لم تأت الجوانب الأساسية للشهيد عاشور زيان في نشاطه ونضاله الثوري في صفوف الحركة الوطنية وثورة نوفمبر من العدم.
هناك ميزات في شخصية الشهيد مكنته من التفرد في قيادة الرجال والمناضلين في مرحلة حساسة، وخطيرة بطريقة غير تقليدية لا تعتمد على القوانين والتقاليد المتعارف عليها في القيادة والولاء.
اعتمدت طريقة الشهيد زيان بالأساس على شخصية الرجل، التي أدت الدور المحوري في نشاطه مسؤولا وقائدا في صفوف الحركة الوطنية وثورة التحرير الكبرى.
كانت شخصية عاشور زيان اجتماعية بعيدة عن الانطواء، يتعامل مع أفراد مجتمعه بروح صافية وإخلاص قل نظيره ناتج عن تربيته وتكوينه التعليمي، فقد تربى في أسرة محافظة تحترم التقاليد وتتفاعل مع الروابط الاجتماعية في المجتمع الريفي.
وحسب شهادات مجاهدين،الرجل، ومنذ شبابه الباكر، عمل على ترسيخ القيم والمثل العليا للتضامن والوحدة داخل مجتمعه الصغير.
كان لهذا الدور بالغ الأثر في الاحترام الكبير الذي كان تكنه له كل فئات المجتمع، حتى أطلق عليه تسمية الشيخ، وللعلم فإن كلمة شيخ في تقاليد مجتمعنا تنم عن حكمة الشخص وسُموه الإنساني والأخلاقي، والاحترام والمكانة المرموقة بين أفراد المجتمع.
القول إن المؤرخين هم من يصنعون التاريخ والأبطال، قول فيه كثير من المغالطة، فالأقرب إلى المعقول أن الثورات يفجرها الثائرون.
وبالرغم من أن هناك رجال وقادة ولدوا للقيادة، وثورة نوفمبر من أغنى الثورات بهؤلاء القادة الذين غيروا مجرى التاريخ، لكن حسب اعتقادي وتتبعي لسيرة الشهيد يتبين بأن الرجل مناضل من طراز مغاير ولم ينل حظه من التقدير والدراسة.
إن شخصية عاشور زيان يمكن إدراجها ضمن ما يعرف بالشخصية الكارزمية، وهي حسب تعريف عالم الاجتماع السياسي ‘ماكس فبير’:»شكل من أشكال السيطرة والقيادة الذي يتكون من مميزات خاصة جدا».
إنها بعبارة مختصرة، سيطرة رجل ما انطلاقا من صفات شخصية دون أن تكون مدعومة بالتقاليد والعادات، والتي تعطي لشيخ القبيلة – مثلا- سلطة معينة على بقية الأفراد، وهي أيضا ليست مدعومة بقواعد قانونية تفرض على بقية الأفراد الطاعة طبقا للقانون.
وبعبارة أخرى، فإن الشخصية الكارزمية ليست شعبية رجل السياسة أو ما يعرف بالشرعية الشعبية، إنها أكثر من ذلك، فقد تختلط فيها العواطف واللامعقول، أي لا يمكن تفسيرها، فهي عبارة عن عناية إلهية تلهم القائد هذه الصفات التي قد لا تتوفر للقادة السياسيين جميعهم.
وأبلغ دليل على ذلك، تمكن عاشور زيان من تجنيد مئات المجاهدين اعتمادا على شخصيته بالمقام الأول وهو ما عرف بجيش عاشور زيان.
الفريد
ولد الشيخ عاشور زيان سنة 1919 بقرية البيض بولاية بسكرة وهي قرية نائية ومعزولة ذات طابع ريفي صحراوي، الحياة بها ‘بدائية’ مثل الكثير من القرى والمداشر الجزائرية في فترة الاستعمار.
تربى وسط هذا المحيط الاجتماعي البسيط، اضطر والده ليرسله إلى قرية عين الملح قرب بوسعادة لحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ «على بن الباهي»، ثم انتقل إلى زاوية القصيعات لموصلة تعليمه الابتدائي أين حفظ القرآن الكريم.
وتعلم مبادئ اللغة العربية، ليتحول بعدها إلى الزاوية المختارية بأولاد جلال والتي تمكن فيها من التحصيل العلمي في الشريعة وعلوم اللغة.
هذه المرحلة من التعليم كان لها الأثر الكبير في تكوين شخصيته، حيث كان تكوينه عربيا إسلاميا خالصا ولم تسمح له الظروف القاسية التي عانى منها الشعب الجزائري من التردد على المدارس الفرنسية.
وبالرغم هذه الظروف والتعليم التقليدي، فإنه لم يكن انطوائيا، أتقن الحديث باللغة الفرنسية نتيجة الاحتكاك في فترة التجنيد الإجباري لمدة أربع سنوات أثناء الحرب العالمية الثانية.
إضافة للمدة التي قضاها في المهجر بفرنسا، والتي مكنته أيضا من التواصل والنضال في صفوف الحركة الوطنية.
الطريق إلى الثورة
شهدت فترة ميلاد عاشور زيان نهاية الحرب العالمية الأولى، التي شارك فيها عشرات الآلاف من الجزائريين الذين زُج بهم في أتون المعارك للدفاع عن شرف فرنسا المهان.
ومن أهم نتائج هذه الحرب، بروز الوعي بالتحرر لدى فئات من الشعب الجزائري، باشر الأمير خالد بتشكيل وفد لمقابلة الرئيس الأمريكي «ويلسن» بهدف المطالبة بتطبيق المبادئ التي نادى بها هذا الرئيس الأمريكي على الشعب الجزائري، ومنها تقرير المصير.
وكان هذا المسعى محاولة أولى لتكوين حركة سياسية تلاها تأسيس نجم شمال إفريقيا، ثم حزب الشعب الجزائري الذي انضم إليه.
عاشور زيان مناضلا
واندلعت الحرب العالمية الثانية وانهارت الجبهات الفرنسية وجند عاشور زيان كغيره من أبناء وطنه للدفاع عن فرنسا ضد الهجمة النازية، وبقي في جبهات القتال إلى غاية تسريحه سنة 1944.
بدأت اتصالاته بصفوف الحركة الوطنية مناضلا ثم مسؤولا حزبيا.
ويرى الكاتب بريان كروزبير مؤلف كتاب «الثائرون» بأن جميع الثائرين يشتركون في عنصر واحد رغم اختلاف أهدافهم ومقاصدهم السياسية وأسسهم الاجتماعية، وهذا العنصر المشترك هو خيبة الأمل.
ولم يشذ عاشور زيان عن هذه القاعدة، فقد نشأ وناضل في ظروف قادته إلى اليأس وخيبة الأمل من الأساليب المتبعة في مواجهة الاحتلال، وكان الوليد الشرعي لخيبة الأمل هو الثورة المسلحة.
لقد كانت لمجازر الثامن ماي آثارها العميقة في نفوس الأفراد والتنظيمات الجزائرية، لكن مفعول هذه التأثيرات اختلف من فرد إلى فرد، ومن تشكيل سياسي إلى آخر.
لكن المؤكد أن التأثير كان قويا في نفسية عاشور زيان، ومناضلي حزب الشعب الذي كان المُنظم الرئيسي للتظاهرات، وكانت نتيجة هذه المجازر، هي تعميق خيبة الأمل، واليأس من الأساليب السلمية للتغيير.
وكان لاعتناق عاشور زيان مبادئ حزب الشعب المنادية بالاستقلال أن جعلته في دائرة الاهتمام والملاحقة، وبالرغم من تستره بممارسة التجارة.
فإن الإدارة الاستعمارية بادرت إلى إغلاق المقهى الذي تحول إلى ناد مهمته تكوين نواة صلبة من المناضلين، وتوسيع دائرة المؤمنين بمبادئ الحركة الوطنية، وزُج بالرجل في السجن، لكن سرعان ما أطلق سراحه لعدم ثبوت الأدلة..
وجاءت انتخابات 1948 لتضع مسمارا آخر في نعش الأمل، و تمكنت السلطات الاستعمارية وبتواطؤ من عملائها من تزييف نتائج الانتخابات وتزويرها لصالح أغلبية افتراضية من المعمرين وأذنابهم من العملاء للسيطرة على دفة الأمور.
وتحول المجلس النيابي الصوري إلى أداة في خدمة المستعمر، وقد شارك عاشور زيان في الحملة الانتخابية لصالح مرشحي حزبه حركة انتصار الحريات الديمقراطية.
لكن المستعمر واجه هذا النشاط بالمضايقة ثم الاعتقال والسجن بتهمة العمل ضد أمن الدولة وإثارة الشغب.
وحاول أعوان المستعمر استمالته عن طريق تقديم عروض إغراء للتوقف عن النضال، لكنه رفض ذلك، فاليأس من المستعمر بلغ مداه وإمكانية تحقيق الأهداف الوطنية بالوسائل السلمية بدأ يتلاشى ويبدو عقيما وغير مجد.
وازدادت المضايقات حول تحركات الشهيد وحرم من ممارسة مهنته التي يقتات منها، الأمر الذي دفع به إلى الهجرة والاستقرار بمدينة «ليون» وبها واصل نضاله بتولي مسؤوليات داخل هياكل الحركة قبل عودته سنة إلى أرض الوطن، مواصلا نضاله رغم المضايقات والسجن.
أسد الصحراء يزأر
وفي الشهر الأول لانطلاق الثورة، اعتقل من جديد وسجن بسجن الكدية في قسنطينة، وبعد إطلاق سراحه، عمد إلى الإسراع في تكوين الطلائع الأولى لجيش التحرير في الصحراء.
إستطاع تكوين جيش يفوق عدده ألف مجاهد وأن يوسع من رقعة تواجد الثورة في الجنوب، وخوض المعارك والاشتباك مع قوات العدو، انطلاقا من جبل بوكحيل.
وشملت المنطقة التي كان يقودها (أولاد جلال –الجلفة –الأغواط –جبل بوكحيل –جبل قعيقع – وصولا إلى جبال القعدة غربا والبرين شمالا ثم أقصى الجنوب).
وقد أبلى الشيخ زيان البلاء الحسن وقاد الرجال في أحلك الظروف، وشكل «جيشه» شوكة دامية في حلق المستعمر، وكانت للشيخ مكانة كبيرة عند قيادة الولاية الأولى.
وصفه الشهيد مصطفى بن بولعيد بـ»الرجل المحنك الذي نعتمد عليه في الصحراء»، والتقى به في آخر اجتماع له قبل استشهاده، وحسب شهادة بعض رفاق الشهيد.
فقد عينه بن بولعيد قائدا للصحراء، وكان في مستوى المسؤولية، إلى أن استشهد في معركة واد خلفون قي السابع من نوفمبر 1956 في معركة دامت ثلاثة أيام.
وهي معركة كبيرة وغير متكافئة، أشارت إليها الصحف الاستعمارية في صفحاتها الأولى، وباستشهاده طويت صفحة ناصعة من بطولات أبناء الجزائر ولكن الثورة لم تنته، واستمرت الملحمة إلى غاية استرجاع السيادة.