صفحات ناصعة مشرقة، ومشرفة سطرت في أنصع صفحات التاريخ المعاصر، رسمت، ونسجت معالمها شلالات الدم القاني الطاهر النازف من خاصرة الشهداء الجزائريين الميامين الثوار الأبطال الأحرار الأبرار.
فكانوا نبراسا، ومنارة شامخة في سماء الكون يحتذيِ بها كل المجاهدين الأحرار، والثوار، والمناضلين الشرفاء في كل بقاع الأرض؛ نعيش اليوم عبق ذكراها التي بقيت نورا منيرا مدونا في سجلات التأريخ، ومغروسة في وجدان الفكر العربي لتستمر ذكراها ساطعة في سماء الوطن العربي، ومجلجِلة في ربوع العالم أجمع.
ونحن نعيش في ذكرى انتصار الثورة الجزائرية الستين؛ حيث كان ذلك النصر في يوم الخامس من شهر تموز / يوليو من عام 1962، تتويجا لثورة عملاقة شاسعة شاهقة استطاعت نيل حريتها بعد سنواتٍ من الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي المجرم؛ والذي قام بارتكاب مجازر همجية بشعة بحق الجزائريين.
فارتقى منهم نحو مليون ونصف مليون شهيد جزائري؛ وصولا للمفاوضات مع المحتلين القتلة في عام (1960 – 1962)، لإنهاءِ الاحتلال البغيض بعد أن دام واستمر الاستعمار الفرنسي فيها قرابة 13 عقداً، «132» سنة؛ ثم استرجعت الجزائر بعد بحر من التضحيات الجسام، والمعاناة، والدم، والألم حريتها، وسيادتها…
لقد عانت الجزائر من ويلات الحروب، والاستعمار لفترات طويلة؛ وإن الثورة الجزائرية لم تكن مجرد حرب استقلال ضد مستعمر أجنبي فقط! بل كانت ثورة تحرير هدفها تحرير الأرض والإنسان، ولقيام الدولة الجزائرية.
و كانت الثورة الجزائرية ذات طبيعة مزدوجة؛ بمعنى أنها ليست حرب استقلال فقط، بل، وحركة تجديد، وتطوير لبناء المجتمع الجزائري، لبناء دولته من جديد في نفس الوقت.
ولقد كانت مفخرة للأمتين العربية والإسلامية، ونموذجا كفاحيا وطنيا، ومدا ثوريا قضى على نظام استعماري استيطاني مجرم، واستبدله بمشروع وطني جزائري، هدفه إقامة منظومة اقتصادية، واجتماعية وثقافية حرة جديدة تحقق آمال الجزائريين.
وكانت الثورة الجزائرية ظاهرة تاريخية تندرج في الزمن الطويل، وليس مجرد حدث حربي محدود زمنيا للثورة الجزائرية تحديدا؛ حيث لا يمكن اختزال الثورة الجزائرية في البعد العسكري، لأنها عملية شديدة التعقيد، سواء من جهة التجربة السياسية السابقة عن الثورة، أو عناصرها التكوينية والبنيوية، أو طرائقها وأساليبها في الكفاح، أو في آثارها وأبعادها وآفاقها، أو في نوعية الفاعلين الاجتماعيين القائمين بها، وانخراطُها في الزمن المعاصر الذي ينطوي على مستقبَل غير محدود الآفاق، ولا ينظر نهايته.
كان انتصار الثورة الجزائرية حدثا كبيرا نشهد تداعياته إلى الوقت الراهن، من حركة تحرر فكري صاحبت حرب استقلال الجزائر، وأن سنوات الثورة الجزائرية شهدت نشأة فكر نقدي يحرر الشعوب المستعمَرة من التصور الذي نسجه المستشرقون عن هذه الشعوب، وكان جزءاً مِن سياسة الاستعمار الغربي الذي يصور العالم العربي أنه عالم غير متحضر الخ…!
ومن الجدير ذكره هنا ومن باب الوفاء والإخلاص، أن الجزائر تعترف بدولة فلسطين، ولا تعترف بكيان عصابة الاحتلال الصهيوني المجرم؛ وكذلك يتخذ الفلسطينيون من الجزائر مثالا يُقتدى به منذ نيل الجزائر لاستقلالها عام 1962.
وبالتزامن مع إحياء ذكرى الاستقلال، وهو العيد الذي تطلق عليه الجزائر اسم «عيد الاستقلال والشباب»، فقد أدت الثورة إلى ظهور مفهوم «صراع الحضارات»، نتيجةَ سعي فرنسا لتبرير حربها على أنها ليست مواجهة بين أمتين، بل بين حضارتين؛ الغربية والإسلامية.
لقد تخطت الثورة الجزائرية إطارها المحلي، لتكتسي بعدا عالميا، وإنسانيا؛ فاحتلت مكانة مركزية ضمن «مشروع تصفية الاستعمار» بفضل تأثيرها في محيطها العربي والإسلامي، وكذلك فإن لها مكانتها المرموقة بين كل حركات التحرر الوطني في «العالَم الثالث».
وختاما ستبقى فلسطين وشعبها قلب الجزائر، وكذلك فإن الجزائر، وشعبها تمثل قلب فلسطين النابض، عاشت ذكرى التحرير المجيد، المجد والخلود والرحمة للشهداء الأبرار، والخزي والعار لكل المحتلين المجرمين في كل وقت وزمان وحين.
وعاشت ذكرى النصر والتحرير، وإن شاء الله قريبا تحتفي الجزائر، ومعها كل الأمة العربية والإسلامية كذلك بتحرير فلسطين، لنصلي جميعا في قبلة المسلمين الأولى المسجد الأقصى المبارك محرر من الغاصبين المحتلين.