برزت ميلة في العهد النوميدي كإحدى أهم المدن التابعة لماسينيسا، وتذكر المصادر أنها كانت إحدى مقاطعاتها تدعى ميلو نسبة إلى ملكة كانت تحكمها.
ظهرت ميلاف في العهد الروماني وفي عهد يوليوس قيصر، كواحدة من المدن الأربع التي تشكل الكونفدرالية السيرتية.
فتحت ميلة في 674م أي سنة 55هـ من قبل الصحابي أبو المهاجر دينار، بعد أن حاصرها حصارا محكما وقطع عن أهلها الماء حتى استسلموا له ، واستقر بها وبنى أول مسجد في الجزائر يسمة مسجد سيدي غانم.
مسجد سيدي غانم
يعتبر هذا المسجد الأول في الجزائر والثاني في المغرب العربي بعد القيروان وقد بناه الصحابي الجليل ابو مهاجر دينار سنة59 هجرية على أنقاض معبد روماني، وقد أدخلت عليه تغييرات كبيرة أثناء الحكم التركي والفرنسي للجزائر، هو أحد أهم المعالم الباقية في مدينة ميلة القديمة.
إختلف الباحثون في تسمية مدينة ميلاف، إلا أن معظمهم أكدوا أن أصلها امازيغي، تعني الألف ساقية أو الأرض المسقية ،وميلو تعني الظل في اللغة الامازيغية وميديوس تعني المكان الذي يتوسط أمكنة عديدة، وهو مشتق من موقعها الجغرافي لأنها تتوسط أهم المدن القديمة.
استولى البيزنطيون على المدينة بين (539-540م) وعملوا على تجديد بناء أسوارها وأبوابها ومنشآتها العمرانية، ونظرا لأهميتها الدينية والإستراتجية جعلوا منها المدينة القلعة و قام القائد صولومون ببناء السور المحيط بالمدينة وطوله 1200 متر ودعمه بـ 14 برج للمراقبة، وقد حرس على ضم أهم معالم المدينة الرومانية.
سلط الباحث عز الدين مجاني من جامعة تيارت الضوء على المواقع التاريخية في مدينة ميلة المعروفة قديما باسم ميلاف Milev.في دراسة بعنوان”تاريخ وأثار مدينة ميلة القديمة”.
من بين أهم المواقع المقاطعة النوميدية وملتقى الطرق المؤدية إلى عواصم المقاطعات الرومانية في المغرب القديم في الفترة الرومانية والبيزنطية، والسور البيزنطي وأبراجه.
ويوضح الباحث أن سبب القيام بهذه الدراسة، هو قلة الأبحاث التي تعرضت لتاريخ الموقع في فترته القديمة،خاصة الأسوار الدفاعية البيزنطية على طول 1200متر،ومختلف لواحقها و عين الماء الرومانية الموجودة في قلب المدينة القديمة والكنيسة الكاثوليكية للقديس”أبتاتوس الميلي”.
تقع ميلة القديمة في مدينة ميلة عاصمة الولاية ذاتها،على علو 460متر على سطح البحر ،ما بين خطي طول 820 و821 م شرقا ،وما بين خطي عرض 355-356 شمالا ،وهي عبارة عن مجموعة سكنية.
كانت النواة الأولى لمدينة ميلة الحديثة ،أطلق عليها الفرنسيون اسم مدينة العرب ،وشاع عند معظم السكان حاليا تسمية هذا الجزء من مدينتهم بالثكنة، نسبة إلى الثكنة الفرنسية التي أخذت لنفسها مكانا في أحد أجزاء السور البيزنطي الذي يحيط بها.
يبرز الباحث مجاني أن المدينة كانت سنة 46 قبل الميلاد ضمن قطاع الملك ماناساس حليف يوبا الأول ، لم ترد أي معلومة حول ما إذا كانت مدينة بالمفهوم القديم أو مجرد قطاع وإقليم ،بعد انهزام يوبا الأول وحليفه أمام القيصر وأتباعه.
قام هذا الأخير بإهداء قطاع للمرتزق سيتيوس Sitius مع مدينة ميلة ،والذي قسمه على جنوده لتكون أربعة مناطق بعواصمها الأربعة، وهي سيرتاCirta ،القلCollo،سكيكدة Rusicada وميلة Milev,وبعدها اعتمد تسمية المدينة بهذا الاسم.
وقد ورد اسم المدينة على أشكال عدة ذكرت على لسان بطليموس بتسمية ميريوس Mireos,Mileum,Meleon.وأخيرا ميلاف، وقد عثر على التسمية في نقيشة بتيديس COL.SARN.MILEV..
ويشير الباحث إلى أن، أهم ما يلفت النظر في المدينة هو السور البيزنطي الذي يحيط بها ،والذي لا تزال أجزاء منه ظاهرة للعيان، و من الداخل يوجد منبع ماء على شكل عين ماء تعود إلى الفترة الرومانية ومسجد ينسب إلى أبي مهاجر الدينار،كان كنيسة رومانية.
يعتبر منبع المياه المنبع الروماني الوحيد الشاهد على الحضارة الرومانية بهذه المدينة، في انتظار إزالة الغموض، والشكوك حول المبنى المتواجد تحت قواعد أحد المساجد في المدينة،يضيف الأستاذ مجاني.
ويؤكد إعجاب الرحالة بهذا المنبع الذي ذكره البكري تحت اسم “عين أبي السبع”،يتواجد هذا المنبع في الجهة الشمالية الشرقية من داخل السور الدفاعي بالقرب من البوابة الرئيسية “باب البلد” الذي يعود إليها أصل التسمية.
تسمى حاليا بعين البلد وهي عين ذات عمارة رومانية تتكون من غرفة صغيرة مقببة على شكل النافورة الرومانية مسندة على جدار خلفي من الحجارة الضخمة ،تبلغ مقاساتها 2.50م,2.90م،وبارتفاع إجمالي 1.95موجهة شرق غرب.
تحتوي الواجهة الأمامية منها على فتحتين في الأسفل ينساب من إحداها مياه عذبة صالحة للشرب ،و بخصوص الأخرى فهي أصغر حجما من الأولى ،وتعتبر الفتحة الأصلية فيها لكونها مبنية ومتقنة وليست مجرد ثغر خال من أي عنصر فني، حسب ما أوضحته الدراسة.
إضافة إلى أنها جافة لا يسيل منها الماء، يقول الباحث :” تصب هذه المياه في حوض أقل ما يقال عنه تحفة معمارية فنية، ليتم توجيهها بواسطة ساقية تمر بمحاذاة السور الخلفي المذكور سابقا التي تصرفها تحت الأرض”.
وقد قام الفرنسيون بتعديلات على هذا المستوى لا تتجاوز حدود الصيانة، التي امتدت إلى العين نفسها.
وعن مصدر هذه المياه، فقد اختلفت الآراء وتعود أولى التفسيرات إلى البكري الذي يقر بأن مياهها جلبت من جبال بني ياروت ويقول فقنان FEGNANنقلا عن كتاب الاستبصار لأحد الرحالة العرب أنها جلبت من جبل تامروت.
ويرى الباحث قزال أن، هذه المياه مصدرها جبال “مرشو” المتواجدة جنوب المدينة والتي تزود منها هذه الأخيرة بالمياه، عبر قناة ناقلة حولت بعض مياهها نحو هذه العين.
ويضيف الباحث: ” يتميز السور الدفاعي البيزنطي بالتقنية البيزنطية المتبعة في تشييد العمران الدفاعية، يتكون من جدارين من الحجارة الضخمة بينهما فاصل مكون من الدبش والملاط ،يبلغ أقصى سمك السور 3.30متر،وأدناه بمترين”.
و العلو فبلغ أقصاه ناحية البوابة الرئيسية في الجهة الشمالية الشرقية، ب 4.90م،وأقل ارتفاع له بلغ في أجزاء مختلفة من الواجهة الجنوبية مترا واحدا، ويتكون في هذا الجزء من جدار أحادي.
ويشير الأستاذ أن ، الجدار الثاني المكون له تهدم ولم يجري الفرنسيون تعديلات ،انحصرت تدخلاتهم على الجزء الأعلى من السور في الجهة الشمالية الغربية.
يتخلل هذا السور الذي يمتد على طول 1200متر،وعلى مسافات مختلفة و متقاربة أربعة عشر برجا،يحتوي على 17برجا في الوقت الحالي.
يحتوي هذا السور على بابين رئيسين يعودان إلى الفترة البيزنطية، وهما باب البلد في الشمال الشرقي يقابله في الجهة المعاكسة ناحية الجنوب الغربي باب الحديد، وهما متشابهان لحد بعيد في الحجم وتقنية البناء، حسب ما أوضحته الدراسة.
14 برجا أصليا
فيما يخص الأبراج يحتوي هذا السور على 14برجا أصليا، يجتمعون في شكل موحد وهو الشكل الرباعي ذو المزايا الدفاعية المتوسطة بالمقارنة مع الأبراج الدائرية ،وتعتبر أسهل بناءا وأوفر جهدا ومالا،و البرج رباعي الأعمدة.
وهو أهم برج في السور نظرا لشكله الفريد من نوعه، أكثر تعقيدا وحجما من باقي الأبراج المعروفة،وأشبه بأقواس النصر المعروفة وأطلق تسمية رباعي الأعمدة من طرف مكتشفه الباحث برقولا سنة 1927،أقام عليه حفريات خاصة.
وتمكن من بلوغ قاعدته التحتية لتوسع الحفريات من طرف ستامسكي سنة 1957، تم الوصول إلى قاعدته التي بني عليها والتي تقع على عمق 3.5متر يوجد هذا البرج في الجهة الشرقية للسور الدفاعي عند نقطة تحول مسار السور الدفاعي بزاوية 27درجة.
مخطط هذا البرج مستطيل الشكل بمقياس 8.5م على 10.40م، وبلغ سمك جدرانه 2.5م يتكون كل جدار من هذا البرج من قسمين، قسم أول عبارة عن شريط يتراوح ما بين 1م و1.20م.
يليه قسم ثاني عبارة عن بوابة مقوسة مشكلة من قطع حجرية عديدة ،تمثل كل بوابة مع قوسها واجهة من واجهات الأبراج الأربعة، يبلغ عرض كل باب من هذه الأبواب المقوسة 4.65م.
زوايا هذا البرج عبارة عن أربعة أعمدة حجرية ضخمة،في الواجهة الشمالية للبرج المسندة إلى السور الدفاعي توجد بوابة وسط السور مع قوس.
وتطرقت الدراسة إلى وجود مجموعة من المداخل، وهي المدخل الرئيسي للمدينة البيزنطية ميلاف يقع في الجهة الشمالية الشرقية والمسماة “باب البلد” والثانية من الجهة الجنوبية الغربية تدعى “باب الحديد”،وهذا رأي معظم الباحثين وعلى رأسهم قزال.
“باب الرؤوس”..
وهناك المدخل الثانوي يسمى “باب الرؤوس” وهو المدخل الثانوي الوحيد في السور،فتحة مستطيلة الشكل بعرض 1.55م.
يعتبر السور البيزنطي معلما رسميا، وهذا بشهادة المؤرخ بروكوبيوس الذي أقر ببنائه على يد صولومون بتوكيل من الامبراطور جوستينيان.
يقول الباحث: “كان للجنرال صولومون عهدتين في المقاطعة الأفريقية من 534 الى 536م ثم من 539 الى 544م، فإلى أيهما يعود تاريخ البناء ؟لم يتم العثور على أي أثر للنقيشة الإهدائية التي من المفترص أن ترافق المعلم،ومن شأنها تحديد الفترة”.
أجمع العلماء على أن 539 هي سنة تشييد هذا السور الدفاعي، وتؤكد دراسة الباحث دورليا أن، معظم النقوش الإهدائية للمعالم الدفاعية البيزنطية الرسمية في هذه المناطق تعود إلى سنة 539 م في فترة تنصيب صولومون حاكما عاما للمقاطعة الأفريقية.
يوجد في الجهة الغربية للسور من داخل المدينة البيزنطية ميلاف، وبالتحديد في الجزء الذي اتخذ منه الفرنسيون ثكنة أهم مسجد هو الأول في الجزائر، والذي يدعى مسجد سيدي غانم أقيمت عليه حفريات سنوات الثمانينيات، مست القواعد التحتية له أين كشف عن سور ذي تقنية بناء غاية في الجمال تتكون من أحجار ضخمة منحوتة بشكل فني دقيق.
يؤكد الأستاذ مجاني في هذا الشأن:” مرصوصة بشكل بارع تعودنا على رؤيته في العمارة الرومانية ذات الطابع العام أو المقدس، ما أدى إلى الشك في أنه من أحد أسوار كنيسة رومانية ،باعتبار عادة المسلمين إقامة مساجدهم الأولى على أنقاض الكنائس الرومانية أو البيزنطية”.
ويضيف: “لحد الآن لا يمكن الجزم بأن هذا الجدار هو لكنيسة، يبقى أهم دليل أثري هي الحنية abside التي تعرف بها الكنيسة”.
وحسب النصوص الأثرية فإن مدينة ميلاف كانت لها أربع كنائس تعود إلى عام 411م.