خلصت الدكتورة سعاد تيرس، الأستاذة بجامعة جيلالي ليابس بسيدي بلعباس، إلى أن «اتفاقيات ايفيان» أبانت عن نضج سياسي ووعي وطني عال تمتع به أعضاء الهيئة المفاوضة التي ضمت أسماء من خيرة الرّجال، حرصوا على الولاء التّام لجبهة التحرير الوطني، ومبادئها السامية، وبرهنوا على أنها الممثل الوحيد والشرعي للشعب الجزائري، في مقابل ضعف الموقف الفرنسي الذي ظهر ضعفه وبدت هشاشته في خطاب ديغول، وكلماته المتعثّرة، وأضافت أن الاتفاقيات كانت «تتويجا لسلسلة من المفاوضات والمحادثات سبقت وقف إطلاق النار، ولكنها تعثرت بسبب التماطل الفرنسي وشروطه..:.
بقلم توفيق العارف
وللنظر في الحدث التاريخي الهام بالنسبة للجزائر، طرحت الباحثة سعاد تيرس عددا من الأسئلة، بينها: فيم تمثلت الأهمية السياسية والإجرائية والتاريخية للإعلان عن وقف إطلاق النار؟ وما هي ردود الأفعال والأصداء التي أحدثها فحوى هذا الاتفاق التاريخي في الأوساط الرسمية من الجانب الفرنسي والجزائري، وأثر ذلك على المراحل اللاحقة التي تبعته لاستكمال الإعلان الفعلي والرسمي للاستقلال التام والنهائي للجزائر بقيادة جبهة التحرير الوطني الممثل الوحيد للشعب الجزائري، وإنهاء رحلة مريرة وطي صفحة من صفحات تاريخ الدولة الجزائرية الحديثة؟
المنعرج الحاسم..
تقول الدكتورة تيرس، في مقال لها وسمته بعنوان: «الإعلان عن وقف إطلاق النار 19 مارس 1962 في الأوساط الرسمية – مواقف وآراء»، نشرته بالمجلة المحكمة: «المجلة المغاربية للدراسات التاريخية والاجتماعية» التي تصدرها جامعة سيدي بلعباس، إن «الإعلان عن وقف إطلاق النار بين الطرفين الجزائري والفرنسي، والتوجه إلى المفاوضات يعد نصرا عظيما للشعب الجزائري وتضحياته الجسيمة خلال ثورته المظفرة، حيث تم الاتفاق بأن يدخل حيز التنفيذ بكامل التراب الوطني يوم الاثنين 19 مارس 1962 بداية من منتصف النهار، إذ لاقى هذا الحدث المهم ردة أفعال على مختلف المستويات وفي مختلف مناطق العالم، وسجلت مواقف ولجهات شعبية ورسمية، ولشخصيات نافذة ومؤثرة في الساحة السياسية والاجتماعية والإعلامية».
وقالت الأستاذة المحاضرة بجامعة جلالي ليابس، إن «الثورة التحريرية الجزائرية تمثل نموذج الثورة الشعبية التي حملت مسؤولية تاريخية على عاتقها، (وهي) افتكاك الحرية والاستقلال وتكريس مفهوم التغيير واحداث القطيعة مع الماضي الاستعماري المظلم»، وسجّلت أنها كانت «ثورة اجتماعية في جميع الميادين تصبو الى تجسيد ما جاء في بيانها المؤسس بطرق فعالة وبنظرة استشرافية، ولهذا – قدّرت الدارسة – أن نظرتها إلى اتفاقيات إيفيان كانت مشوبة بالحذر وعدم الرضا، ولم تنكر الثورة وقياداتها – في نفس الوقت – النواحي الايجابية من الاتفاقيات والتي تشمل الاعتراف بالسيادة الوطنية ووحدة ترابها، واعتبرتها منطلقا لتحقيق أهداف الثورة الكبرى، وكل مخرجات الاتفاق القائم على الندية واحترام حقوق الشعب الجزائري.
وقالت الدكتورة تيرس إنّ «تاريخ 19 مارس 1962، يعد منعرجا حاسما في تاريخ البلاد، وتمّ الاتفاق بموجبه بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والحكومة الفرنسية على توقيف القتال وإنهاء حالة الحرب بالجزائر، وتكوّنت هيئة تنفيذية مؤقتة حلت محل السلطات الاستعمارية، لتشرف على حكم البلاد ريثما تتكون حكومة وطنية، ومدة صلاحيتها أربعة أشهر، حيث تابعت جبهة التحرير الوطني نشاطها السياسي والعسكري في الداخل والخارج، خاصة في خضم تزايد وتيرة الأعمال الإرهابية والإجرامية التي قامت بها المنظمة العسكرية السّرية (OAS)، وإحباط جميع المناورات الفرنسية السياسية داخليا وخارجيا التي كانت تقصد إلى إفشال تسلّم الجزائر لسيادتها ونجاح مساعيها لتحقيق الاستقلال التام.
مخرجات التّفاوض..
ذكرت الدكتورة تيرس أن مفاوضات إيفيان انتهت إلى الاتفاق على «وقف إطلاق النار»، ونشرت محتوى الاتفاقيات التي تضمنت 11 مادة، تركز المادة الأولى على «توقيف كل العمليات العسكرية في كل التراب الجزائري يوم 19 مارس 1962»، بينما تفرض المادة الثانية «التزام الطرفين الجزائري والفرنسي بعدم اللجوء إلى ممارسات عنيفة جماعية أو فردية، وتكرّس المادة الثالثة «تواجد القوات المسلحة التابعة لجبهة التحرير الوطني في الأماكن الداخلية الخاصة به، بينما تبقى القوات الفرنسية على الحدود، ولن تنسحب إلى غاية صدور نتائج الاستفتاء، وفق المادة الرابعة.
وجاء في المادة الخامسة من الاتفاقيات أن مراكز تجمع القوات الفرنسية تأخذ كل الاحتياطات اللازمة لمنع كل احتكاك بين الطرفين، في حين، أقرّت المادة السادسة «إنشاء اللجنة المختلطة لوقف إطلاق النار لحل كل المشاكل»، وهو ما توضّحه المادة السابعة التي تمنح اللجنة المختلطة كفالة حل كل المشاكل والتحقيقات في الأحداث، وإيجاد الحلول، وجاء في المادة الثامنة، أن اللجنة تتشكّل من ضابط سام، وعشرة أعضاء وأمين سر، على أن يكون مقرها بـ «روشي نوار» وفقا للمادة التاسعة.
وفتحت المادة العاشرة المجال لتشكيل لجان على مستوى البلديات بنفس التشكيلة، إذا لزم الأمر، بينما أقرّت المادة الحادية عشرة إطلاق سراح كل المساجين يتم في مدة 20 يوم من إعلان وقف إطلاق النار، ويتم إخطار اللجنة الدولية للصليب الأحمر بكل الإجراءات المتخذة في حق المساجين.
جهد وجهـاد..
ذكرت الدكتورة سعاد تيرس، أنّ التصويت تم على مشروع نص اتفاقيات إيفيان من طرف المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وقالت إن سعد دحلب كان هو المقرر في هذا الاجتماع، بالإجماع، ماعدا ثلاثة من أعضاء القيادة العامة للجيش، وهم بومدين علي منجلي والرائد مختار بويزم (ناصر) من الولاية الخامسة (وهران)، أما الخمسة الموجودون بسجن أولنوي، فقد صوتوا بتأييد الاتفاقيات وهم: حسين آيت أحمد، أحمد بن بلة، رابح بيطاط، محمد بوضياف ومحمد خيضر، وقد أرسلوا بهذا الصدد رسالة بتاريخ 15 فيفري 1962 موجّهة إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية.
افتتحت المفاوضات من جديد واجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية في 7 مارس بصفة رسمية، حيث ترأّس كريم بلقاسم الوفد الجزائري الذي يتألف من بن طوبال، دحلب ويزيد كأعضاء للحكومة، وبن يحيى وبولحروف ومالك والصغير مصطفاي والرائد مصطفى بن عودة كممثل لجيش التحرير الوطني، وكان الجانب الفرنسي يتكوّن من «لوي جوكس روبر براون، جان دبروقلي برونو، دولاس كلود شابي، رولان سكار والجنرال دي كاسيس»، وهؤلاء كلهم شاركوا في المحادثات، وأضيف إليهم في مؤتمر إيفيان برنار تريكو، ملحق بديوان جوكس ومستشار برئاسة الجمهورية. وفانسون ليبوري مستشار قانوني في الشؤون الجزائرية والعقيد سيقين ديبازيس برتبة مستشار عسكري وفيليب تيو الناطق الرسمي للوفد الفرنسي، وبليزان مستشار في الدولة مكلف بمحاضر الجلسات، وقد دامت المناقشات 12 يوما للوصول إلى اتفاقية وقف إطلاق النار.
ولم يوقّع كريم بلقاسم باسم الوفد الجزائري إلا عشية 18 مارس، وبهذا يكون الإعلان عن وقف إطلاق النار إعلانا عن بداية المرحلة الانتقالية التي سمحت بإطلاق سراح كل المساجين والمعتقلين السياسيين.
موقف الحكومة الجزائرية المؤقّتة
خلصت المفاوضات الجزائرية – الفرنسية إذن، إلى الاتفاق على تنظيم الاستفتاء الخاص بتقرير المصير في مدى 03 أشهر إلى 6 أشهر، إنشاء لجنة تنفيذية مؤقتة برئاسة عبد الرحمن فارس وممثّل للجانب الفرنسي، والحفاظ على الأمن العام والمواطنين والممتلكات، وأعلن يومها رئيس الحكومة المؤقّتة الجزائرية، بن يوسف بن خدة، في «خطاب النصر»، وقف إطلاق النار على أمواج الإذاعة التونسية، وجاء فيها – تقول الدكتورة تيرس – قوله: «بعد عدة شهور من المفاوضات الصعبة والشاقة، توصّلنا إلى اتفاق عام بعد ندوة إيفيان، هو نصر عظيم، وأصبح حق الشعب في الاستقلال مضمونا، ونتيجة لذلك. باسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المفوضة من طرف المجلس الوطني للثورة الجزائرية، فإنّي أعلن وقف إطلاق النار في كامل أنحاء الوطن الجزائري ابتداء من 19 مارس 1962 على الساعة 12 بالضبط، وإنّي باسم الحكومة المؤقتة للجمهورية أصدر الأمر إلى جميع قوات جيش التحرير الوطني المحاربة للتوقف عن العمليات العسكرية، وعن النشاط المسلح في مجموع التراب الوطني».
وسجّلت الدكتورة تيرس أنّ خطاب يوسف بن خدة كان خطابا حقيقيا للنصر، ونشوة الفوز، وقد استعمل عبارات قوية متفائلة للإعلان عن وقف النار، أي الإعلان عن النصر ونهاية الحرب، للشعب الجزائري، ولم تكن فيه عبارات مستفزة أو خارجة عن السياق، دام حوالي نصف ساعة، وغلب عليه الأسلوب الدبلوماسي، واجتهد في التوجه بعبارات هادئة ومتفائلة بشكل واضح.
وسجلت الدكتورة تيرس أن مجموع القوات الفرنسية بالجزائر قدّر وقتها بمليون جندي فرنسي، بينما بلغ الإنفاق على هذه القوات ثلاثة ملايير فرنك فرنسي يوميا، إضافة إلى الإعانات الضخمة التي كان يمدها الحلف الأطلس.
وقف إطلاق النّار
في المقابل، ألقى الجنرال ديغول خطابا للشعب الفرنسي، اتّصف بالاقتضاب، دام حوالي 7 دقائق و58 ثانية، مفاده أنّ اتفاق وقف إطلاق النار جاء ليتسنى للشعوب أن تقرر مصيرها، بعد مراحل من التعاون، وأعلن عن التوصل إلى ثلاث حقائق، أولها: «المصلحة الوطنية لفرنسا حيث أن الحقائق الفرنسية والجزائرية والعالمية تفرض عليّ الاحتكام إلى الذكاء التقليدي لبلادنا، وأن الوقت قد حان للجزائريين أن يأخذوا مصيرهم بأيديهم».
الحقيقة الثانية التي أعلن عنها الجنرال ديغول، متعلقة بـ «حاجة الجزائريين ورغبتهم في تحقيق التقدم الاقتصادي والتقني والثقافي ، ووجود فئات واسعة من الفرنسيين تسمح بلعب أدوار مهمة على المستوى المحلي غدا»، بينما ركّز في الثالثة على ما يجمع بين الجزائر وفرنسا، رغما عن الحروب والصراع والاختلاف في العرق والدين، وقال إن الجانبين «حاربا من أجل الحرية»، وأضاف: «نريد اليوم أن نسير معا في طريق التحضر، ورغم المحاولات لبعض الجهات لإفشال جهود الجيش الفرنسي في حفظ الأمن على الحدود والوصول إلى حلول لحفظ الأمة الفرنسية».
ولاحظت الدكتورة تيرس أنّ خطاب ديغول جاء انهزاميا، و»اجتهد كي لا يظهر فيه المشاعر القاسية للفشل الذريع للقوة الاستعمارية الفرنسية، وذهب إلى الحديث عن التعاون والمهادنة دون التطرق إلى الحرب ونتائجها المباشرة وغير المباشرة على الشعب الجزائري، وعلى الجيش الفرنسي، والخسائر الثقيلة التي سجلت من الجانبين، ونشير هنا – تقول تيرس – أنّه قد اتّهم بالخيانة من طرف المعمّرين، بحكم ذهابه مباشرة إلى التفاهم مع جبهة التحرير الوطني، دون الرجوع إليهم على اعتبار أنهم يشكلون لوبي حقيقي في الجزائر من الخطأ والخطر تجاهله».
المواقف الدولية
سارع الرّئيس الكوبي أوسفالد دورتيكوس طورادو، وفيدال كاسترو الوزير الأول للحكومة الثورية إلى إرسال برقية في 18 أفريل 1962، عبّرا فيها عن تضامنهما مع الشعب الجزائري باسم الشعب الكوبي، وقالا فيها: إنّ الشعب الكوبي تابع المعركة البطولية باهتمام فائق والتي اتّخذت طابع الملحمة الحقيقية، ومنذ أن أصبح الشعب الكوبي يتحكم في مصيره بنفسه منذ جانفي 1959، فإنّه لم يترك مناسبة إلاّ وعبر فيها عن تضامنه مع الشعب الجزائري، وأنّ هذا التضامن لا ينبع فقط من حب العدل الذي يحرّك شعبنا، بل نابع من ذكريات كفاحه العريق في سبيل الاستقلال، وهو نابع كذلك من الإيمان بأنّ التصفية النهائية للاستعمار والاستعمار الجديد والامبريالية بكل أشكالها ومظاهرها، تشكّل شرطا مسبقا لا غنى عنه لإقامة سلام مثمر ودائم. إنّ اتفاقيات إيفيان التي تكرّس حق الشعب الجزائري المكتسب بعد تقرير المصير الوطني والاستقلال السياسي والسيادة الكاملة ووحدته الترابية، أنّ هذه الاتفاقيات تتوّج المرحلة الأولى من مشروعكم الملحمي، ويتعين على الهيئة التنفيذية المؤقتة أن تتمكّن من الاحتفال بالاستفتاء المتفق عليه في جو ملائم، وبالضمانات المطلوبة لكي يشرع الشعب الجزائري النبيل والكريم والمقدام بلا قيد أو شرط في بناء النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي وفقا لتطلعاته وحاجاته.
وأبرق الرئيس اليوغسلافي، جوزيف بروز تيتو إلى الحكومة الجزائرية، مهنّئا بالنصر العظيم وبالسّلام، وقال: تلقّيت بسرور كبير نبأ الاتفاق على وقف إطلاق النار والاتفاق على استقلال الشعب الجزائري، ويشاطرني هذا الابتهاج والسرور شعب يوغسلافيا الاشتراكية الذي عرف هو نفسه محنا مماثلة، وتابع باهتمام ولهفة كفاح الشعب الجزائري واثقا من انتصار القضية العادلة، وسيفضي هذا الاتفاق ليس فقط إلى تعاون ودي بين الشعب الجزائري والشعب الفرنسي بل أنّه علاوة على ذلك سيكون عاملا قويا لتحقيق السلام والتطور السلمي الهادف إلى تحقيق تطلعات شعوب إفريقيا، وهو كذلك مساهمة عظيمة في إقرار السلام والتسوية السلمية للمشاكل المتنازع عليها في العالم بصفة عامة، وإنّي إذ أعبّر لكم عن أملي في رؤية التعاون الودي بين شعبينا متواصلا.
وأصدر الرّئيس شوان لاي، الوزير الأول للجمهورية الشعبية الصينية، بيانا قال فيه إنّ المحادثات بين الجزائر فرنسا هي نتيجة للكفاح المسلح الذي يخوضه الشعب الجزائري البطل منذ سبع سنوات ونصف السنة، ولولا هذا الكفاح المسلّح، ما قبلت الحكومة الفرنسية الشروع في المحادثات ندّا للند مع الحكومة المؤقتة الجزائرية، وأضاف: «إنّ قضية الشّعب الجزائري قضية عادلة، وقد كسبتم تأييد شعوب العالم قاطبة الشعوب العربية وشعوب آسيا وإفريقيا وشعوب البلاد الاشتراكية، وقد لجأت الحكومة إلى التفاوض مع الحكومة الفرنسية دون اللجوء إلى أي طرف وهو منهج سليم، ولو سمحتم لهيئة الأمم المتحدة أن تتدخّل، لأصبحت الوضعية كما يصوّرها المثل الصيني «طردوا الذئب من الباب ليدخلوا النمر من النافذة»، وهذا يعني طرد الاستعمار التقليدي لاستقدام استعمار جديد.
ونقلت الدكتورة سعاد تيرس عددا كبيرا من المواقف المؤيدة والمهنئة للشعب الجزائري بالانتصار المشهود الذي حقّقه على المستعمر الفرنسي، قد لا تسعها المساحة المخصّصة لهذا التقديم، غير أنّ المقال متوفّر بـ «المجلة المغاربية للدراسات التاريخية والاجتماعية» التي تصدرها جامعة سيدي بلعباس.