استنطقت بعض الأعمال الرّوائية والقصائد الشعرية مجازر 08 ماي 1945، وتقصت مدى قساوة المشهد المهيب لانتفاضة شعب أعزل ضد هيمنة المستدمر الفرنسي.
الكلمة..رصاصـة في قلـب النسيان
إنتاج شعري عرف زخما يتواصل إلى يومنا هذا، حيث ما تزال الأقلام تنبض بالذكرى الوطنية، وتؤرّخ فصولا من الحقيقة في أشعار راقية، ستبقى لا محالة من أبرز ما كتب عن قضية عادلة أدبيا وثقافيا وإبداعيا.
ساهم كثير من الكتاب والشعراء في تدويل مجازر الثامن ماي، تلك الأحداث المروعة المؤرخة في 1945 في أعمالهم التي لم تكن مجرد كلمات لتُقرأ، بل كانت وقائع ورسائل قويّة راسخة في ذاكرة الأجيال.
قدم الشعراء والأدباء من خلالها روائع الأعمال، لاسيما القصائد في كل من الشعر العمودي والشعبي، وهو ما وجدناه من آثار الكتاب الذين سارعوا إلى تحويل الأحداث إلى أعمال روائية ككاتب ياسين، عمر مختار شعلال، عز الدين جلاوجي، باعزيز بن عمر، محمد البشير الابراهيمي.
ومن الشعراء الأفذاذ الذين وثّقوا مجريات مشاهد الإجرام في الشعر العمودي نجد محمد العيد آل خليفة، أبو بكر مصطفى بن رحمون، الربيع بوشامة، محمد الأخضر السائحي، وفي شعراء الشعبي نجد خليفة محمد السعيد فيلالي وعلي شرفي اللذين اقتفيا لحظات استشهاد زمر من أبناء الجزائر، تحاكي يوما أسود شهد أفظع مشهد لتلاحم الدم بالنار، وهذا على غرار المقالات التي اتخذت طابعا ثقافيا لتمرير رسالة الانتصار لحرية الأرض.
الثامن ماي في الأعمال الأدبية
ما يختص بمجازر 08 ماي من روايات، نجدها فيما تناولها الأديب كاتب ياسين في رواية “نجمة” التي ترجمت إلى لغات عديدة، وذلك من خلال بضعة فصول تطرق فيها إلى مشاركته الشخصية وهو ابن 16 سنة في هذه المظاهرات، وتعرضه فيما بعد للسجن والحكم عليه بالإعدام، وعموما تعد رواية واقعية رمزية تعالج قضية الاحتلال الفرنسي في الجزائر.
وتتمحور حول الثورة فهي تقدّم معاني تكشف عن اضطهاد الناس في الجزائر وحرمان الجزائريين من أقل حقوقهم، وتصوّر ما ارتكبه الاحتلال الفرنسي من الجرائم خلال قرن وثلث قرن، فالكاتب لم يتحدث عن القتل الحقيقي بل تحدّث عن القتل الرمزي، قتل الجزائر وهويتها وأصولها، وسحق الاستعمار للثقافة القومية فيها.
وفي ذات الصدد، نجد أنّ الكاتب عمر مختار شعلال تطرّق في رواية “تالغودة” لهذه المجازر التي تحكي جزءا من سيرة حياة وكفاح الصحفي والمناضل في الحركة الوطنية عبد الحميد بن زين (صديق كاتب ياسين) خلال الفترة من 1931 إلى 1945، تروي في قسم منها مشاركة بن زين في هذه المظاهرات بسطيف بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تحت إشراف حركة أحباب البيان والحرية، والتي كان الهدف منها تذكير الفرنسيين بوعود حق تقرير المصير التي قطعوها على أنفسهم تجاه الجزائريين وبقية الشعوب المستعمرة، وقد جاء رد فعل المستعمر قاسيا لبن زين ما جعله يغادر المدينة ليعود إليها بعد هدوء الأمور غير أنه تعرض للاعتقال وزج به في السجون أين تعرّض لأبشع أشكال التعذيب إلى حين إطلاق سراحه في 1946.
وسجلت رواية “حوبة ورحلة البحث عن المهدي المنتظر” لعز الدين جلاوجي، ظهور الحركة الوطنية بسطيف، وانتشار الوعي السياسي لدى سكانها والجزائريين عموما، وقد رصدت أيضا وبنوع من التفصيل مجازر 8 ماي. الشاهد أن هذا العمل على غرار بقية الروائع المندرجة ضمن الرواية التاريخية، تحتل مكانة هامة في هذا الفن، نظرا للظروف الصعبة التي عاشها الشعب الجزائري طوال السنوات الماضية، من جوع وفقر وتشرد وغيرها من الآلام والمعاناة، هذا ما جعل الأديب الجزائري متعطشا للكتابة في هذا النوع الروائي، فحبّه لوطنه وغيرته عليه وحرقة قلبه على شهدائه الذين ضحّوا بالغالي والنّفيس لأجل هذا الوطن الحبيب، حرّك ذائقته الفنية.
الكاتب باعزيز بن عمر، ترك تراثا فكريا زاخرا مبثوثا في ثنايا جرائد ومجلات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، قدّر بنحو 500 مقالة، فضلا عن مؤلفات مخطوطة عديدة منها: كتاب دروس الأخلاق والتربية الوطنية في أربعة أجزاء؛ تكفل الأستاذ إسماعيل زكري بنشر بعضها بعد وفاة مؤلفها، أبرزها “الجزائر الثائرة”، وهي عبارة عن مسرحية تاريخية وهذا على غرار بعض المؤلفات مثل “رحلتي إلى البقاع المقدّسة”، هي من منشورات المجلس الإسلامي الأعلى سنة 2005م، “من ذكرياتي عن الإمامين، عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي”، منشورات الحِبْر، 2006م بالجزائر.
في ظل ما اكتفت به النصوص الروائية من الإشارة إلى مجازر الثامن ماي من خلال السياقات السردية واعتماد الرمزية والإيحاء، لم تشكّل هذه الأحداث موضوعا لنصوص سردية بعينها، وهو ما عبّر عنه الناقد محمد ساري في أحد تصريحاته، بقوله إن “هذه المجازر هي حدث تراجيدي استولى عليه التاريخ، حيث تم تناولها تاريخيا أكثر منه أدبيا نظرا لمأساويتها”.
وقال إن التطرق إليها يتطلب غالبا معايشتها مثلما فعل كاتب ياسين”، وأنه “ليس من السهل الكتابة عنها مباشرة غير أنه يمكن تناولها من زوايا محدّدة”، غير أن المجال الشعري حتى وإن كان متحررا بعض الشيء من تداعيات الرواية، إلا أن بعض الشواهد أثبتت أن الانتاج الشعري توقف من هول الأوضاع المترتبة عن المجازر قبل أن ينطلق برصيد قوي وغزير.
الشعر يرصد المجازر الفرنسية..
استجاب الشعراء الجزائريون للتعبير عن نكبة ماي ونكبة الجزائريين، حيث ندّدوا بالمجزرة الرهيبة، ومن الطبيعي أن تكون استجاباتهم مؤجلة إلى حين، وهذا حسبما أكده بعض الباحثين في دراسات سابقة للموضوع ذاته، ومن بين هؤلاء الأديب حمزة بوكوشة الذي نشر مقالة في جريدة “البصائر” عام 1949 بعنوان (هل في الجزائر شعراء؟).
وقد أجاب عن السؤال بقوله: “سؤال يكاد الإنسان يجيب عنه بديهيا بأنّ في الجزائر شعراء كثيرين وكثيرين جدا، ولكن وقع الجريمة لم يكن من السهل على حامل القلم أن يكتب مباشرة عنها”، وما يؤكد ما ذهب إليه حمزة بوكوشة أن الشاعر أحمد سحنون تعجّب لانقطاع الشاعر محمد العيد آل خليفة عن القول على الرغم أنه كان من الأصوات الشعرية المسموعة في كل المناسبات والأحداث، فبعث إليه برسالة نثرية وثنى عليها بقصيدة من تسعة عشر بيتا، قال في مطلعها:
شاعر الضاد والحمى ما دهاكا؟ فحرمت النهى ثمار نهاكا؟
ما الذي أسكت الهزار عن التغريد يا ملهمي جعلت فداكا
لينظّم بعدها الشاعر محمد العيد آل خليفة قصيدة سينية تحت عنوان “لا أنسى”، تقول بعض أبياتها:
أأكتم وجدي أو أهدئ إحساسي** وثامن ماي جرحه ما له آسي،
تمر الليالي وهو يدمي فلم نجد**له مرهما منهم سوى العنف والباس
إذا ما رجونا برأه ثار دافقا**بأحداث سوء وقعها مؤلم قاسي
وفي هذا السياق، يعتبر الثامن ماي بالنسبة إلى الشاعر أبي بكر مصطفى بن رحمون بركانا انفجر في الوقت المناسب، لم ينحصر في بقعة جغرافية ضيقة، بل تجاوزت حمم أصدائه التصور، ووصلت إلى أغلب مدن الشرق الجزائري، وتناقل من حضره أخبار المشاهد الدرامية الأولى للفجيعة:
دوّت كعصف الرعد في الآذان وتفجّرت في الشرق كالبرهان
منها الجزائر لا تسل عن وقعها عما تكابد من أسى وتعاني.
يا أيّها – الحكم – الفخور ببغيهم أكذا مواساة الجريح العاني
أيكون عتبكم على سفهائكم تبرير ما اجترحوه من عدوان
وترون إثمهم انتصارا فاتكم أن تكسبوه على بني جرمان
وترونه إن قام ينشد حقه أهلا لكل مذلة وهوان.
وكانت للشاعر الشهيد الربيع بوشامة، المشاركة الفعالة في أحداث 8 ماي 1945 بمدينة خراطة، بسببها زج في السجن ومكث به مدة تسعة أشهر، ذاق خلالها العذاب الشديد، وعند حلول الذكرى الرابعة وقف والألم يعصر قلبه ليتأسف على منظر ماي، الذي تحول بجرائم جنود الاستعمار من شهر ربيعي هادئ إلى شهر للتشاؤم والظلم:
يا ماي قد ظلموك حقّا مثلما ظلموا الضعاف وشوهوك بذام
وكسوك ثوب المجرمين إهانة مقصودة لسنائك البسام
ما كنت أهلا للفجائع والأذى لولا هوى في دولة الأقوام
ورموك من بين الشهور بوصمة شوهاء، تبقى سبة الأعوام.
قبحت من شهر مدى الأعوام يا ماي كم فجعت من أقوام
شابت لهولك في الجزائر صبية وانماع صخر من أذاك الطامي
وتفطّرت أكباد كل رحيمة في الكون حتى مهجة الأيام
تاريخك المشؤوم سطر من دم ومدامع في صفحة الآلام.
في حين كتب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، قصيدة في وصف مجازر ماي بالعنوان نفسه “ذكرى 08 ماي” تعد إلى جانب قصيدة محمد العيد آل خليفة من الاستجابات الأولى تجاه ما حدث، يقول الإبراهيمي في مطلع القصيدة:
ذكراك يا يوم
تحز في الأحشا
إذ أقبل القول
وحش تلا وحشا
يا يوم لم تشرق
شمس على مثلك
آل الضحى مغرق
والملتجى مهلك
وهذا إلى جانب ما خلده شاعر الجزائر مفدي زكريا في ذكرى مجازر 8 ماي 1945 الوحشية التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر، وذلك في إلياذة الجزائر التي قال فيها:
ولم ننس في أربعين وخمسِ…ضحايا المذابح في يوم نحسِ
طـربنا مع الحلفاء اغــترارا…وقـمنا نصفـق في غـير عُـرْسِ
فـكانوا مع الغـدر عـونا عـلينا…ودرسا لقادتنــا أي دَرْس
وكانت مجازرهم بسطيف…وقالمة للشعــب دقـات جَـرْس
وهـزّ لستراد شعـبا تواني…وأيقـظ فـي العـمق ميِّتَ حِـسّ
وعــلمنا آشيار الثّنايا…فــبدّد لــون الدّمــآ كــل لـــبْـس
وكانت تلاحــق أقــلامنا…سراب الضـياع فــباءت ببخس
وكانت تكافح أحزابنا…مع الوهــم بين صــراخ وهــمس
فعطّل صوت الرصاص اللغى…وأنطـق ألسنة غـير خرْس
فـقامت تعـبد أكــبادنا…طــريق التّخلص من كل رجــس
استذكر الشاعر محمد الأخضر عبد القادر السائحي في الذكرى الثالثة والعشرين للمأساة المجزرة وقلبه يتفطر من الألم والحزن على شهداء ماي، حيث أنشد يقول:
ذكريات الأسى
تذيب فؤادي
بنشيد مبرح التنهاد
كلّما عاد ماي
شهر العوادي
ذكر الناس يوم حزن بلادي
ماي 1945 في الشّعر الملحون
من بين القصائد الشعبية الملحونة التي قيلت عن 08 ماي 45، وما وثقته منطقة فج امزالة التابعة لمنطقة فرجيوة ثلاثة قصائد، قصيدة للشاعر علي شرفي وقصيدتين للشاعر الشعبي خليفة محمد السعيد، ففي إحدى قصائد الأخير يبدأ قصيدته بالإشارة إلى مجازر 08 ماي 45 عندما قصفت القرى والمداشر، ودمرت أكثر من أربعين قرية عن بكرة أبيها حيث استشهد أثناء تلك الحوادث 45 ألف من الجزائريين في كل من قالمة وسطيف وخراطة وفج مزالة والمنار وأولاد عامر، ومن أهم ما قال في قصيدته “الدموع الحمراء”:
بكات العين ودموعها سالت بالدم * يوم ما رخسـت وهانت لعمار
شافت صبيـان تبكـي وتتألـم * والأب المذبوح أمام الأبصار
الأخ المفقود بحالـوا ما تعلــم * والأم الحنون فـي يد الجزار
مربوطة بسلاسل ما عندهاش الفم * صابرة لحكم الله وتسنى لقدار
هذا حال المظلوم في يد الظالم * وحال المحكوم في يد الاستعمار
وفي قصيدة أخرى له يقول الشاعر عن مجازر منطقة فج مزالة ما يلي:
في 08 ماي خرجنا نطالب بالميعاد 45 ألف جرحى في قلوبنا غارسة
حرقوا القرى وقتلوا العباد * قتلوا حتى المرأة اللي كانت نافسة
أرعد الرعد واحمل الواد * وحرك كل العقول اللي كانت حابسة
أما الشاعر علي شرفي فلقد صوّر أحداث ذلك اليوم المشؤوم في قصيدة اختار لها عنوان “معقل الثوار” قال فيها:
في الخامس والأربعين صاروا معجزات
في سطيف وقالمة فالشاو بذات
بني عزيز وخراطة بكل ثبات
فرجيوة تألمت وبكات كانت البداية بحراس الغابات
من كيد الأعداء قاموا بالتضحيات
عمار مروج ورجال أذكياء
في الخامس والأربعين داروا المعجزات
سلبوا أروحهم من أجل التضحية
أكثرهم لا يرغب في الحياة عمار مروج في يدو بندقية
يضرب ويقول هاكم من عندي جات
آمر الحاكم للقوة جات
عملوا المقابر والسجون ملات
يبقى حضور الذكرى الأليمة 08 ماي 1945 في المشهد الثقافي والإبداعي، خاصة في مجال الشعر حاضرا، بفضل شعراء مخضرمين وشباب، وذلك من خلال الفعاليات التي خصصت لإحياء المناسبة.
وفي انتظار الأعمال الأدبية التي تنتفض من حين لآخر في مسودات الكتاب، يبقى المتلقي يترصد ثورانها يوما ما، على شكل روايات يكتمل بوجودها الوجه المشرق للإبداع الأدبي الحاضن للتاريخ والملاحم على غرار الفن بكل أشكاله.