تعد معركة “جبل بوزقزة” التي شهدتها ولاية تيسمسيلت في شهر يناير 1958 ملحمة بطولية أربكت جيش الاستعمار الفرنسي وأخلطت حساباته نظرا للنتائج التي حققتها والمتمثلة خاصة في فك الحصار عن منطقة الونشريس وإلحاق خسائر كبيرة في صفوف العدو.
حدد مكان المعركة ببلدية “الملعب” (تيسمسيلت) بقطاع كان يتبع أبان ثورة التحرير للمنطقة السابعة بالولاية الرابعة التاريخية، ويتميز بمرتفعات وادي “بوزقزة” اتخذها جيش التحرير الوطني للتمركز من خلال إقامة مواقع تخندق منها موقع “الدالية” قرب قرية “أولاد علي” الذي كان يشرف عليه الشهيد حواش عبد القادر وموقع “العيايدة” بقيادة المجاهد الراحل الحاج الطيب، وفق شهادات حية لمجاهدين عايشوا المعركة سجلها المتحف الولائي للمجاهد.
وذكر المجاهد عز الدين مبطوش وعدد من رفقاء السلاح توفي البعض منهم في السنوات الأخيرة أن المعركة سبقتها تحركات واسعة لقوات جيش الاحتلال الفرنسي بالمنطقة، تمثلت في تنقل الشاحنات العسكرية ما بين مراكزه المنتشرة عبر الناحية وذلك بغية تدعيم المراكز الكبرى للجيش الاستعماري بالجهة الغربية للبلاد.
وشهدت المنطقة مضاعفة الطيران الحربي الفرنسي لطلعاته الجوية في بحري الأسبوعين الأولين من شهر يناير 1958 ليتبين للمجاهدين بعد دراسة الوضع أن هذه التحركات اليومية بهذا الشكل سيتبعها لا محالة قيام جيش الاحتلال بشن حملة عسكرية واسعة النطاق تستهدف المناطق التي يتمركز بها جيش التحرير الوطني، استنادا إلى شهادات حية سجلها المتحف المذكور دون تحديد بدقة يوم وقوع المعركة.
وتلقت كتيبة جيش التحرير التي كانت متمركزة بالجهة أمرا من قيادة المنطقة بالتأهب تحسبا لكل الاحتمالات منها استعداد الجيش الاستعماري لحملة لتطويق وكذا التحرك فورا نحو بلدة “الملعب” باعتبارها منطقة تتوفر على موقع طبيعي مناسب واستراتيجي.
وعند وصول أفراد الكتيبة إلى المنطقة، طلب منهم التوجه نحو وادي “بوزقزة” والتمركز في نقاطه الإستراتجية والقيام بجولة استطلاعية للوضع من أعلى القمم المجاورة ليتبين لهم بعد ترصد دقيق أن القوات الاستعمارية متواجدة بالمرتفعات المحيطة ومقبلة على تمشيط المنطقة وأن صداما لا مفر منه.
وبأمر من قيادة الناحية لجيش التحرير الوطني، تقرر التريث والاستعداد لمواجهة عناصر الجيش الفرنسي مهما كانت الظروف، خاصة وأن المكان محاصر وجميع المنافذ والطرق المؤدية من وإلى المنطقة مسدودة.
مواجهة حتمية لا مناص منها
وتبرز شهادات البعض أنه تماشيا مع الوضع تحتم على المجاهدين توسيع دائرة انتشارهم بهذه الجهة والاتجاه نحو عمق وادي “بوزقزة” لتوفره على الظروف الطبيعية المناسبة لمثل هذه الحالات.
وظلت عناصر جيش التحرير الوطني متمركزة تترقب تحركات القوات الفرنسية التي تمكنت خلال استطلاعاتها المكثفة للمعابر المؤدية للمنطقة من اكتشاف آثار أحذية المجاهدين ما دفعها لمداهمة الناحية في صباح يوم المعركة.
وكانت بداية المعركة بتقدم فرقة مشاة لجيش الاحتلال الفرنسي في اتجاه مواقع المجاهدين ترافقها جرافة لتسوية الأرضية لطابور الشاحنات العسكرية والعربات المصفحة. وبعد فترة قصيرة من التقدم، اصطدم جنود الاستعمار بأفراد جيش التحرير الوطني الذين بادروا بإطلاق النار والمباغتة ليدوم القتال ما يقارب ساعة من الزمن.
وأمام حشود الجيش الفرنسي وترسانته الهائلة، اضطر عناصر جيش التحرير الوطني بقيادة المجاهد الراحل عمارة الجيلالي المدعو”هارون” للانسحاب نحو عمق وادي “بوزقزة” حيث تتمركز قوات كتيبة الناحية التي كان يقودها المجاهد الراحل ترقي قويدر، المدعو”نور الدين”، ليشتد القتال إلى غاية المساء.
ولما عجزت عن تحقيق الانتصار فوق الميدان رغم التفوق العددي، قامت قوات الجيش الاستعماري باستخدام الطائرات الحربية والأسلحة الثقيلة، إلا أن ذلك لم يثن من عزيمة وصمود المجاهدين الذين كانوا يردون بقوة مرغمين العدو على التراجع. وقامت القوات البرية للجيش الاستعماري باقتحام الميدان بواسطة مدرعات محققة بعض التقدم إلى غاية حلول الظلام الذي سمح للمجاهدين بالتوجه نحو قمة جبل “حمو” المجاور والابتعاد عن ميدان المعركة.
وأسفرت هذه المعركة عن مقتل 60 عسكريا في صفوف الجيش الفرنسي من بينهم ضابط برتبة رائد وجرح عدد مماثل وتحطيم طائرة مقاتلة فيما استشهد في صفوف جيش التحرير الوطني 17 مجاهدا منهم الزبير لخضر وبن صغير صحراوي وجلول وبوعجاجة طاهر وبن عودة الملياني.
وتخليدا لهذه الملحمة، يقوم المتحف الولائي للمجاهد بتجسيد برنامج خاص للتعريف بمعارك جيش التحرير الوطني بمنطقة الونشريس يشتمل على تنظيم زيارات ميدانية لفائدة تلاميذ المؤسسات التربوية والطلبة الجامعيين ومتربصي مراكز التكوين ومنخرطي مؤسسات شبانية ثقافية إلى مواقع ومآثر ثورة التحرير المظفرة، وفق ذات المؤسسة التي تعنى بالذاكرة الوطنية.
وتستهدف هذه الزيارات عدة أماكن شاهدة على بطولات وتضحيات الشهداء والمجاهدين من أجل استقلال الجزائر على غرار موقع معركة “بوزقزة” ببلدية الملعب والمركز السابق لجيش الاستعمار الفرنسي بـ “سيدي لحسن” ببلدية سيدي عابد الذي تعرض لهجوم بطولي وموقع معركة “باب البكوش” ببلدية لرجام.