الذاكرة هي خزان وتاريخ الأمة، والأمم التي تفقد ذاكرتها الجماعية تفقد هويتها الوطنية، تسويق الذاكرة للأجيال يتطلب تحيين وسائل الإقناع والوسائط لإيصال الرسالة التاريخية، خاصة وسط التهديدات السيبراينية أو ما يسمى بحروب الجيل الرابع التي تستهدف الأمن القومي للدول.
هذا ما يؤكده باحثون لـ”ذاكرة الشعب”، ويشيرون إلى أن الذاكرة كل ما يتصل بالإنتاج المادي أو الأدبي أو الثقافي، في حين التاريخ يؤرخ للمحطات وهو جزء من الذاكرة.
الذاكرة أشمل من التاريخ

يوضح المختص في التاريخ، عامر رخيلة، أن الذاكرة هي ذاكرة شعب وكل ما يتصل بإنتاج مادي وأدبي وثقافي وجوانب معنوية فيما يخص القيم الموجودة وأن الذاكرة أشمل من التاريخ، هذا الأخير يؤرخ للمحطات، لكنه جزء من الذاكرة.
ويضيف أنه لا يمكن الحديث عن التاريخ وهو غائب في الذاكرة، و لابد أن تكون الذاكرة محتوية لهذا التاريخ، يقول: ” عندما نتكلم عن التاريخ يمكن الحديث مثلا عن تاريخ الإذاعة في الجزائر، والصناعة والأدب والتاريخ الثقافي والاجتماعي، ولكن الذاكرة هي أشمل، وحتى نقول إننا نربط التاريخ لابد من إدراجه بعنوان الذاكرة، هذه الأخيرة هي الكل لكن التاريخ هو الجزء”.
تحيين الوسائط لإيصال الرسالة التاريخية
يرى رخيلة أن تسويق الذاكرة للأجيال،تتطلب تحيين وسائل الإقناع والوسائط لإيصال الرسالة الأدبية أو الثقافية أو التاريخية ، و متابعة المتغيرات الموجودة مع الوسائل الحديثة للإنسان، ويشير إلى أن المكتوب اليوم يبقى دوره هو الأصل، لكن المرئي والمرسوم والمسموع والمحتفل به والموجود له حضور دائم في المادة الإعلامية.
يقول:” لابد أن يكون التاريخ كأوكسجين حياة موجود يوميا، و الإنتاج السينمائي والأدبي والمسرح ضروري العودة إليه، الفرنسيين مازالوا لحد اليوم يعتمدون المسرح الثوري التاريخي ، وفي مصر أيضا المسرح له دور وإهتمام من الدولة”.
ويتأسف رخيلة، عن أن المسرح والسينما في الجزائر تراجع ويرى ضرورة طرح هذا الملف من جديد على مستوى رسمي، لتحيينه مع المتغيرات الموجودة وتشجيع حرية التعبير والإبداع.
الأمم التي تفقد ذاكرتها الجماعية تفقد هويتها الوطنية
تؤكد الدكتورة، مريم ضربان، أستاذة الإعلام والاتصال بجامعة تيبازة أن الذاكرة خزان التاريخ بامتداد بطولاته ومعاناته، وأن الذاكرة حارسة الزمن والتاريخ، وتقول أن الأمم التي تفقد ذاكرتها الجماعية تفقد هويتها الوطنية، ولا ذاكرة لشعوب لا تفتخر ولا تمجد رساميل وطنها الرمزية “الروحية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية والسياسية”، وتعتز وتمجد ماضيها لبناء مستقبلها لأنها تبنى في الحاضر لأجل المستقبل.
وتبرز مريم ضربان لذاكرة الشعب” أن تقديس الذاكرة هو استعداد نفسي ناتج عن تقدير كل فاعل وطني بأن ما يقوم به هو مصلحة للوطن وحفاظ للأجيال المستديمة، وأن ثورة الفاتح من نوفمبر هي تقديس وطقسنة الذاكرة الغزيرة بالدماء الطاهرة والأحداث والآلام والأمجاد والبطولات والنصر والتحرر، هو جزء من الوعي الدفاعي للمواطن بهويته وامتداده، لأن كرامة وطنه من كرامته، والدفاع بالاعتزاز التاريخي عبر الذاكرة هو الدفاع عن السيادة الوطنية، تضيف محدثتنا.
وتوضح أن صناعة الذاكرة قد تأخذ من الحاضر مادتها لتخدم التاريخ وتبقى حية فيه، على اعتبار أن الذاكرة تبنى على معيش الفرد، فإعلان الجزائر مثلا هو صناعة لذاكرة العالم أجمع أن فلسطين مرجعية من ذاكرة الجزائر القومية، هو حدث سيبقى حتما للتاريخ، حسب ما أفادت به ضربان.
وعن علاقة الإعلام بالتاريخ والذاكرة، تقول الباحثة أنه يفرض علينا اليوم تخصص الإعلام والاتصال بأن نولي اهتماما للإعلام كوسيلة وفاعل للالتزام بواجب الذاكرة وحفظ التاريخ، خاصة في ظل التوظيف السلبي للمشاعر وحروب الأخبار الكاذبة والتضليل الرقمي باسم السطو على التاريخ والذاكرة معا بما يسمى اليوم حروب الذاكرة والتضليل التاريخي وحروب تشويه الرموز وتتفيه المعاناة ضمن نظام التفاهة la médiocratie .
التشكيك في الثورة وضرب الثوابت من أهداف حروب الذاكرة
وتقول:” ظاهرة التشكيك في الثورة، وتعويم التاريخ، وضرب الثوابت باتت ضمن أهداف الأجيال الجديدة للحروب، التي تسعى لزعزعة الثوابت وتهشيم القيم،واجب الذاكرة، الذي يفرضه الوعي المعنوي والعاطفي والالتزام به كقدسية وطنية رافضة للحياد العاطفي في وقت الأزمات والصراعات الممنهجة ضد الوطن”.
وتضيف الدكتورة ضربان :”الالتزام بواجب الذاكرة، هو تصريح بالعزم على المحافظة الكاملة على قدرة التأثر بالمعاناة التي طالت الأجيال السابقة، على الرغم من مضي الوقت، كضرورة معنوية وعاطفية، بعدم وجود فوات تاريخي وهوة بين الأجيال، في مراحل بناء الذاكرة ولا قطيعة بين مراحلها”.
وتشير الباحثة إلى أنه لا طغيان للحاضر على الماضي ضمن مشروع سياسات النسيان الذي تحاربه سياسات الذاكرة بمكتباتها الميديولوجية، وبالتواصل الحضاري عبر الآثار وتمجيد التراث الوطني، والمناسبات الوطنية والمتاحف كمشاريع للحفاظ على الذاكرة ضد تشويه الذاكرة الذي هو تشويه للتاريخ بالنسيان، فمن بين التهديدات التي تمس الذاكرة وتسطو على التاريخ التلاعب بملامح الشهداء، وهو ما يسمى بضرب الذاكرة البصرية للتاريخ، والأساطير والتلاعب بالمسميات، تؤكد ضربان.
وفي سؤال حول الفرق بين الذاكرة والتاريخ، توضح الدكتورة:” لا وجود هنا لعلاقة ندية بين المفهومين، على الرغم من تعالي أصوات تحاول خلق علاقة السابق باللاحق في أسبقية الذاكرة على التاريخ أو العكس، وهذا بسبب حروب الميديا على الذاكرة بالنسبة للجيل الرقمي، الذي يتم انتهاك علاقته بماضيه ضمن سياسات النسيان، هنا هي علاقة الاحتواء على اعتبار أن الذاكرة هي جزء من التاريخ، إن نظرنا إليه من باب الذاكرة التاريخية، ووظيفة التاريخ الأكاديمي أن يجنب الأجيال خطر تشويه تاريخها”.
وترى الباحثة أن بناء الذاكرة الوطنية ، وصناعة سياسات الذاكرة المقاومة، بإحياء الذاكرة، وأرشفة الذاكرة، للحفاظ على الماضي المشترك تستند بالأساس على الوعي المشترك بتاريخ الشعوب، لهذا نجد فروقا من قبيل الذاكرة الفردية، والمحلية، والوطنية والجمعية،تقول ضربان.
تجنب التاريخ السردي
وتضيف:” لهذا تثمن الدول فكرة المتاحف المحلية والوطنية أي تجسيد التاريخ ضمن المعالم والقواميس والنصب التذكارية، ومسميات المدن والمرافق “الأفضية العمومية” والشوارع والمؤسسات الجامعية والمطارات والأساطيل البحرية والعملات الوطنية، والبرامج الإعلامية خاصة في قناة الذاكرة ضمن مسمى التربية على المواطنة، التربية على احترام حق الذاكرة وواجبها، وبالمحاضرات الجامعية والملتقيات العلمية”.
إضافة إلى تجسيد الذاكرة الصوتية والبصرية والمكتوبة والشفهية، والترميز أي “صناعة الرموز” والحفاظ عليها من كل أشكال التشويه، والاهتمام بالتاريخ معرفيا وعلميا لبناء الذاكرة، وتحسين طرق تدريسه خاصة الاهتمام بالتاريخ الأفقي أي إشراك كل التخصصات، وتجنب التاريخ السردي من أجل صد الاختراق العدائي للذاكرة خاصة أجيال اليوم، تقول الباحثة.