها.
ومن بين الأشياء الرائعة التي اختزنتها ذاكرة السيدة ميجاك، الاستعدادات لإحياء الحفلات والنشاطات المدرسية في آخر السنة وبمناسبة الأعياد الدينية، والتي كانت توظف مجهودات جبارة لإنجاحها وتقديم عروضها للحضور من أولياء التلاميذ واعيان المدينة.
نشر الوعي وحب الجزائر
وكانت المدرسات -تقول غنية- “تحرصن كل الحرص على أن تحمل ألبسة العروض المسرحية وفرق الأنشودة، الألوان الوطنية الأبيض والأخضر و الأحمر. كنا نضع على رؤوسنا تيجانا من القطيفة طرز عليها نجمة وهلال باللون الأحمر، و كانت مواضيع العروض والأناشيد تتحدث كلها عن الوطن والانتماء والحرية والعربية والإسلام”.
وكانت الأعياد الدينية أيضا مناسبة لمسيري المدارس الحرة لإطلاق عمليات خيرية لفائدة المحتاجين، فكانت تقدم لهم الألبسة والمأكولات خاصة بمناسبة المولد النبوي، عيد الفطر والعيد الأضحى وعاشوراء.
جاءت سنة 1954 ونظمت جمعية العلماء المسلمون امتحانات الشهادة الابتدائية للمرة الأولى في تاريخ المدرسة الحرة، وكان الشرف لأول باكورة لهذا الامتحان أن كلفوا بمهمة التدريس في المدارس التي أعدتهم وهم لا يزالون في عمر الـ 14 و15 و16 سنة.
وتزامن ذلك وانطلاق الشرارة الأولى لثورة التحرير الوطني، التي واكبها ركبها العديد من أساتذة ومعلمي ومدراء وتلاميذ المدارس الحرة، الذين لم يتواروا في التضحية بالغالي والنفيس من اجل استقلال الجزائر.
عينت محدثتنا، بمدرسة التهذيب وكانت تحت إشراف الأستاذ المرحوم محمد الحسن فضلاء، وبدأت وهي في عمر الـ15 سنة خلال 1955-1956 في تعليم الأطفال الأصغر سنا، وتقول:”كانت لي قصة يوما مع الاستعمار الفرنسي بسبب نشيد قسما، طلبت من تلاميذ قسمي بإنشاده عند مرور دورية بالقرب من المدرسة، فقاموا باقتيادي إلى ثكنتهم والتحقيق معي طول النهار، ليتم إطلاق سراحي وإجباري على المغادرة وأنا احمل كيسين من الرمل على رأسي”.
وتضيف: ” لا بد من الشهادة أن المدرسة الحرة الجزائرية أدت دورا هام وفعال في نشر المعرفة والحفاظ على اللغة العربية والمبادئ الإسلامية للشعب الجزائري، ساهمت وبقوة في التوعية الوطنية والتجنيد والتعبئة لجيش التحرير الوطني، فكنا كمعلمين، نقوم أيضا بجمع التبرعات من المنازل لفائدة جبهة التحرير الوطنية ونقل وتوزيع البيانات”.
وتقول أيضا: ” حارب و ناضل العديد وعذب وسجن واستشهد العديد، اذكر منهم زهية تغليت، زهرة سمغوني التي كان بيتهم ملجأ للثوار، والشهيدة وريدة مداد التي عانت من ويلات التعذيب قبل استشهادها وفريدة سحنون وغيرهم من الشهداء “.