يعد تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بعد أربع سنوات من اندلاع الكفاح التحرري حدثا تاريخيا بارزا في مسيرة الثورة الجزائرية، وخطوة جريئة أقدم عليها قادة الثورة.
أصبح لزاما على لجنة التنسيق والتنفيذ أمام ألاعيب الساسة الفرنسيين، ومناورات الجنرال شارل ديغول الإعلان عن ميلادها تنفيذا لقرارات المجلس الوطني للثورة الجزائرية في اجتماعه المنعقد بالقاهرة من 22 إلى 28 أوت 1958م ، استكمالا لمؤسسات الثورة.

وبهذا الحدث وضعت السلطات الفرنسية أمام الأمر الواقع، وهي التي كانت تصرح دائما أنها لم تجد مع من تتفاوض.
بحلول يوم 19 سبتمبر 2022 ، تطل علينا الذكرى الــ 64 للإعلان عن تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والتي كان لها دورا رياديا في وقف إطلاق النار بعد التوقيع على اتفاقيات إيفيان التي أنهت القتال بين جبهة وجيش التحرير الوطني، والإدارة الاستعمارية الفرنسية.
يعد هذا اليوم التاريخي أحد أبرز إنجازات الدبلوماسية الجزائرية في معركة المفاوضات خلال الثورة التحريرية والتي تظل فخرا لتاريخ الجزائر.
فكرة تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية
فكرة تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية، كانت تتخمر في أذهان قادة الجزائرية منذ 1956، وفي هذا الإطار يذكر رضا مالك”أن فكرة تأسيس حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية بدأت تتبلور بعد اختطاف الزعماء الخمس يوم 22 أكتوبر 1956،وهذا بهدف الرد على هذا العدوان الفرنسي الذي استهدف من وراءه القضاء على الثورة الجزائرية باعتقال زعمائها .
وطرحت الفكرة بشكل أكثر جدية في 1957 خلال جلسات المؤتمر الثاني للمجلس الوطني للثورة الجزائرية المنعقد بالقاهرة من 20 إلى 28 أوت 1957.
اتخذ قرار تم بموجبه التفويض للجنة التنسيق والتنفيذ بتأسيس حكومة جزائرية حينما تحين الظروف المواتية.
وأعلن رسميا عن تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية يوم 19 سبتمبر 1958 بالعاصمة المصرية القاهرة في حفل كبير حضرته الصحافة ووكالات الأنباء، وسفراء بعض الدول العربية.
قام بتلاوة بيان تأسيس رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فرحات عباس، علما أن حفلين آخرين نظما بتونس والرباط في نفس الوقت.
هذا وقد سجلت أولى الاعترافات بهذه الحكومة الجديدة خلال ذلك الحفل، من طرف حكومة الجمهورية العربية المتحدة، ثم الجمهورية العراقية فالمملكة الليبية ثم المغرب فتونس فالسعودية حتى باكستان في أوت 1961.
دوافع تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية 19 سبتمبر 1958
دفعت عدة عوامل إلى تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية يمكن حصرها فيما يلي:
1- رغبة قادة الثورة في دحض ادعاء الحكومة الفرنسية في عدم وجود طرف جزائري مفاوض، خاصة أن نية التفاوض قد اتضحت معالمها لدى الطرف الفرنسي بعد وصول الجنرال ديغول إلى الحكم في فرنسا في أوائل جوان 1958.
2- الحاجة أضحت ماسة إلى طرف جزائري مفاوض له صفة تمثيل الثورة التحريرية،يكون ندا للطرف الفرنسي ، وذلك إثر ظهور معالم المنحى التفاوضي في السياسة الفرنسية بعد وصول الجنرال ديغول إلى الحكم في فرنسا أوائل جوان 1958.
3- جرت محادثات بين كريم بلقاسم عضو لجنة التنسيق والتنفيذ وجان عمروش وهو كاتب من أصل جزائري ، كان صديقا لأوليفيغيشار “أحد المقربين من الجنرال ديغول.
وعندما فهم كريم من محدثه أن الرئيس الفرنسي يبدي استعدادا واضحا للتفاوض مع جبهة التحرير شريطة أن يجد ندا له في قيادة الثورة، ثم وقع لقاء أخر بين كريم بلقاسم مرفوقا بفرحات عباس مع جان عمروش فكان ذلك دافعا قويا إلى تأسيس الحكومة.
4- توصيات مؤتمر طنجة الذي جمع حزب الاستقلال المغربي وحزب الدستور التونسي وجبهة التحرير الوطني من 27 إلى 30 أفريل 1958 ومنها تأسيس حكومة جزائرية بعد التشاور مع الحكومتين التونسية والمراكشية.
5- حاجة قادة الثورة إلى جهاز فعال لكسب التأييد الدولي في خضم التضامن الدولي مع الحركات التحررية.
6- الصعوبات التي أصبح يواجهها الثوار من الناحية العسكرية، إذ سجلت سنة 1958 منعطفا حاسما للقضاء على الثورة الجزائرية، على إثر الخناق العسكري لسلطات الاحتلال على الحدود الشرقية والغربية.
7-الخلافات التي وقعت بين أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ،وعدم قدرة أعضائها على الانسجام.
أهداف..
وعن أهداف تأسيسها فتتمثل في إقناع الرأي العام العالمي بأن المفاوض الجزائري الشرعي موجود ، أنه مستعد للدخول في مفاوضات رسمية مع الحكومة الفرنسية طبقا للشروط التي حددها بيان أول نوفمبر 1954.
والتي أقرها مؤتمر الصومام 1956، ويتمثل الهدف الآخر في وضع حد فاصل مثلما تدعيه الحكومة الفرنسية في مناسبات عديدة بأنها لا تجد أمامها ممثلا حقيقيا للمسلمين الجزائريين تتفاوض معه رسميا.
وقد لخص أحمد توفيق المدني الهدف الذي أنشئت من أجله الحكومة المؤقتة ومهمتها بقوله: ” المقصود منها إقناع الرأي العام العالمي بأن المفاوض الجزائري موجود وهو يظهر رغبته في الاتصال ضمن مفاوضات رسمية بالحكومة الفرنسية على مقتضى الشروط التي أعلنتها الثورة … والمهمة الأساسية للحكومة المؤقتة هو تحقيق الاستقلال وتمكين الجزائر من إبداء صوتها في وسط عالمي والتهيئة لهذا العمل”.
وتوضح أيضا الرسالة التي وجهتها الحكومة غداة تشكيلها للرئيس المصري جمال عبد الناصر الهدف من إنشائها حيث جاء فيها : “إن تشكيل هذه الحكومة … في هذا الوقت بالذات ، إنما هو رد عملي علني على ذلك التحدي الصارخ الذي ألقت به الحكومة الفرنسية على وجه الشعب الجزائري المجاهد عندما أعلنت سياسة الاندماج التام.
وأخذت توافي تنفيذها بواسطة إرغام الشعب على المشاركة في الاستفتاء الذي تقوم به فرنسا يوم 28 سبتمبر 1958 حول الدستور الفرنسي الجديد… وتضع حدا فاصلا لما تدعيه الحكومة الفرنسية في مناسبات عدة من أنها لا تجد أمامها ممثلا صحيحا تفاوضه رسميا لمحاولة إيجاد حل للقضية الجزائرية.
أعلن رسميا عن تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في القاهرة بتاريخ 19 سبتمبر 1958.
وفي نفس اليوم صدر أول تصريح لرئيسها فرحات عباس، الذي حدد ظروف نشأتها والأهداف المرجوّة من تأسيسها والتي حصرها في تحقيق الاستقلال واسترجاع السيادة المغتصبة وذلك من خلال:
1- تشكيل هيئة دبلوماسية تمثل البلاد في المحافل الدولية.
2- إقامة علاقات دبلوماسية مع مختلف الدول.
3- إرغام فرنسا على التفاوض مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
4- العمل على تحقيق الاستقلال التام وتمكين الجزائر من طرح قضيتها في المحافل الدولية.
من أعظم إنجازاتها
في يوم 18 مارس 1962، وبالضبط على الساعة الخامسة وأربعين دقيقة، وبعد اجتماعات طويلة مرهقة دامت 12 يوما متتالية، وبعد قراءة مفصلة لبنود الاتفاقية، تُوجت بالتوقيع عليها: عن الجانب الجزائري كريم بلقاسم نائب رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ورئيس وفدها.
وعن الجانب الفرنسي لويس جوكس وزير الدولة مكلف بالشؤون الجزائرية، وبموجبها تم وقف إطلاق النار عبر كامل التراب الجزائري يوم 19 مارس 1962 على الساعة 12 زولا.
هذا اليوم العظيم الذي لا تنساه الأمة الجزائرية مادامت خالدة، لأنه وفقا لما جاء في نصوص اتفاقيات إيفيان بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية و فرنسا اعتبر يوم 19 مارس 1962 تاريخ وقف إطلاق النار عبر كامل التراب الجزائري . و بهذه المناسبة صرح كريم بلقاسم لوكالة الأنباء الجزائرية ما يلي:
” بموجب تفويض من المجلس الوطني للثورة الجزائرية و باسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ، وقعنا في الساعة الخامسة و النصف عشية 18مارس 1962 على اتفاق عام مع الممثلين المفوضين للحكومة الفرنسية،و بمقتضى هذا الاتفاق العام أبرم اتفاق لوقف القتال يدخل حيز التنفيذ بكامل التراب الوطني يوم الاثنين 19 مارس 1962 في منتصف النهار بالتدقيق .”
وفي هذا الصدد توجه بن يوسف بن خدة رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بخطاب إلى الشعب أكد فيه أن اتفاق وقف القتال إنما يعتبر نصرا عظيما للشعب ، ثم أصدر الأوامر لمختلف قوات جيش التحرير الوطني بإنهاء العمل العسكري و النشاط المسلح في كل جهات الجزائر، وتضمن الخطاب أيضا محتوى الاتفاقيات التي أكد بأنها تتماشى و المبادئ الثورية المعلن والمعبر عنها.
بمقتضى اتفاقية إيفيان أعلن عن وقف إطلاق النار كليا على جميع التراب الجزائري يوم 19 مارس 196، وتمخض عن وقف القتال ردود فعل إجرامية إرهابية قامت بها منطقة الجيش السري الفرنسية (oas) واسترجاع الاستقلال بعد 132 سنة من الكفاح و الجهاد ضد الفرنسيين.
لقد شكلت منعرجا حاسما في اعتراف المستعمر الفرنسي باستقلال الجزائر و أفشلت ، بحنكة المفاوضين الجزائريين المتشبعين بقيم الثورة ، محاولة فرنسا استعمال جميع الوسائل لإخماد الثورة ورضخت للتفاوض و أجبرت على اللجوء للحل السياسي و الاعتراف بالجزائر كدولة مستقلة، وفق المشروع السلمي الذي بسطه بيان أول نوفمبر مرجعية الثورة الأولى.
بقلم أ.د مزيان سعيدي
مؤرخ وباحث أكاديمي