فيلم “أولاد نوفمبر”، الذي عرض سنة 1976 مازالت أجيال وأجيال تتذكره وتدمع العين عندما نشاهد معاناة الطفل مراد بن صافي (قام بالدور عبد القادر حمدي) كان يبيع الجرائد ليعيل أسرته الفقيرة، لأن والده مريض.
تحول هذا الطفل فيما بعد الى مطارد من طرف الشرطة الفرنسية، بعدما نقل رسالة الى المجاهدين بطلب من مناضل بالقصبة يدعى عمي العربي.
يجسد هذا الفيلم بدقة الصورة الحقيقية لملايين الأطفال الجزائريين، الذين ساهموا في الثورة بوعيهم ونضجهم المبكر ووطنيتهم.
هناك من تكفل بالاتصال والتعاون مع المجاهدين في القرية حين يأوون إلى البيت وتقديم الأكل والشرب لهم، وإعداد ما يحتاجونه وجمع المعلومات وشراء المؤن.
كان الأطفال ينقلون رسائل وسلاح للمجاهدين في الجبل دون خوف، ويترصدون الخونة. ومنهم من غامر بحياته ليسرق رشاشا أو مسدسا من منزل مستوطن أو عميل وتسليمه للمسؤول عن الثورة في قريته أو حيه، إضافة إلى بث الوعي الثوري في أوساط أقرانهم من الأطفال.
أدركت السلطات الاستعمارية الدور الخطير للطفل الجزائري، وحاولت التأثير على هذه الشريحة عن طريق مكاتب ضباط الشؤون الاجتماعية، ويستغلون في ذلك التعليم والعلاج والمساعدات الاجتماعية.
مثال بزويش..
عانوا من وحشية الإدارة الإستعمارية فلم يسلموا من الإعتقالات والتعذيب والتشريد والقتل، بسبب مساعدتهم للمجاهدين ونقل الأخبار والتستر على مكان إختبائهم.
بطولاتهم تبقى خالدة في سجل التاريخ، عمر الصغير، سليمان بوزويش وغيرهم كثر في مناطق عديدة من الجزائر، يذكرهم التاريخ بشرف، وتفتخر كل أم جزائرية بأنها أنجبت هكذا أطفال.
حرمت شريحة كبيرة من الأطفال الجزائريين من التعليم بسبب غارات طائرات الإستعمار الفرنسي وهجمات جيشه المفاجئة التي استهدفت المؤسسات التعليمية، وعلى رأسها المدارس الحرة لاسيما في الأرياف.
وقد نجم عن حملات الاعتقالات والمداهمات التي شنها العدو ضد السكان العزل بالأرياف تعرض آلاف الأطفال لصدمات نفسية.
إضافة إلى العدد الهائل من الأطفال اليتامى في المراحل الأولى للثورة التحريرية، حسبما أكده الدكتور محفوظ تاونزة من جامعة خميس مليانة في مقال بعنوان “الطفل الجزائري في إهتمامات ثورة التحرير الجزائرية” صدر بمجلة لغة-كلام في 2016.
تحدثت الكتب وبعض الصحف الوطنية عن معاناة الطفل الجزائري إبان الثورة، وأعطت أمثلة عن بعض الأطفال الشهداء الذين ضحوا من أجل حرية الجزائر، منهم الطفل الشهيد السعيد هباط المدعو سليمان بزويش، من مواليد 29 فيفري 1944 بقرية تيحداط ببلدية بوزينة بمنطقة أريس بباتنة، وهو مثال لملايين الأطفال الذين استشهدوا ومنهم من عاش إلى ما بعد الإستقلال.
إحتك بأول فوج رآه في الناحية خلال منتصف الخمسينيات، لأنه أعجب بمواقف المجاهدين ونشاطهم الثوري، الأمر الذي جعله يتحمس للجهاد ويصر على الإلتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني.
كان يردد أقوال المجاهدين والأناشيد الوطنية والشعارات الثورية التي حفظها منهم، ثم لقنها لأقرانه بالقرية، حسب شهادة تاريخية ليوسف البعلاوي في مقال بعنوان “أطفال وعبرة في قصة” نشر في العدد 83 من مجلة الثقافة لشهري سبتمبر وأكتوبر 1984.
وحسب شهادة البعلاوي، كان بزويش يصارح أمه بقوله: “أشعر بدافع قوي يحثني على الإلتحاق بالثورة والانضمام إلى جيش التحرير.. وإني عاقد العزم على القيام بعملية خطيرة أبرهن بها على إخلاصي في حب الوطن والإستعداد للتضحية والفداء..”.
ولما سمع في يوم من الأيام أنه من شروط التجنيد كسب السلاح، والقيام بعملية ضد الإستعمار الفرنسي أو الخونة، حاول بزويش الإلتحاق بصفوف الإستعمار في المراكز الريفية.
لكن طلبه رُفض بحجة صغر سنه، ثم رخص له بالدخول إلى المدرسة الفرنسية كتلميذ يتعلم مبادئ القراءة والكتابة، تقدم له المساعدات في الأكل والشرب والنوم.
لكن هذا الطفل الشجاع عمل في الخفاء وبذكاء على إفساد خطة المدرسة وتغيير الاتجاه بتنوير أفكار زملائه وأقرانه في المدرسة، ببث روح الوطنية في قلوبهم والإنضمام إلى الثورة ويزودهم بأخبار الثورة ومبادئها النبيلة.
عند التحاقه بالمدرسة كان ينفق عليه أحد الخونة من سكان القرية المسمى سعيد، وهو من المجرمين المعروفين بتعذيب المساجين في المعسكر الفرنسي، وكان الطفل خادما لزوجته وأفراد عائلته.
ليصبح موضع ثقتهم، وظل ينتظر الفرصة المواتية لتنفيذ مخططه دعما للثورة،و اغتنم فرصة خروج الخائن وزوجته من منزله، لحضور حفل أقيم في حي الحركى والقومية بالقرية.
وكان الطفل قد كلف بحراسة المنزل ومؤانسة الأبناء الصغار لهذا الخائن، واستغل فرصة انشغالهم في الحفل، فسرق سلاحه من نوع رشاش 49 وفر إلى الجبال للإلتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني، وقاتل ضمنهم لغاية استشهاده في 1962.
وقد وصف الباحث بسام العسلي في كتابه” المجاهدون الجزائريون” الوضع الكارثي الذي آل إليه أطفال الجزائر إبان ثورة التحرير.
يقول :”…. جاء في تقرير نشرته لجنة الدفاع الوطني لمجلس الشيوخ الفرنسي، تحقيقات عن مآسي مرعبة عاشها هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين فقدوا المأوى والملجأ، وراو بأعينهم أبائهم يعدمون”.
ويضيف: “فحفرت تلك المناظر المفزعة في مخيلاتهم وقلوبهم، فهم لا ينسوها أبدا، وقد فرت آلاف من هؤلاء الأطفال مخترقين الحدود التونسية والمغربية،هاربين من وحشية الإستعمار الفرنسي”.
وجاء في العدد 44 من جريدة المجاهد الصادر في 14جوان 1959، في مقال حول معاناة الأطفال الجزائريين في التعليم بعنوان “أطفالنا يستعدون لبناء جزائر الغد” :”كان يفرض على الطفل الجزائري كل صباح عندما يدخل المدرسة الفرنسية تحية العلم الفرنسي رمز العدوان والاستعمار، ويقرأ في المدرسة كلمات لا صلة لها بواقعه وتاريخه، ويردد حائرا وراء معلمه -أجدادنا الغاليون كانت لها شوارب طويلة…فرنسا وطننا…”.
وأمام هذا الوضع اللإنساني كان لزاما على الثورة الاهتمام بهذه الشريحة، لتحضيرهم للثورة ومستقبل الجزائر المستقلة.
بذلت الثورة مجهودات عظيمة لتعليم الأطفال في الداخل والخارج، عن طريق المدارس القرآنية ،وهربت الأطفال إلى مناطق أمنة، وأشرفت على المدارس الحرة وأنشأت مدارس ومكاتب تحت الأرض لتدريس اللغة العربية وتحفيظ القرآن في الأرياف.
إحتضان الثورة للطفل
وتمكنت الثورة في بعض المناطق منها الأوراس على مستوى المداشر والأرياف من الحفاظ على استمرار تعليم القرآن وتشجيعه في الكتاتيب.
وحولت بعضها إلى مدارس لتعليم المواد اللغوية والحساب والتاريخ والجغرافيا، ومبادئ الفقه الإسلامي إلى جانب تلقين الأناشيد الثورية.
وتكفلت الثورة بتعليم الأطفال اللاجئين في الخارج، وهم معظمهم أبناء شهداء فارين من وحشية الإستعمار.
قام في هذا الإطار الاتحاد العام للعمال الجزائريين، بتأسيس دارين بالمغرب الأقصى ضمتا مائتي يتيما ،ودارين بالمرسى بتونس ضمتا حوالي مائتين وستين يتيما.
وأنشأ بعد ذلك دارين للبنات إحداهما بتونس والأخرى بطنجة، قامت هذه الدور بإعداد الأطفال تعليميا باللغتين العربية و الفرنسية.
ووفقا لمنهج التعليم الابتدائي الشامل لجميع المواد:القرآن ،الحساب، التاريخ والجغرافيا، التربية البدنية والرياضية والتعليم المهني (البناء، الكهرباء، التجارة، الدهن، الخياطة والفلاحة).
واشرف على هذا التعليم معلمون ومدربون أكفاء، إضافة إلى مرشدين وموجهين الأطفال وتدريبهم على الحياة العملية.
وكان يسهر على صحة الأطفال طبيب خاص وممرض مساعد له.
وتمكنت الثورة في أعوام قليلة من احتضان هذه الشريحة، وتكوينها وترسيخ فيها القيم العربية والإسلامية، وبث فيها الحماس الثوري الوطني، فصنعت منهم ثوارا كان لهم دورا بارزا في العمل الثوري.