تناولت الصحيفة الوطنية “المساواة” مأساة سكان قالمة يوم 8 ماي 1945، بالاعتماد على ربورتاج نشر في شكل سلسلة من المقالات سنتين بعد المجزرة أي في 1947، أنجزه عميد الصحفيين الوطنيين عبد القادر سفير، اعتمد فيه على أحد الشهود الذي عايش الأحداث، يقدم التفاصيل حول عمليات القتل الجماعي ونشاط المليشيات مع ذكر المسؤولين الاستعماريين عن المجازر.
أولت صحيفة “المساواة” اهتماما خاصا بمجازر 8 ماي 1945، بنشر سلسلة من المقالات من 15 أوت إلى 03 أكتوبر 1947، جاءت في شكل روبورتاج مطول عن قصة الأحداث في مدينة قالمة، وردت على أكاذيب الصحافة الاستعمارية وأدانت المجرمين الاستعماريين وعلى رأسهم ليسترادكاربونيل، والي قسنطينة وأشياري، رئيس دائرة قالمة وقادة المليشيا.
وفي هذا الصدد، تقول الباحثة مفيدة سكفالي، من جامعة قالمة، والتي قامت بدراسة حول كيفية تناول الصحيفة لمجازر 8 ماي 1945 بقالمة، أن الصحفي وعضو نشيط في حركة أحباب البيان، عبد القادر سفير، كتب ربورتاجا عن شاهد عيان لم يذكر اسمه أشار إليه بحرفين، والذي كان ضحية للقمع ونجا من الموت بمعجزة.
روى يوميات الرعب والموت، التي عاشها وتحدث سفير، عن بداية المؤامرة الاستعمارية في قالمة قبل الأحداث، حيث أنه بداية من أفريل 1945 انتشرت أكاذيب مثيرة للفوضى من طرف الصحافة الفرنسية والمستوطنين المستفزين في أن أمن ووجود الأوروبيين مهدد من قبل العرب المتفقين على رمي الفرنسيين في البحر.
وعملت الإدارة المحلية هي الأخرى على التحضير للمؤامرة لإثارة إضطرابات لتبرير القمع ووزعت الأسلحة على العديد من المستوطنين في المدن والأرياف، يصف الصحفي يوم 8 ماي 1945 قائلا : “يوم الثلاثاء 8 ماي 1945 يوم عيد النصر كان يوما حارا بشمسه الإفريقية، سكان واد سيبوس، نهضوا مبكرا للإحتفال بالنصر، كان ذلك فرصة لتحقيق المصالحة بين العناصر المسلمة والأوروبية، كان ذلك ممكنا لكن أشياري، وجه ضربته السيئة في الظل”.
وأضاف المتحدث: “بعد الظهيرة من 7 ماي أذيعت المستجدات بوقف إطلاق النار في الأرياف البعيدة بصوت المذياع، وكيف أن الاحتفالات بنهاية المعارك ستنظم في مختلف أنحاء الجزائر بكاملها، باستعراضات عمومية ومسيرات شعبية والتي يشارك فيها عموم السكان.. “.
وأشار: “ يوم 8 ماي 1945 على الساعة الرابعة والنصف آلاف المسلمين تجمعوا عند سور المدينة وفي الأراضي المجاورة وعند باب السوق وشكلوا موكبهم أمين القسمة سمعان عبده، ونائبه أوترسي والعديد من الشخصيات أرادوا فرض النظام والأمن وإفشال كل استفزازات الشرطة، فنزعوا كل الأسلحة من المتظاهرين”.
وقال أيضا: “موكب المسلمين دخل المدينة من باب السوق وسار في الشوارع، وتوقف في الساحة بصفة منضبطة صامتة وهادئة. صاحت امرأة أوروبية “آه إنها فنتازيا جميلة”، أشياري كان بجانبها وكان بصدد الانتهاء من خطابه نزل إلى المرأة وقال لها: “سترينا الفنتازيا الجميلة، سترينها لأجل فرنسا، وحتى تكون فنتازيا جميلة حقيقة لابد لها من رائحة البارود.. “.
ثم سار بسرعة إلى المتظاهرين- روى الصحفي- وأمرهم بالتوقف وقال لهم ما هدف هذا الموكب؟ أجابه أحدهم: إنها تحية وترحّم نريد أن نعبر عنها للآلاف من موتى الحرب، التي شارك فيها الجزائريون والجزائر بشكل واسع وبكل إمكانياتها، هذه المسيرة شعبية وعفوية، لا تمس بأي حال بالنظام العام، لنا الحق في الإحتفال بالنصر والتضحيات التي قدمناها”.
كانت اللافتات تحمل شعارات “يحيى انتصار الحلفاء، يحيا بيان الأطلسي، تحرير غير مشروط لمصالي”، وهناك من يحمل أعلام فرنسية، سوفياتية، أمريكية وانجليزية أضافوا إليها الألوان الوطنية، آثار الموكب غضب أشياري، الذي كان يحمل في جيبه الخلفي مسدسا معبأ أخرجه وأطلق طلقات ثلاث مرات على الألوان الجزائرية وتفرق المتظاهرون وأمر أعوانه بإطلاق النار نحو المسلمين، الذين تساقطوا وتفرقت المظاهرة وعاد الهدوء في المساء.
وفي الليل قامت الشرطة بأوامر من أشياري، بجولات في الحي العربي للمدينة وأوقفت 90 شخصا منهم 11 عضوا في حزب البيان والحرية استنطقهم أشياري، وفي التاسع ماي عند المساء أعطى الأمر بمواصلة الإيقافات، وأرسل برقية إلى ديغول يطلب فيها إعدام كل المعتقلين وبقرار شخصي قام بتنحية كل الموظفين المسلمين من المناصب الرسمية، وأعلن حالة الطوارئ.
التحريض على الإبادة بأوامر من الإدارة الاستعمارية
ووجه نداء لقتل الجزائريين جاء فيه: “تعالوا لإنقاذ امتيازاتكم، سارعوا إذن خذوا المسدسات، البنادق، الرشاشات العديدة، اختاروا، سلحوا أنفسكم باسم الاستعمار السخي والإنساني، اقتلوا، اقتلوا هؤلاء العرب مهزومي 1830، أصحاب الألبسة الرثة والبطون الخاوية، وكل من يتجرأ للحديث عن حقوق الإنسان، والشرف الإنساني، ويدفعون بطموحاتهم لتكون هناك مساواة معنا، عيشوا كرجال فوق هذه الأرض الجزائرية التي ينبغي أن تبقى لنا إلى الأبد “.
وأكد الصحفي، أن المستوطنون انضموا إلى المليشيا المسماة بالحرس الجمهوري من مختلف التيارات، ذهبوا إلى منزل موزع صحيفة المساواة، عبد المجيد جربوعة 33 سنة، أخذوه مكبلا بالسلاسل وأعدم في مكان غير بعيد عن بيته من قبل شرطي، وشرع في قتل كل ما هو عربي، أصوات محركات الطائرات سمعت، العديد من أسقف منازل الحي العربي دمرت، وأطلقت الطائرات قنابلها لنقتل بدون رحمة العديد من المسلمين في القرى.
وأشار المتحدث إلى أنه في ليلة 10 و11 ماي امتد الرعب إلى القرى ودمرت قالمة جراء القصف الجوي، والأوروبيون لم ينقطعوا عن إطلاق النار ومشاهد تعذيب مروعة. وقال: “ زميلنا H. K المعتقل الذي نجا من الموت بمعجزة لاحظ آباء وأصدقاء مسجونين مثله أخذوا ولم يعودوا مع معتقلين آخرين، ادخل في حفرة مع جثث إخوانه المقتولين، ورغم مرور عامين إلا أنه لم ينس شيء، يوم الجمعة 11 ماي استمرت القرى القالمية في تلقي هجومات الطيران بشكل غير منقطع خلال ذلك اليوم قتل محمد رقي، بطريقة هتلرية حوالي الساعة 16.00 أوقفت أخته الزهرة وإخوتها الثلاث عبد الحفيظ 40 سنة، عمار وعبد الله وهو معطوب حرب 1914-1918، وصاحب وسام شرفي، عاد إلى عائلته في الجزائر بعد إقامة في فرنسا منذ 30 سنة”.
ويروي الريبورتاج استدعاء محمد رقي، صاحب مقهى المرايا وفندق الشرق، في المساء إلى الدرك، حيث كان رقي، متعاطفا مع أ.ب.ج، وهو رئيس جمعية المدرسة الحرة القالمية، ويمارس نشاطه في إطار قانوني في المجال الثقافي والاجتماعي، ولكن الإدارة المحلية لم تكن مرتاحة إليه.
وبعد استجواب طويل قيل له: “سيد رقي، يمكنك ان تطمئن لم تثبت ضدك أي تهمة”، كانت الساعة التاسعة حينما خرج من مقر الدرك للعودة إلى بيته، وفي المكان المسمى حديقة ديغول، أطلقت من نافذة الدرك رصاصات أصابته في الظهر، وثمانية أيام بعدها قتل ابنه وأخته الزهرة رقي، التي يستذكرها سكان قالمة المرأة المثقفة التي كانت تعلم البنات اللغتين العربية والفرنسية.
عذبت طوال فترة احتجازها، نزع شعرها وأهلكت بضربات المليشين، قاومت وفي مساء أحد الأيام أخرجوها من معتقلها وأخذوها إلى العين الساخنة، بالقرب من نهاية المحطة عند حمام المسخوطين، نزعت جلدة رأسها التي كانت تغطي حاجبيها وماتت وهي تصرخ “تحيا الجزائر”.
روائح البارود والموت شاهدة في الشوارع والساحات العمومية
ويروي شاهد عيان، أنه يوم 14 ماي حوالي الثالثة والنصف زوالا أوقفه جون مونقولي، من المليشيات، وفي ذلك الحين أخذ الدرك خاله أحمد بن شيدة وخليفة غفار، ادخلوه لمكتب المساعد، أين كان بعض الشباب الجزائريين، تعرف على المناضل عبد الله فليفلة، والذي قتل رميا بالرصاص.
قال: “بعد تفتيش هويتي أخذوا مني حافظة أوراقي وفيها 450 فرنك وانهالوا عليا بالضرب، ثم أمروني بالالتحاق بزملائي في ساحة الدرك، وفي طريقي كنت اسمع أنين وصياح لا يحتمل للمعتقلين”.
وأضاف: “ألقيت وسط حقد المليشيين، الذين كانوا يدفعونني الواحد للأخر، ويوجهون الى ضربات عنيفة بالأرجل والأيدي والبنادق وهم في حالة هيجان مثل الثيران الهائجة، وفي النهاية تلقيت ضربة دبوس وتدفقت دمائي وفقدت الوعي، حينما عدت إلى الحياة نظرت وكنت أرى جهنم أمام أعيني “.
وأشار إلى وجود 180 رجل ملطخين بالدماء ألبستهم ممزقة من آثار الاعتداءات والتعذيب، في ساحة الدرك الضيقة، كانت تخرج من أجسامهم حرارة تخنق الأنفاس، بقي الضحية هناك للعديد من الأيام بدون غذاء ولا شراب.
وقال: “ما كانت تأتي به أمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا لا يصل الينا، في25 ماي رأيت خالي بن شيدة، بين أيدي شرطة الاستعلامات العامة أخذ مع عبد الكريم فاسي، الى مكان لم نعرفه ولم يعودا، في المساء نادوني مع مجموعة من رفاقي إلى مكتب المليشيا لدفن الجثث”.
وتحدث الربورتاح عن زيارة والي قسنطينة ليستراد كاربونيل، والجنرال دوفال قائد الناحية العسكرية لقسنطينة، لمدينة قالمة في 12ماي وتحريضهما على القتل، وقد استقبلهم رئيس الدائرة السفاح أشياري، وانضم إليهم وكيل قضائي يدعى سحيلي، الذي قال لهم بعد سماع تهنئة ليستراد كاربونيل منظمي المجازر: “لكن الجدير القيام بتهدئة الأحقاد واتخاذ قرارات كفيلة بوقف المأساة، حتى نتجنب حفر الخندق بشكل أعمق بين العنصرين السكانيين للبلاد”.
أجابه الوالي: “ بالنسبة لنا لا وجود لعنصرين سكانيين في هذه البلاد، لا يوجد سوى عنصر واحد له اعتباره، وهو العنصر الأوروبي، العنصر الآخر فليس أمامه سوى الخضوع دون شروط”.
ثم التفت إلى قادة المليشيا قائلا: “سادتي قوموا بواجبكم كفرنسيين، استمروا في ضمان النظام في كل مكان وبكل الوسائل وبينوا ان فرنسا هي قوة كبيرة”. واختصر الجنرال دوفال، كلمته في جملة واضحة: “اصنعوا لنا في هذا المكان برلين صغيرة”.
ضحية أوروبية تكلف قتل ألف جزائري مسلم
وأكد صاحب المقال الصحفي سفير، أنه بعد 12 ماي 1945 اشتدت الإعدامات الجماعية، ويذكر قتل 40 شابا من الكشافة الإسلامية، وكانت ضحية أوروبية واحدة تكلف قتل ألف جزائري مسلم، وتحدث الصحفي عن عمليات التعذيب وحرق الجثث بعد رشها بالبنزين، ونقل صورة حية للاماكن التي كانت مسرحا للمجازر مع ذكر التاريخ والساعة، وتفاصيل حول هوية القتلة والمقتولين وعمل أجهزة القمع الاستعماري وكيفية التنسيق بين مصالح الدرك والشرطة والمليشيا، حيث تحول مقر الدرك لمكان لمحكمة الإعدام التي نظمتها المليشيا.
استهدفت المجازر المسؤولين الوطنيين في قسمة حزب أحباب البيان والحرية، الذي كان يضم 12 ألف منخرط. عاش سكان قالمة طوال شهر ماي أياما مرعبة من القتل العنصري والإبادة الجماعية، وكان القتل ممنهجا تحت وصاية السلطات المدنية والعسكرية ومسؤولية الحكومة الفرنسية، وعلى رأسهم الجنرال ديغول، الذي دعا من باريس لقمع ما اسماه بالأقلية المحرضة، هذه إذن صورة عن جرائم فرنسا يوم 8 ماي 1945 والتي لا يمكن محوها من الذاكرة الجماعية للجزائريين.