عبد الحق الإشبيلي البجائي، من أشهر الموسوعين الأندلسيين.
أجبرته الظروف الداخلية بالأندلس على الرحيل إلى بجاية، التي كانت محطة حاضنة للوافدين من كل الأقطار، وبيئة مساعدة للتأليف في فنون عديدة، فألف جل كتبه في الحديث والزهد واللغة.
شكل تلامذته شبكة علمية من مختلف الحواضر الإسلامية ساهمت في نشر مؤلفاته ومروياته بين طبقة الفقهاء والمحدثين مغربا ومشرقا مثلما تؤكده الدكتورة سعيدة لوزري، بقسم التاريخ بجامعة الجزائر 02، في دراسة قيمة عن هذه الشخصية بعنوان”مكانة عبد الحق الإشبيلي العلمية وإشعاعه مغربا ومشرقا”، نشرت في العدد04 من مجلة عصور الجديدة، في ديسمبر 2020.
أبرزت الدراسة أهم مميزات عبد الحق الإشبيلي، العلمية و مؤلفاته المحققة منها والمخطوطة و مختصراته في الحديث والأنساب.
تقول الدكتورة لوزري، إنه نظرا لمكانة الإشبيلي، العلمية أخذ عنه المغاربة والمشارقة من فقهاء ومحدثين ومفسرين وأصوليين ولغويين،وتشير الباحثة إلى دور بجاية في تحقيق الإشعاع العلمي في القرنين 6 و7 هجري بفضل فقهاءها والوافدين إليها باعتبارها مركز استقطاب للعلماء.
وساهم العلماء في الأندلس في إثراء الحياة الثقافية والعلمية بمشاركتهم في المجالس العلمية والأدبية والتدريس والتأليف، وكانت بجاية ملاذا آمنا لمن أراد الإستقرار هروبا من الإضطرابات والفتن التي عرفتها الأندلس.
استقطب عبد الحق الإشبيلي، بفضل علومه المتنوعة الراغبين في التحصيل العلمي، وتحصل تلامذته على إجازات عن مؤلفاته ومروياته، التي امتازت بعلو السند، و ساهموا في نشرها فاشتهرت كتبه بالمشرق، ووقع النقل منها.
بجاية مركز إشعاع علمي
تؤكد لوزري أن إشعاع الحركة العلمية التي عرفتها بجاية وصل إلى المدن المشرقية بخاصة في عهد صلاح الدين الأيوبي سنة 1168-1193م، الذي شجع فقهاء المالكية بإيوائهم وتوفير المعاش لهم وببناء المدارس، وكل المرافق الضرورية لإنتعاش الحركة العلمية.
هو الفقيه المحدث الحافظ الخطيب الشاعر، أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمان بن عبد الله بن حسين بن سعيد بن إبراهيم الأزدي الإشبيلي البجائي المالكي، المشهور بابن الخراط، ولد بإشبيلية ونشأ بها، واختلف في تاريخ ولادته بين 510 ه-1116م،و514 هجري – 1144م، و516 ه-1122م.
وبعد فتنة الأندلس وانقراض الدولة اللمتونية في 539هجري، انتقل إلى منطقة لبلة من إشبيلية، وبها لازم أبا الحسن خليل بن إسماعيل السكوني اللبلي، فقرأ عليه وتفقه على يده، وعزم الرحيل إلى المشرق، لكنه حط رحاله ببجاية واستقر بها.
يعتبر الإشبيلي، من كبار المتصوفة، قسم ليله ثلاثا ثلث للقرآن وثلث للعبادة وثلث للنوم، حسب ما تشير إليه المصادر التاريخية، ويعود إلى منزله للتأليف إلى صلاة الظهر.
وكان لا يدخل أحد من الطلبة إلى بجاية وهو في طريقه إلى المشرق أو الحج إلا وسأل عنه رغبة في المقام معه ليقرأ عليه، ويأخذ عنه ويجيزه، إضافة إلى كرمه الذي أشاد به الغبريني.
ألّف عبد الحق الإشبيلي، كتاب الأحكام الشرعية الكبرى، الذي نسخ بعناوين مختلفة، موثقا أحاديثها بأسانيدها، وكتاب الأحكام الشرعية الصغرى، وله كتاب “المرش”د أكبر حجما من صحيح مسلم، وضع فيه أحاديث مسلم كلها، مضيفا الأحاديث الحسنة والصحيحة من كتب السنن لإبن داود والنسائي والترميذي وغيرها، وما كان في موطأ الإمام مالك.
مصادر هامة نهل منها العلماء والفقهاء
وله أيضا كتاب “الجمع بين الصحيحين”، جمع فيه الأحاديث الصحيحة للبخاري ومسلم، وله أيضا كتاب “الجامع الكبير في الحديث” في عشرين مجلدا، وللإشبيلي كتب أخرى في الزهد، وكتب في اللغة ألف كتابا بعنوان الواعي وهو في 18 مجلدا.
تؤكد الدكتورة لوزري أن تصانيف الإشبيلي، كانت مصدرا هاما وأساسيا في الحديث والتفسير والفقه والفتاوى واللغة، ونظرا لمكانته العلمية أخذ عنه المغاربة والمشارقة من فقهاء وعلماء.
وُصف الإشبيلي، بالخير والصلاح والزهد والورع، متبعا سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وُلي الخطبة وصلاة الجماعة بالمسجد الأعظم بحومة اللؤلؤة ببجاية، وله مجالس عديدة مع أبي علي المسيلي، في 1185 م، المشهور بأبي حامد الغزالي الصغير.
وأبي مدين شعيب بن الحسن الأندلسي، وأبي عبد الله محمد بن عمر القرشي، في حانوت بحارة المقدسي ببجاية، واتخذ هذا المقر بعدها إسم مدينة العلم لإجتماع هؤلاء المتصوفة الثلاثة فيه، وولي القضاء والخطابة مدة قليلة عند بني غانية ورفضها للموحدين.
وأثنى الكثير من العلماء على زهد وعلم الإشبيلي، فوصفه الضبي بأنه فقيه، محدث، حافظ، زاهد، فاضل، أديب، شاعر، له تواليف حسان، وأشاد إبن الأبار وإبن فرحون، بصفاته الذاتية والعلمية، حيث قالا :”كان فقيها حافظا، موصوفا بالخير والصلاح والزهد والورع ولزوم السنة، والتقلل من الدنيا، مشاركا في الأدب، ضاربا في نظم القريض بسهم، وله تواليف كثيرة”.
وأشاد بإتقانه في الحديث، وقال عنه ابن الزبير: ” إنه من أهل العلم والعمل، زاهدا فاضلا، عاكفا على الإنشغال بالعلم، جادا في نشره وإذاعته..، وكان شاعرا مطبوعا يزاحم فحول الشعراء، ولم يطلق عنانه في نظمه بل اقتصر على باب الزهد..”.
وأضاف الذهبي، خصالا أخرى تتمثل في تجويده للقرآن ومعرفة علل الحديث والجرح والتعديل، فقال:” كان فقيها حافظا ، عالما بالحديث وعلله، عارفا بالرجال، موصوفا بالخير والصلاح، والزهد والورع، وأنه الإمام البارع المجود العلامة أبو محمد”.
اختلفت المصادر في تحديد تاريخ وفاة الإشبيلي، بين سنتي 581ه-1186م و582ه-1187م، واتفقت في غالبيتها على أنه توفي ببجاية بعد محنة أصابته على يد الخليفة يعقوب المنصور الموحدي 595ه-1198م.