“جامع الهوية”..الجامع الذي تعطر بدماء الشهداء، “جامع السياح”، “جامع الحضارة”، “جامع المقاومة”، “الجامع الرمز”..
كلها تسميات تصح أن تطلق على “جامع كتشاوة” اليوم، حيث يحمل في معانيه كل هذه الأوصاف التي تطلق عليه منذ تأسيسه، مرورا بمحاولة طمس معالمه وهويته إبان الاحتلال الفرنسي، وصولا إلى إعادة الاعتبار له ما بعد جزائر الاستقلال، حيث يقف شامخا اليوم في قلب العاصمة بمدينة القصبة، ليروي تاريخ شعب رفض الذل والهوان، شعب دافع عن مقوماته وهويته بالدماء التي سالت في بهو الجامع الرمز، ووصلت إلى ساحة الشهداء.
يقع “جامع كتشاوة” أسفل مدينة القصبة العريقة بعاصمة الجزائر، ويعتبر من أهم الأماكن الإسلامية المقدسة، يأتي إليه الجزائريون من جميع ولايات الجزائر، ومن خارجه، ويعتبر كذلك مقصدا للسياح. يزورونه ليتبركوا بهذا المبنى الشامخ العتيق، الذي يروي بطولة الجزائريين واستماتتهم في الحفاظ على الهوية أمام جبروت فرنسا الاستعمارية التي حاولت بكل الطرق طمسها، لكن صلابة الجزائريين كانت أقوى من الحديد والنار.
هنا ولد التاريـخ..
تنقلت “الشعب” إلى جامع كتشاوة..دقائق معدودة كانت تفصلنا عن أذان صلاة الظهر، كانت مدرجات المسجد مليئة ومكتظة بمختلف الفئات من الجزائريين، شيوخا، شبابا بينهم الأطفال..هناك من يستريح، وهناك من يجلس منتظرا الأذان، وهناك من يطمئن لوجوده هناك، ويستشعر السكينة الموجودة أمام بيت من بيوت الله، هروبا من متاعب ومشاغل الدنيا.
فقد قال لنا واحد من الجالسين هناك: “تقريبا، يوميا أقصد المكان للجلوس فيه، لا أدري لماذا، لكنني أشعر برغبة ملحّة تجذبني إلى هذا المكان”.
وبينما ونحن في دردشة مع نسوة جلسن يتبادلن الأحاديث، أكدت لنا إحداهن أنها كلما قصدت سوق “ساحة الشهداء”، تأخذ قسطا من الراحة هنا، تستظل بظل الجامع الشامخ، حيث الأمن والأمان، “تخيلي..مرة نمت هنا من شدة التعب، ولو لم أشعر بالراحة لما تجرأت عيناي على إطباق جفنيهما”، تقول محدثتنا.
ولقد تزامن تواجدنا هناك مع قدوم فرقة من حوالي خمسين شابا يقودهم دليل، حضروا إلى عين المكان وجلسوا يستمعون إلى حكاية المسجد من قبل أحد المؤطّرين، الذي تفنن في إلقاء “محاضرته” حول تاريخ الجزائر ومعالمها، وسط استقطاب كل الحاضرين هناك.
..ويرفع الآذان..حركة كبيرة وإقبال للمصلين على هذا الجامع الرمز، ووسط هتافات وصيحات الباعة الذين ينصبون طاولاتهم بمحاذاة المسجد بساحة الشهداء التي أريقت فيها دماء الجزائريين، يهرع الشباب، الكهول وحتى الأطفال إلى أداء فريضة الظهر، وسط وجود مؤطرين ومنظمين برداء مميز لتنظيم المصلين هناك في إحدى استثناءات مساجد العاصمة.
مكثت “الشعب” وقتا بعد الصلاة، كنا جالسين على السلالم، نتأمل المكان الذي بات مكانا ومزارا لكل الوافدين، جزائريين وأجانب لأخذ قسط من الراحة، والتأمل في هذه التحفة التاريخية التي تعانق السماء وتقابل أمواج البحر، في منظر جميل فريد من نوعه يجمع بين الثقافة والحضارة وروعة الجغرافيا، حيث يأسرك منظره وبنايته التاريخية المعمارية الفريدة من نوعها.
«كتشـاوة “..رحبة الماعز في العهد الروماني
في لقاء جمع “الشعب” مع الدكتور حامدي محمد لعروسي، مفتش التوجيه الديني بالجزائر العاصمة، ومهتم بتاريخ الجزائر والمعالم الدينية والثقافية بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف، ببناية مسجد البشير الإبراهيمي ببراقي بالجزائر العاصمة، أكّد لنا أن جامع كتشاوة هو معلم ديني سياحي يبث صورة التدين في الجزائر التي تظهر في هذه المعالم، وهو أحد الرموز الدينية لمدينة القصبة.
وأورد: “هو أحد الجوامع العتيقة، وجوهرة من جواهر المعالم الإسلامية الخالدة بمدينة الجزائر، ورمز من رموزها التاريخية العريقة، بني في العهد العثماني سنة 1021هـ/1612م، من قبل هيئة دينية تدعى “سيل الخيرات”، وهو تحفة فنية نادرة من السلالات المعمارية الراقية…بناه الملوك لتخليد مآثرهم وذكراهم”.
ويقول محدثنا: “يعرف بتسمية كتشاوة وهي كلمة تركية تعني بالعربية “رحبة الماعز”..كان موقعه في العهد الروماني عبارة عن أحواض لجمع مياه الشرب المتدفقة في السواقي من أعالي القصبة، وكانت يومها حصن الامبراطور الروماني، وقبيل إقامة هذا الصرح الديني كان المكان سوقا للنخاسة وتجارة العبيد”.
التأسيس.. والإشعاع
كان تأسيس الجامع في عهد الداي حسن باشا سنة 1209هـ/1795، الذي أعاد بناؤه وذلك بتوسيعه وتجميله، وأدخل عليه تحسينات جعلت منه مسجدا قمة في الفخامة والإبهار يضاهي مسجد السيدة بساحة الشهداء هندسة وجمالا، إذ يشتهر بواجهته الرئيسية المزدانة بأقواسها الثلاثة، ومدرجها الفخم، ومئذنتيه الشامختين وقبته الطولية، وأما من الناحية الخلفية فبقبة بيضاوية الشكل فخمة، بجوارها صومعة إلى جانب قباب صغيرة الحجم.
الدخول إلى قاعة الصلاة عبر الأبواب الثلاثة الضخمة الرئيسية المتواجدة بالواجهة الأمامية للمسجد، حيث تتجلى منها قاعة فسيحة الرحاب مربعة الشكل على جانبيها رواقين، في كل رواق ستة أعمدة رخامية دائرية ضخمة، ترتبط فيما بينها بأقواس منقوشة بأشكال هندسية دقيقة تسر الناظرين، إلى جانب القاعة يتواجد فضاء ثان أصغر منها نسبيا في مؤخرة القاعة ينفصل عنها بمدرج تبرز فيه أربعة أعمدة رئيسة من الرخام الأسود، إضافة إلى أعمدة حجرية، وتحت قاعة الصلاة، قبو موصول بسلالم يؤدي إلى مقبرة مسيحية، وهي عبارة عن غرف صغيرة، دفن فيها رجال الدين المسيحيين، وغداة الاستقلال نقلت رفاتهم إلى المقبرة المسيحية “سانت أوجان” بالعاصمة.
«نابليون” و«لافيجري”.. وجهان لظلم واحد
وحسب ما توصل إليه الدكتور حامدي من خلال بحوث أجراها حول بعض مساجد العاصمة، أكد أنه “لما استحوذ الفرنسيّون على مدينة الجزائر، هدم معالمها الدينية انطلاقا من نزعته الصليبية الحاقدة، وحول بعضا منها إلى كنائس، ومؤسسات عسكرية يمارس فيها بطشه وغطرسته على الجزائر، ومنه هذا الجامع الذي حول إلى كنيسة بأمر من “الكونت دوبورمان” يوم 05 جويلية 1830، باسم “القديس فيليب”.
وأقيم فيه أول قداس ليلة عيد الميلاد في 24 ديسمبر 1832م، ثم تحول إلى كاتدرائية زارها “نابليون الثالث” مرتين وأصدر تعليمات بشأنها، وعين الكاردينال “لا فيجري” أسقفا مشرفا على شؤونها، وانطلقت منه حملات التنصير التي دامت 15 سنة”.
شهداء كتشاوة..
يقول حامدي في معرض رواياته المبنية على البحوث “في 1854م قام الأسقف “بافي” بتوسيعات على الكاتدرائية، وطمست كل المعالم الإسلامية فيها، ونشير هنا إلى ردة فعل الجزائريين على هذا الصنيع الإجرامي، الذي ارتكبته الإدارة الفرنسية في حق هذا المعلم الديني الحضاري، تمثل في إقدام سكان القصبة العتيقة وضواحيها على التظاهر.
رافضين لهذا الاعتداء السافر على أحد أجمل مقدساتهم، تحول هذا التظاهر إلى مقاومة عنيفة، حينما صبت الإدارة الاستعمارية جام غضبها عليهم أدى إلى سقوط العديد من الضحايا، جرحى وشهداء تحت ضربات القوات الفرنسية المدججة بالسلاح الفتاك داخل الجامع وخارجه.
استشهد فيها ما يزيد عن 4000 جزائري، ما جعل ساحة الشهداء اليوم تنسب لدماء الجزائريين المعتصمين داخل المسجد في ذلك الوقت، حيث سالت دماؤهم الطاهرة دفاعا عن الهوية الدينية للشعب الجزائري”.
سنابك الخيل تدوس كتشاوة..
وقبل أن يتحول كتشاوة إلى كاتدرائية ــ يقول محدثنا ــ تحول إلى اصطبل لخيل العساكر الفرنسيين، نكاية في الإسلام والجزائريين، على غرار ما حدث لكل مساجد الجزائر في تلك الحقبة من تاريخ البلاد، حيث عملت فرنسا على تحويلها إلى دور يصح فيها كل شيء إلا العبادة والتدين.
وذكر بأن فرنسا لما احتلت العاصمة وجدت مدينة القصبة وحدها فقط تحتوي على 109 مساجد وحوالي 12 جامعا و33 زاوية، وهو رقم مهم جدا خاصة وأن المسجد في عهد الدولة العثمانية لم يكن مكانا لإقامة الصلاة فقط، بل كان عبارة عن مدرسة وجامعة للعلوم الشرعية، وتحفيظ القرآن الكريم وتلقين علوم الفقه.
كنيسة العصور الوسطى..
في نفس السياق، تقول مصادر الدكتور حامدي المهتم بالشؤون التاريخية الثقافية بالجزائر، أنه تم “استبدال المئذنة التي كان يرفع فيها الأذان بناقوس الأجراس، وتقليص ارتفاعها بـ 15 مترا، أزيحت عنه كل المعالم الإسلامية بعد حملات التشويه والهدم والطمس التي أجريت عليه، وصار في شكله أشبه بكنائس العصور الوسطى في أوروبا.
أول صلاة أقيمت في كتشاوة بعد الاستقلال أمّها البشير الإبراهيمي بحضور وفود شقيقة، وبعد الاستقلال – تقول ذات المصادر – أقيمت فيه أول صلاة جمعة مباشرة بعد الاستقلال في يوم الجمعة 04 جمادى الثانية 1382هـ، الموافق لـ 02 نوفمبر 1962م بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثانية لاندلاع الثورة التحريرية، أمّها الشيخ العلامة فارس الفصاحة والبيان ورئيس العلماء فضيلة الإمام، محمد البشير الإبراهيمي، حضرها ما يزيد عن 7 آلاف مصلّ، وبحضور وفود رسمية من الدول العربية والإسلامية الشقيقة.
وشدد محدثنا في الختام على أن “جامع كتشاوة”، ما يزال إلى يومنا هذا طودا شامخا وتحفة عمرانية غاية في الجمال والبهاء، يؤدّي رسالته الروحية والعلمية، يرمز إلى صفاء الدين، وأصالة الجزائر في إسلامها وعروبتها، وبرغم تقلص دوره حاليا، إلا أنّ الترميمات التي أجريت عليه، ولا تزال، من أجل نزع معالم الكاتدرائية، فهي رسالة لرد الاعتبار له”.
رخيلـة: فرنسا حولت أجمل مساجد الجزائر إلى كنائس
وأكد المختص في التاريخ، الأستاذ عامر رخيلة، أن جامع كتشاوة التي أريقت فيه دماء الجزائريين دفاعا عن حرمته، يعتبر من بين أهم المعالم الدينية والتاريخية في الجزائر التي تروي تاريخ شعب باسل مقاوم لكل أساليب الاستعمار الفرنسي، في محاولة منه للنيل من هويته وطمسها.
وأكد رخيلة لـ “لشعب” أن “الجنرال الفرنسي الدوق دو روفيغو، صرح بما يلي: “اذكروا لي أجمل جوامع مدينة الجزائر لكي أتولى تحويلها إلى كاتدرائيات، وهذا في قي إطار البعد الصليبي للاستعمار الفرنسي الذي كان حاضرا وبقوة في احتلاله للجزائر، وهو ما تم فعلا”.
ويروي رخيلة، الواقعة التي حدثت في 1832 عندما قال: “كان جامع كتشاوة يتولاه المفتي مصطفى الكبابطي، حيث قام خلال محاولة دخول الجيش الفرنسية إلى رحاب المسجد برفع الأذان في غير وقته، ووجّه النداء لكافة الجزائريين يدعوهم للدفاع عن حرمته، وفي اليوم الموالي خرج مئات الجزائريين ملبين النداء، حيث تتحدث المصادر عن أنهم اعتصموا داخل المسجد لحمايته من جند الجيش الفرنسي، ودافعوا عليه وتم الهجوم بزعامة الجنرال روندو، واستمرت المذبحة طيلة نهار 18 ديسمبر 1832 داخل الحرم، لدرجة أن هناك العديد من الكتاب يتحدّثون على أن مدة الإخلاء استغرقت أياما بسبب سقوط الآلاف من الشهداء، كما استغرق تنظيف الجامع عدة أيام متتالية”.
وأضاف المتحدث: “إثر الواقعة، نفي الإمام مصطفى الكبابطي إلى مصر، أين توفي بمدينة الاسكندرية، ومنذ ذلك التاريخ إلى غاية في 1962 سنة استقلال الجزائر، قامت الإدارة الاستعمارية بعدة ترميمات وإعادة تصميم المسجد لتحوله إلى كاتدرائية لممارسة الشعائر المسيحية، حيث أُعطيت له تسمية “كاتدرائية سان فيليب”، واستمر على تلك الحال حتى استقلال الجزائر، وأعيد للمسجد وظيفته بعدما استرجعت البناية التاريخية”.
وختم رخيلة كلامه، بالقول: “الشعب الجزائري ظل يتداول اسم جامع كتشاوة الذي يبقى معلما من معالم مدينة الجزائر، حيث يتوسط قلب العاصمة بين باب عزون وساحة الشهداء الرمز”.
الشيـخ عبد النور شقور: “كتشاوة..مقصد الزائرين”
اتّصلنا بإمام الجامع حاليا، الشيخ عبد النور شقور، الذي أكد لنا على البعدين الديني والسياحي اللذين يميزان الجامع التاريخي اليوم، إذ تعرف البناية الدينية إقبالا كبيرا من قبل المواطنين، خاصة خلال شهر رمضان المبارك، ومعروف عن الجزائريين تعظيم الشهر الفضيل، مشددا على تأدية الصلوات الخمس فيه.
وعن نشاط الجامع، خلال أيام الأسبوع، وتزامنا مع الشهر الفضيل، شدد شيخ الجامع على وجود نشاط خاص، حيث يقام درس الجمعة والخطبة، وإقامة الصلوات الخمس وصلاة التراويح التي تشهد إقبالا كبيرا منقطع النظير، وتستقطب مختلف فئات المجتمع.
ونقلنا تساؤلنا لإمام المسجد بخصوص التواجد المكثف للسياح هناك، ودورهم في الترويج للهوية الدينية الجزائرية والمبنى التاريخي والحضاري، فأكد أن “السياح الأجانب يقصدون الجامع من أجل أخذ صور تذكارية، حيث يستأذنون للدخول إلى المسجد في زيارة خفيفة رفقة الإمام أو المسؤولين على حراسة وحماية الجامع”، مبرزا أن أغلب الجنسيات التي تزور كتشاوة من الجنسيات التركية، حيث زارت سفيرة تركيا المكان أكثر من مرة، إضافة إلى الفرنسيين والموريتانيين والتوانسة..
و عن رواد الجامع حاليا، فقد أكد شقور، أنهم شباب يأتون من مختلف ولايات الجزائر، من بومرداس، الصحراء، واد سوف، تبسة ووهران وغيرها، وكانوا في أغلب الأحيان وعقب كل صلاة يعرّفون بأنفسهم أمام الإمام.