يؤكد الباحث والأستاذ في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر بجامعة المسيلة أحمد مسعود سيدي علي أن تحضير الإطارات المستقبلية للدولة الجزائرية كان الشغل الشاغل لقادة الثورة، التي عززت مكاتبها عبر العالم بإطارات شابة.
ويشير في حديث لذاكرة الشعب” بمناسبة الذكرى الـ64 لتأسيس الحكومة المؤقتة إلى وجود وثائق في دور الأرشيف الوطني تحمل قائمة بأسماء الطلبة الذين منحتهم جبهة التحرير الوطني منح دراسية للخارج.
تمر اليوم الذكرى الـ64 لتأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ما الذي يمكن إستلهامه من هذه المحطة التاريخية البارزة؟
تشكيل الحكومة المؤقتة في 1958 في حد ذاته تحدي، أي قرابة أربع سنوات من الثورة، كان قادة الثورة ينعتون من طرف الصحافة الرسمية الإستعمارية بالجزائر وبفرنسا بالخارجين عن القانون والفلاقة والتابعون للشيوعية العالمية والناصريون.
في هذا الصدد، قمت بدراسة بجرد لجل وأهم الصحف الاستعمارية لاهتماماتها بقضايا الثورة بداية من 02 نوفمبر 1954، مع المؤرخ المرحوم جمال قنان الذي كلفني بهذا في 1993.
انتقيت جريدة صدى الجزائر وصدى وهران وبرقية قسنطينة، ومن خلالها قمت بجرد اهتمامات وافتتاحيات تلك الجرائد التي تناولت فترة قبل انطلاق الثورة إلى غاية 1962، تبين لي أن هاته الجرائد كانت تشكل كبرى الصحف التي هي لسان حال المعمرين، منها مدير جريدة صدى الجزائر ألان سيريني، من الذين استقبلوا ديغول في انقلاب 13 ماي 1958 لما زار الجزائر، كان ذا نفوذ كبير وجريدته كانت تمثل مصالح المعمرين.
كانت جريدة صدى الجزائر وصدى وهران إلى غاية مفاوضات ايفيان الثانية تتفادى ذكر كلمة جبهة التحرير الوطني و اعتبرت قادة الثورة متمردين حتى أن صدى وهران وبرقية قسنطينة واصلت في نفس الخط، تتفادى ذكر التسمية لأنهم كانوا يعتقدون يقينا أن الجزائر فرنسية.
عند تشكيل الحكومة المؤقتة في 1958، كان تحدي من طرف قادة الثورة أولا بالنسبة لدول الجوار المغرب وتونس، وتحدي لفرنسا الإستعمارية التي كانت ترى المجاهدين خارجين عن القانون وقطاع الطرق، فكيف لهم تشكيل حكومة وتتلقى الاعتراف الدولي بسرعة.
هذه ملحمة الشعب الذي ظل إلى غاية 3 جويلية1963 تاريخ الإعلان عن نتائج الاستفتاء عن تقرير المصير، كان يعتقد الفرنسيون أن الجزائريين موضوع و لاشئ منذ 1830 إلى غاية إصدار قانون الانديجينا.
النصوص والقوانين الفرنسية التي أصدرتها الإدارة الاستعمارية كانت تجعل من الجزائريين شعب لاشيئ مثلما قال المؤرخ أبو القاسم سعد الله لم يكن لا راعية ولا مسلم جزائري ولا فرنسي كامل الحق.
في هذه الحالة فإن قيادته ونخبته الوطنية ممثلة في جبهة التحرير الوطني حينما تنشئ حكومة يأتيها الدعم الدولي، هذا انجاز عظيم لم يكن يحلم به لا من قادوا المقاومات الشعبية، الذين لم يتنكروا لرفقاء السلاح منذ الأمير عبد القادر، لأجل ذلك في أدبيات الثورة كانت تقول استرجاع السيادة الوطنية،كانت هناك سيادة قبل 1830 انتهكتها إدارة دوبورمون.
تشكيل الحكومة المؤقتة اخرج الثورة من النعوتات التي كانت تلتصق بها مثل الناصرية أو الشيوعية أو هو عبارة عن فلاقة خارجون عن القانون، بل هي عبارة عن ثورة ديمقراطية شعبية، قضية عادلة تريد تحقيق السلام واسترجاع السيادة الوطنية.
والأكثر من ذلك أن تأسيس الحكومة المؤقتة أظهر للعالم الحر الذي كان يتغنى بالحرية، والإيخاء والمساواة والعدالة، بأن الذين كانوا يعتبرون خارجون عن القانون هؤلاء يؤمنون بالسلام.
تأسيس الحكومة المؤقتة هو تكريس لبيان أول نوفمبر1954، الذي يقول أننا حملنا السلاح لأننا مضطرين، لكن يبقى الحل الوحيد الجلوس على طاولة المفاوضات حول استرجاع السيادة الوطنية والاعتراف بجبهة التحرير الوطني، ووحدة الشعب والتراب الجزائري، هؤلاء الذين أسسوا الحكومة المؤقتة أرادوا أن يقدموا رسالة للعالم أنهم رجال سلام.
لم يقوموا بثورة من اجل إراقة الدماء لأنهم كانوا رجال سلام وهذا الذي تحقق لأنه بعد تأسيس الحكومة المؤقتة، شكلت الثورة في حد ذاتها نقلة نوعية وأعطت دفعا لا مناص منه نحو الجلوس على طاولة المفاوضات، وحققت بعد ذلك مسألة التعجيل بالتفاوض على القضايا الأساسية خاصة منها حق تقرير المصير.
كم دولة إعترفت بالحكومة المؤقتة؟
إلى نهاية ديسمبر 1960، اعترفت 24 دولة بالحكومة المؤقتة، والى غاية 1961 اعترف الاتحاد السوفياتي بالحكومة المؤقتة.
ما هو دورها في تحضير الإطارات لتسيير الجزائر المستقلة؟
مسألة إشراف الحكومة المؤقتة على تحضير الإطارات للدولة الجزائرية المنشودة بعد الاستقلال، كانت الشغل الشاغل ليس فقط للحكومة المؤقتة بل للهيئة القيادية للثورة التي كانت مجسدة في لجنة التنسيق والتنفيذ منذ 1956 إلى 19 سبتمبر 1958 تاريخ تأسيس الحكومة المؤقتة، التوجهات العامة للسلطة التنفيذية للثورة ممثلة في هذه اللجنة من 1956 إلى 1958 كانت قائمة على التحضير لإطارات جبهة التحرير الوطني من عسكريين وسياسيين.
تحضير إطارات الدولة الجزائرية المستقلة من أولويات قادة الثورة
أمر لاحظناه في الوثائق وكل الشواهد تتحدث عنه حتى محاضر الثورة ممثلة في اجتماعات لجنة التنسيق والتنفيذ، تكلمت عن قضية التحضير للإطارات وإرسالهم في إطار بعثات علمية إلى الخارج وإعطائهم منح بمبالغ مالية للدراسة في الخارج حتى في نيويورك.
وجدنا في دور الأرشيف ببئر خادم سنوات 1957 و1958 قائمة بأسماء الطلبة الذين كانت قد سلمتهم جبهة التحرير الوطني منح دراسية، وشكلوا في حد ذاتهم إطارات عززت بهم مكاتب جبهة التحرير الوطني عبر بقاع العالم، وعززت بهم بعثاتها وقواعدها الخلفية.
عندما أقول جبهة التحرير الوطني اقصد القواعد الخلفية في تونس والمغرب يعني مختلف مصالح الثورة مصالح عسكرية، سياسية، اجتماعية ثقافية، الهلال الأحمر كان يقوده إطارات تدربوا وهو الذين كانوا يفاوضون الدبلوماسي الفرنسي في المنابر العالمية حتى على مستوى الجامعة العربية.
بالنسبة للمفوضية العليا للاجئين هذا الأمر كان يتولاه إطارات جبهة التحرير الوطني الذين كونتهم الثورة قبل 1958، بعد هذا التاريخ يصبح هذا التوجه ثابت وتقر أدبياته الثورة ممثلة في محاضر اجتماعات الحكومة المؤقتة ومحاضر المجلس الوطني للثورة.
وجدت تقارير أوردها المرحوم عبد الحميد مهري على اعتبار انه كان مكلف في حكومة فرحات عباس الأولى في شمال إفريقيا، وكان يدعو بصراحة في الاجتماعات الخاصة بالمجلس الوطني للثورة المؤتمرين من رفقاء السلاح إلى ضرورة الحفاظ على كوادر الثورة إلى ما بعد الاستقلال.
وهذا الأمر كان يجره نحو سجال وصراع مع غرمائه من رفقاء السلاح من العسكريين نقصد الألوية الأولى التي ستشكل لاحقا قيادة الأركان، وكان يعارض معارضة شرسة في إطار حوار ديمقراطي هذا الذي نسجله في برلمان الثورة.
عندما نقوم باستقراء لما يقع اليوم نقول بالفعل كانوا أناسا كبار في تصرفاتهم، الحجة التي كانت لدى مهري ورفقائه من السياسيين على العموم أن إطارات الثورة حتى من العسكريين يجب الحفاظ عليهم لما بعد الإستثلال.
لان قيادة الأركان بعد فيفري1967 كانت تصر على إدماج الإطارات في وحدات جيش التحرير الوطني، لكن الظاهر أن هاته القضايا كانت تعالج في إطار الصراع ما بين الحكومة المؤقتة وهيئة الأركان، وهذا ليس عيب هم بشر، هيئة الأركان كانت تطالب الحكومة المؤقتة بإمدادهم بإطارات الثورة لإدماجهم في وحدات جيش التحرير الوطني المرابطة بالحدود التونسية الجزائرية.
لا يجب أن نقع في محاولات قراءة ديماغوجية أو سياسية لهذه القضية، هواري بومدين ورفقائه كان لديهم تصور يقضي بأن الثورة كان لزاما لها صمام أمان، ونحن ما بين 1960 و1961 في مفاوضات رسمية وشبه رسمية والعدو يتربص بنا، والتحديات كانت خطيرة جدا لأجل ذلك كان العسكريون يرون انه من الضروري تدعيم وحدات جيش التحرير الوطني وأن تشرف على الوحدات إطارات، وهذا يدخل في إطار عصرنة جيش التحرير الوطني.
أنا من الداعيين إلى إعادة قراءة تاريخ الجزائر قراءة ليست ديماغوجية، لان الخلاف لم يكن حول السلطة، كان الخلاف حول مسألة تسيير الثورة، وبالتالي عندما تقرأ الشواهد بطريقة هادئة ترى أنه قد يكون هؤلاء على حق، حينما طالبوا من مهري وجماعته بتدعيمهم بالإطارات الشابة لأنهم سيرتقون بجيش التحرير الوطني.
لان وحدات جيش التحرير في الحدود الشرقية والغربية، عانت من ويلات الصراعات القبلية العشائرية اجتاحت الكثير من الوحدات، والأمثلة في هذا الصدد كثيرة. هذه الحركات الاحتجاجية التي اجتاحت وحدات جيش التحرير الوطني المرابطة بالحدود أنهكت قوى جيش التحرير الوطني.
هذا الأخير كان في مواجهة خطي موريس وشال وإمداده بالسلاح وتكوين صمام أمان للثورة لأنه شكل قوة رادعة.
كان مهري يحتج على قيادة الأركان التي طالبت بإدماج الإطارات في هيئة الأركان، وبرفض تسليمها كل الإطارات، كان يرى انه من غير الممكن الرهان كلية على هاته الفئة ودمجها دفعة واحدة في وحدات جيش التحرير الوطني وترك المجال لما بعد الاستقلال، لان مهري كان يقول هذه الدولة لاحقا من سيسيرها، حسب ما نصت عليه الشواهد والمحاضر التي درست عليها واطلعت عليها خاصة محاضر المجلس الوطني للثورة.
وأشير أن قيادة الأركان كان لديها أرقام إطارات الثورة حتى من التقنيات وكانوا يطالبون بدمجهم في هيئة الأركان العامة.
عندما نرى ملف المفاوضات الرسمية في افريل 1961 ما بين الحكومة الجزائرية والفرنسية، الذي انتقل إلى ايفيان الأولى إطارات كلفتهم الحكومة المؤقتة للتفاوض مع الوفد الفرنسي حول ملفات البترول والصحراء والتفجيرات النووية، وقواعد المرسى الكبير كانوا على دراية بكل صغيرة وكبيرة بخصوص مسائل متعلقة بالإجراءات وطرق المفاوضات، وراء السياسي كانوا إطارات وكان وفد الحكومة المؤقتة يراسلونه.
القضايا المتعلقة بالجوانب القانونية لحضور المعمرين بعد الاستقلال، السياسي كان يفاوض على ملف بناء على ما تحضره هذه الإطارات ،بعد الثورة مباشرة استفادت الدولة الجزائرية من إطارات جبهة التحرير الوطني على المستوى الدبلوماسي منهم خميستي، محمد الصديق بن يحيي كرمز.
وعلى مستوى سلاح الإشارة مجموعة لعروسي التي ستشكل مخابرات الدولة الحديثة، وإن على المستوى الإيديولوجي يتعلق ببرنامج دولة ديمقراطية شعبية في إطار الاشتراكية بالنظر إلى ما كان يجري في العالم حينها.
و محمد خيضر رمز لحركة الانتصار وحزب الشعب وسيكون الأمين العام لجبهة التحرير الوطني بعد الاستقلال، و في ميدان الإعلام والطاقة بلعيد عبد السلام وزير الصناعات الثقيلة وهؤلاء كثيرون وحتى على مستوى التعليم العالي.
الدولة الجزائرية المستقلة كانت بحاجة إلى كوادر من الأجانب كي تقوم بتصريف أعمالها في انتظار تشكيل إطارات جزائرية، هذا الأمر لم يكن سهلا، ما كان لديها من مخلفات الثورة بعد الاستقلال مباشرة برفع التحدي وتسيير شأن الدولة الجزائرية المستقلة.
ورفعت العلم الجزائري في أكتوبر 1963 في منابر الأمم المتحدة ثم بعدها تأتي عملية إصلاح ثوري يقوده بومدين بعد 1965، سيعيد تقويم لمسار ايفيان ويسترجع به الكثير من المحطات السيادية التي قامت في ايفيان منها المرسى والبترول وتأميم الأراضي.