يرى الناقد والأكاديمي عبد القادر فيدوح، أنه إذا كانت العلاقة بين الثورة والأدب تبدأ مع تنشيط الوعي وإحيائه لمقاومته كل ما من شأنه أن يقف في وجه الوطن، فإن هذه المهمة تندرج ضمن مكونات القيم الإنسانية، التي تضمن التشريع الروحي للوطن في أصفى مبادئه.
قال عبد القادر فيدوح في حوار خص به ذاكرة الشعب: «إن الإرادة التي رسمت في ضمائر المثقفين بوجه عام في بناء الوعي المستمد من صرح المواطنة والذاكرة الوطنية، هي التي شكّلت البريق المتوهج في وجدان المبدعين».
وأكد أن أي ثورة لن تجد من سبيل سوى التزود بالروح الوطنية لاكتشاف ما غيبه التاريخ.
هل يمكن أن نتعرف إلى علاقة الأدب بالثورة، وكيف يخدم كل منهما الآخر؟
عبد القادر فيدوح: لا شك في أن هناك علاقة قوية بين الأدب والثورة؛ لأن الواقع العربي – على وجه العموم- يترقب تطلعات واعدة، وأمنيات مفعمة بالإشراق في وطنه، لذلك يسعى الإنسان إلى ما يحرّك الضمائر الحية ويدعوها إلى التوجه نحو النهوض لتحقيق المثل الأعلى.
ومن هذا المنظور ينبثق الموقف الفاصل لضِياء الوعي، وتنويه الرأي العام، وتحسيسه بما يحاك من دسائس الحقد نحو الوطن، يضمره الخصم، وهو يعزم على أذيته؛ لذلك كان على المواطنين أن يتصرفوا بقدر المسؤولية المتوقعة في حق الانتماء لهذه الأرض المعطاء؛ بكل السبل حتى لو اقتضى الأمر إلى التصدي بالثورات؛ من أجل أن يسدي وفاءه للوطن لصون الأمجاد المأثورة عن المخلصين للهوية الوطنية، وبما يجود به الوطن من خيرات موارده ومنافعه.
وإذا كانت العلاقة بين الثورة والأدب تبدأ مع تنشيط الوعي وإحيائه، لمقاومته كل ما من شأنه أن يقف في وجه الوطن، فإن هذه المهمة تندرج ضمن مكونات القيم الإنسانية، التي تضمن التشريع الروحي للوطن في أصفى مبادئه، والتنظيم المدني في أجدى منافعه، والتخطيط الاستراتيجي في أدق تفاصيله.
ولن يكون الأمر كذلك إلا حين يتمّ إنقاذ مقومات النضال، ودعم المبادرات الشعبية، بالمقاومة الثورية / المنظمة، مثلما في ثورة تحرير الجزائر بعد أن كان المجتمع في معظمه – حينها ـ منفرطا في الحياة اليومية، موزعا في النضال.
فأصبح في تصفيف المقاومة، وتوحدها، تعليلا بما يستدل به وعدا بعصيان مسلح؛ لإحداث تمظهرات الثورة ضد الاستعمار، وإلى كل ما يؤدي إلى تغيير أنماط ذهنية المواطنين بثورة شعبية، قبل أن تصبح ثورة مسلحة، من شأنها أن تسهم في التغيير الجذري للوضع السائد، الذي فرضته فرنسا على المجتمع.
بعيدا عن التغني والإشادة بالانتصارات، هل يصنع الأدب وعيا بالثورة ذاتها، بمعنى آخر هل يصنع الأدب ثورته على مستوى القيم والأفكار؟
كان يلوح في الأفق الفكري أن الأدب يصنع الثورة، في حين يرتسم في الوعي النضالي أن الثورة غالبا ما تكون وليدة الرأي العام، على غرار ما قاله المجاهد والبطل العربي بن مهيدي، شهيد الثورة الجزائرية العظيمة: «القوا بالثورة إلى الشارع، يحتضنها الشعب…»، وإذا كان الأمر كذلك فإن أي ثورة لا يكتب لها النجاح إلا بالتخطيط الاستراتيجي لمواجهة المستبد من الآخر المستعمر.
لأن الإرادة وحدها لا تفي بغرض الوصول إلى مقاومة ناجزة؛ بالنظر إلى أن الإرادة تحتاج إلى نظام، وطبيعة النظام يستوجب تأسيس معايير ضابطة، تكون ملزمة للجميع، وتحافظ على كيان الثورة.
وإجراء علاقات سياسية مع الآخر، حتى لا نكون منعزلين عن العالم، على أن تكون هذه العلاقات مبنية على التخطيط الحكيم، واحترام السيادة المتبادلة بين جميع المواطنين؛ المحفزة على الإقدام في اتجاه نصرة الثورة، وفي توقُّد الحس الوجداني.
شكلت الثورة التحريرية مرجعا مهما للكثير من الكتّاب والشعراء، هل استطاع هؤلاء أن يعكسوا عمق هذه الثورة وأبعادها المحلية والعالمية؟.
حقيقة لم تشكل الثورة التحريرية ذلك البريق المتوهّج في وجدان المبدعين، ولم يكن ذلك في الخاطر بسالة وجراءة، لولا الإرادة التي رسمت في الضمائر الحية للمثقفين بوجه عام في بناء الوعي المستمد من صرح القومية العربية، والمواطنة، والذاكرة الجمعية.
فإذا كانت هذه الإرادة مصوغة باسترداد الحق، واسترجاع الحرية، واستعادة السيادة، كان واجب نضال المثقفين والأدباء فيها أجْدى، يثاب على تحقيقه؛ بل ويستوجب الدفاع عنه حتى بالكلمة المبدعة في ضوء مسار حماية الثورة.
لقد وصلت فكرة تفاعل ثورة التحرير مع الإرادة في تجربة الإبداع، وبخاصة لدى الأدباء العرب من المسلمات التي ينبغي أن تشارك فيها كل الضمائر العربية الحية التي من شأنها أن تسهم في تنامي التصور الواعي، الذي يكون مآله التعاضد لتحقيق الغاية الاعتبارية.
إذ النصر مرهون بالجهود المتآزرة، التي تجسد الوعي الثقافي، بوصفه أهم خاصية في تفاعله مع المواجهة لتحقيق الغايات والمقاصد، والحال هذه أن الإرادة المجدية في مطلب ثورة التحرير يُستَمد منها الفعلُ الإجرائيُ دوافعَه، وتقتبس منها القدرة على مواجهةَ الحدث بشجاعة وإقدام، بغرض الدعم الروحي والسيكولوجي.
ومن الطبيعي أن تواكب ثورة التحرير أعمال أدبية وفنية على غرار ما تبناه الشعراء العرب، مثل سليمان العيسى، ونزار قباني، ومحمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب الذي اعتبر الثورة الجزائرية حدثا أخرج العرب من القبور الميتة، والقائمة طويلة عريضة ليس المجال لذكرهم كلهم؛ ممن دعموا ثورة التحرير، بوصفها في نظرهم أعظم حدث عربي مسح آثار هزيمة الجيوش العربية بفلسطين في 1948، ولم يقتصر هذا الدعم على الشعراء فقط بقدر من بادرت كل الأقلام في التغنّى بأمجاد ثورة التحرير.
سؤال أخير، هل تبقى علاقة الأدب بالثورة حبيسة التاريخ، أم أنه يمكن استثمارها كرصيد للأجيال المستقبلية؟.
على الرغم من الدور التاريخي للوحدة في إطار التنوّع الثقافي الذي قامت به أيقونة الثورة الجزائرية، إلا أن ثورة التحرير تجاوزت الإذعان للوصف التاريخي.
بالنظر إلى أنها متناسقة مع روح قراءة التاريخ، وإظهار الدور الاجتماعي الذي بدأ يتحمل مسؤولية النضال في سبيل الوطن، ومن ثم فإن أي ثورة لن تجد من سبيل سوى التزود بالروح الوطنية لاكتشاف ما غيبه التاريخ، و لن تجد سبيلها المجدي إلا بغرس مقومات الحس الوجداني في أجيالنا الواعدة.