تستعيد الجزائر كل عام ذكرى اليوم الوطني للمجاهد الأغر لما يحتوي عليه من ازدواجية لحدثين جليلين: هجوم الشمال القسنطيني 20 اوت 1955 ومؤتمر الصومام في نفس اليوم من سنة 1956.
ومهما اوتينا من بلاغة القول وقدرة على التعبير والافصاح لا يمكننا بأي حال من الاحوال ان نعطي هذين الحدثين مدلولهما التاريخي ورمزيتهما لكونهما أحدثا نقلة نوعية في مسار ثورتنا المجيدة.
لقد زعم المحتل الغاصب كذبا أن الثورة التحريرية المباركة كانت من صنع القاهرة او هي امتداد لانتفاضة تونس 1952، وما هي في نهاية المطاف إلا «أعمال شغب قامت بها جماعة متطرفة وخارجة عن القانون سماهم بالفلاقة»، على حد تعبير الدعاية الاستعمارية.
ولقد طمأنت القيادة الفرنسية مستوطنيها وإدارتها وعملائها بأن ردة الفعل العنيفة لجيشها الجرار لن تدوم اكثر من أيام، حتى انهم زعموا بأن أحداث الجزائر مثلما درجوا على تسميتها الى تاريخ قريب هي في ذلك الوقت تعيش الربع الساعة الاخير.
فاجأتهم قيادة المنطقة الثانية برئاسة القائد والشهيد البطل والرمز زيغود يوسف خليفة الشهيد المغوار ديدوش مراد، بأن تحدت فرنسا بأكملها بانتفاضة التحم فيها الشعب بوسائل بدائية مع طلائعه المقاتلة من جيش التحرير الوطني بأسلحتهم المتواضعة ليدكوا حصون الاحتلال.
وما كان اختيار قادة الثورة وضح النهار لبدء الهجوم الا ليبعثوا رسالة قوية وواضحة للعدو بأن هذا الشعب وطلائعه يؤثرون الشهادة على حياة الذل، وان ما يحصل في الجزائر ليس أحداث ظرفية عابرة وانما ثورة نابعة من شعب كابد أكثر من قرن وربع قرن مضى من الاحتلال.
وان هذا الشعب صمم أن يضع القطيعة النهائية مع تاريخ عبوس مهما كانت التضحيات، وأن هذا المحتل غبي لم يفهم تفاعلات حركة التاريخ التي تغيرها إرادة الشعوب من خلال حركات التحرر العالمية في كل القارات.
وقد أدرك قادة الانتفاضة أهمية صوت الجزائر في المحافل الدولية وتحديدا الامم المتحدة كمنبر لإسماع صوت المستضعفين في الارض، وما الى ذلك من الرسائل التي استشرف ارسالها هؤلاء القادة بما في ذلك قطع الشك باليقين، ووضع حد لكل المترددين في الداخل والخارج عن الاندماج في الثورة والايمان بمشروعيتها وبتصميم الشعب على إنهاء دابر الذل والهيمنة.
و الحدث الثاني ونقصد به مؤتمر الصومام، فقد كان ضمن رزنامة القيادة الشرعية للثورة منذ 1954، وما كان تأخر انعقاده إلا لاعتبارات ظرفية، حتى اذا كان يوم 20 اوت 1956 اجتمع شمل قيادة المناطق باستثناء المنطقة الاولى نظرا لاستشهاد قائدها مصطفى بن بولعيد وتأخر وصول القاعدة الشرقية وتعذر حضور القادة في الخارج.
ناقش هذا المؤتمر أحوال الثورة في مسيرتها التي قاربت العامين، وتقرر في هذا المؤتمر ضمن أرضيته الشامل العديد من الاجراءات العملية لهيكلة وتنظيم وإدارة وتنفيذ المخططات الكبرى على المستوى الداخلي والخارجي لمواصلة الفعل الثوري.
فعلى المستوى الداخلي استبدلت المناطق بالولايات، واضافة الولاية السادسة للجنوب ووضع رتب تسلسلية لقيادة الولاية وتوزيع المهام حسب المناطق وتنويع المهام إضافة الى قادة الولايات ومعاونيهم العسكريين والسياسيين.
ودرست جميع الإجراءات في التمويل واللوجيستيك والايواء والتموين وتنظيم جماهير الشعب وإخراجها من دائرة سلطة المحتل، كما درست مسألة العلاقات بين الولايات.
وعلى المستوى الخارجي فقد أقر المؤتمر بتأسيس قيادة عليا متمثلة في المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي يعد السلطة العليا للثورة، ولجنة التنسيق والتنفيذ وهي بمثابة تمثيل دبلوماسي يسهر على تنفيذ القرارات الصادرة عن المجلس.
يشير الباحث أحسن ثليلاني إلى أن هجومات 20 اوت 1955 جاءت بعد تسعة أشهر من اندلاع الثورة، حيث شددت السلطات الفرنسية الخناق على منطقة الاوراس التي تعد مهد الثورة ومركز قوتها.
فبدأ زيغود يوسف يفكر في شن هجومات شعبية بعد أن تلقى رسالة من القائد شيهاني بشير يطلب منه فيها القيام بعمل من شأنه إجبار إدارة الاحتلال على تشتيت قواتها وبالتالي فك الحصار على منطقة الاوراس.
فكانت خطته ان تكون هجومات شاملة لكل القطر الجزائري شرقا وغربا، شمالا وجنوبا لكن الظروف جعلت الهجومات تقتصر على الشمال القسنطيني والذي يضم ستة ولايات هي جزء من سطيف وقسنطينة وميلة وجيجل وسكيكدة وقالمة وعنابة.
و عن سبب اختيار يوم السبت 20 اوت بعناية فائقة فيقول الدكتور «لانه يوم عطلة يسرح فيه الجنود ويوافق يوم سوق في مدينة سكيكدة، مما يسهل تسلل جنود جيش جبهة التحرير الى المدينة، وتحديد منتصف النهار لأنها فترة قيلولة وانشغال الجنود الفرنسيين بالخروج للغداء».
من جهته يؤكد المؤرخ مولود قرين ان هجومات الشمال القسنطيني تعبر عن عمق التفكير الاستراتيجي لمهندسي الثورة، خاصة الشهيد الرمز، «زيغود يوسف»، لأن هذه العمليات لم تكن مجرد عمليات عسكرية استهدفت مراكز العدو وفقط، بل كان لها جملة من الأبعاد والدلالات وطنياً ودوليا.
ويشير الباحث الى ان البعد الوطني لهجومات الشمال القسنطيني يتمثل بالدرجة الأولى في إجهاض مناورات الحاكم العام «جاك سوستيل» الذي طرح مشروعاً إصلاحياً خطيرا حاول من خلاله عزل الثورة عن الشعب، وهناك من مرضى النفوس من آمن بطرح سوستيل.
وبدأ في الدعاية ضد الثورة الجزائرية، وقد اطّلع «زيغود» عن هذا المخطط بعدما بعث له «البشير شيهاني» رسالة في جوان 1955م، فصّل فيها استراتيجية مواجهة مخطط سوستيل.
وهذا بعد عثوره على هذا المخطط ضمن وثائق «ديبي» (Dupuy) الحاكم المدني لبلدية «قنتيس» المختلطة بعد القضاء عليه في كمين محكم في ماي 1955م، لذلك وضعت قيادة الشمال القسنطيني قائمة من الشخصيات السياسية والإصلاحية في مدينة «قسنطينة» دخلت في اتصال مع جاك سوستال، وجب القضاء عليها.
ويقول «من أبعاده الوطنية كذلك فك الحصار على منطقة الأوراس التي كانت تعاني من تضييق الخناق لاعتقاد فرنسا أن الثورة في الأوراس دون غيرها من المناطق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فكّر «زيغود» في أن الحل الوحيد لإنعاش العمل الثوري في المنطقة الثانية التي عرفت ركودا وتململا في أوساط الجماهير خاصة بعد استشهاد «ديدوش مراد» هو القيام بعمليات عسكرية في منصف النهار تستهدف مراكز العدو.
وقد حددت ثلاثة أيام: 20 أوت مهاجمة مراكز العدو، 21 أوت اعدام الخونة الذين وقعوا ضحية لمشروع جاك سوستيل».
ويضيف «بالنسبة لأبعاده الدولية فقد كان يفكر زيغود في تدويل القضية الجزائرية وهذا ما أخبر به «بن طوبال»، حيث قال له: « … يجب أن تتجاوز المشكلة الجزائرية حدود التراب الجزائري …إذا لم يخرج صوتنا وسمع في الخارج سنختنق وسنخسر المعركة»، لأنه كان مدركا لجهود وفد جبهة التحرير الوطني الديبلوماسية خاصة بعد مؤتمر «باندونغ»، ومدركا كذلك أن انعقاد دورة جمعية الأمم المتّحدة على الأبواب.
وفعلا حققت تقريبا جميع الأهداف المسطرة، ومن جملة ما حقق، ارباك العدو ونقل الذعر بين الجنود الفرنسيين، واقتنع كثير المترددين بالثورة ففيما بين صيف 1955 وخريف 1956م انضم الكثير من المركزيين ومن حزب فرحات عباس ومن العلماء إلى جبهة التحرير الوطني».
ويؤكد المتحدث ان أكبر نصر حققته الهجمات هو الصدى الدولي الذي حققته، وذلك بفضل الصور الحية التي أوصلها الصحفي الفرنسي الذي كان يعمل لصالح الشركة السينمائية الأمريكية Foxe Movietone « شاسان جورج» (Chassane Georges) عن مجزرة عين عبيد يوم 23 أوت 1955م.
فوصلت الصورة إلى مقر هيئة الأمم المتحدة واعترفت فرنسا بحقيقتها وادعت بأنه عملا معزولا من بعض أفراد الدرك، لذلك عبر «جاك سوستيل» قائلا:» إن ما وقع في نيويورك أثمن من قافلة أسلحة توجه إلى جبهة التحرير الوطني».
مؤتمر الصومام منعرج حاسم
ويلفت قرين الى ان مؤتمر الصومام 20 أوت 1956 رغم الجدل الحاصل حوله، وحول ما انبثق عنه من قرارات ومؤسسات، إلا أنه يعتبر منعرجا حاسما في تاريخ الثورة الجزائرية والجدير.
وأشار الى أن الدعوة إلى عقد مؤتمر تقييمي كانت في اجتماع 23 أكتوبر 1954م، إذ قررت مجموعة الستة تنظيم مؤتمر شامل بعد سنة من الإعلان عن تفجير الثورة في جانفي 1955م، غير أن الظروف الصعبة التي عرفتها الثورة عشية الاندلاع أجلت اللقاء إلى غاية أوت 1956.
وظل التفكير في عقد مؤتمر جامع ترواد أذهان قادة الثورة، ومن أشهر من فكر في ذلك قائد المنطقة الأولى «الشهيد مصطفى بن بولعيد» سنة 1955م حسب بعض الشهادات الحية لمجاهدين من «الأوراس» أن «مصطفى بن بولعيد» بعد فراره من السجن بتاريخ 11 / 11/ 1955م كان قد اتصل بالمنطقتين الثانية والثالثة.
فتواصل مع الثانية عن طريق مبعوثين، وهما «اعبيد الحاج لخضر» و»عمّار السيكليست»، وبالمنطقة الثالثة بواسطة «محمد العموري» وذلك لأخذ الرأي في اجتماع الولايات على حد تعبير «بن بولعيد» غير أن استشهاده حال دون تحقيق ذلك.
وينوه المؤرخ الى ان «علي كافي» أكد في مذكراته أن فكرة عقد مؤتمر وطني جامع اقترحها قائد المنطقة الثانية «زيغود يوسف» على «عمارة رشيد» الذي قدم مبعوثا من المنطقة الرابعة، فاقترح عليه «زيغود» «ضرورة عقد مؤتمر وطني من أجل التقييم وبلورة الطريق التي حددها أول نوفمبر، وتكوين قيادة موحدة على المستوى الوطني… وكان الاقتراح أن ينعقد المؤتمر في المنطقة الثانية فهي على أتم الاستعداد لذلك».
وبعد عودة «عمارة رشيد» إلى مدينة الجزائر، ومعه رسالة مطولة من «زيغود يوسف» إلى «عبّان رمضان» وافق على الفور، وأرسل «سعد دحلب» كمبعوث للمنطقة الثانية، وبعد معاينته للمنطقة الثانية عاد إلى مدينة الجزائر جاءت رسالة من المنطقة الرابعة للموافقة على عقد المؤتمر.
اختير مكان «المشروحة» بجبال «بني صالح» غير أن «باجي مختار» استشهد، ثم اختارت القيادة مكان «بو الزعرور» وهو مكان حصين طبيعيا يصعب على العدو التوغل فيه.
ويشير المؤرخ في السياق ذاته الى ان «بن طوبال» يذكر أن زيغود اتصل بمنطقة الأوراس بخصوص التحضير للمؤتمر، غير أنه تفاجأ باستشهاد «شيهاني»، والقيادة في الأوراس لم تقدم حجة مقنعة حول أسباب استشهاده، وبعدها بقليل وصل نبأ استشهاد «مصطفى بن بولعيد»، هذا ما جعل زيغود لا يطلب لقاء القيادة الجديدة، ولكن يقول بن طوبال: « قد أخبرناهم بانعقاد المؤتمر وأبدوا قبولهم به».
ويضيف ذات المتحدث «بعد أن شكت القيادة في اكتشافه تقرر عقده في منطقة الصومام بأزلاقن لحصانتها الطبيعية.»
ويلفت مولود قرين الى ان مؤتمر الصومام لازال الى يومنا هذا يطرح جملة من الإشكاليات، لعل في مقدمتها إشكالية «الشرعية» الناتجة عن غياب ممثلي المنطقة الأولى، والوفد الخارجي في القاهرة، ولكن إذا طالعنا مختلف الشهادات والوثائق المتعلقة بالمؤتمر،.
سنلاحظ بأن كلاهما أبلغا بانعقاده، بل أن المنطقة الأولى قد أرسلت وفدا يقوده «عمر بن بولعيد» الذي كان قد وصل، حسب شهادة بن طوبال» إلى الصومام قبل وفد المنطقة الثانية رفقة كتيبة تتكون 400 رجل.
غير أنه قرر العودة إلى منطقته لإيجاد حل لمشاكل القيادة في الأوراس ثم العودة إلى الصومام من جديد، وقد أبلغ المؤتمرون حسب شهادة «بن طوبال» دائما بعودته وأنه قرب سطيف، فأرسلوا له مجموعة لمقابلته غير أن المجموعتين لم تتقابلا.
ويردف قائلا «أما بالنسبة للوفد الخارجي فتوحي المراسلات التي كانت بينهم وبين عبان رمضان أنهم كانوا على علم بالمؤتمر وأنهم لإجراءات أمنية لم يتمكنوا من دخول الجزائر».
ويذكر قرين انه من بين الإشكاليات التي يطرحها مؤتمر الصومام كذلك أشكالية الأولويات، أولوية الداخل عن الخارج، وأولوية السياسي عن العسكري، فالداخل كان يرى بأن الدور المحوري منوط به بالدرجة الأولى، أما بالنسبة للسياسي والعسكري، فخلال هذه المرحلة كانت تقتضي عملا سياسيا وديبلومسيا قويا خاصة بعد تدويل القضية الجزائرية.
ويضيف «لكن رغم هذه الإشكاليات يجب أن نركز على الجوانب الإيجابية بالدرجة الأولى، وذلك لما انبثق عن المؤتمر من مؤسسات وقرارات تنظيمية جعلت من الثورة تسير بخطى ثابتة إلى غاية تحقيق النصر».
يعد كل من مؤتمر الصومام وهجومات الشمال القسنطيني مشروعا استشرافيا لما يجب ان تكون عليه الثورة في صيرورتها في الداخل والخارج، من أجل تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في اقتلاع جذور الاحتلال وتحرير الوطن.
وعليه فإن هذين الحدثين لهما ابعاد محلية وإقليمية وعالمية، وقبل هذا كله هما رصيد قيمي خالد لتحصين شعبنا عبر أجياله المتعاقبة من أجل الحفاظ على وحدتنا الوطنية الشعبية الترابية واقتلاع جذور التخلف.