الدكتور العربي بوبكر، أستاذ التاريخ بجامعة المدية، متخصّص في التاريخ الوسيط للعالم الإسلامي وقارة آسيا. استضفناه اليوم، وأجرينا معه هذا الحوار الذي يتوزّع على أربعة محاور، أولها التراث وكيفيات حمايته والتعريف به والترويج له، وثانيها علم التاريخ وضوابطه الأكاديمية وأدواته البحثية، وثالثها توظيف الإبداع الأدبي والفني للتاريخ، والكتابة بالتاريخ وللتاريخ.
حوار: أسامة إفراح
في المحور الرابع يتطرّق إلى بعض القضايا المعاصرة كالاستقطاب الدولي والنيوكولونيالية، ودور التاريخ في الدفاع عن سيادة الدول وقيمها. كل هذه القضايا، يحاول د – بوبكر أن يسلط عليها الضوء في هذه السانحة.
يجب الإشادة بروّاد الكتابة التّاريخية في الجزائر والتنويه بما قدّموه
الشعب: تعرّف اليونسكو التراث بأنّه “ميراث الماضي الذي نتمتع به اليوم وننقله إلى الأجيال القادمة”..في رأيك، هل يكفي صيانة التراث وحمايته من التلف وتخزينه في المتاحف أم أنه يتوجّب علينا تثمينه واستغلاله وجعله جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية؟
الدكتور العربي بوبكر: أوّلا ينبغي أن نعطي تعريفا موجزا عن مفهوم التراث، فهو كما يعرّفه البعض، المخزون الثقافي المتنوّع والمتوارث من الآباء والأجداد، والذي يشمل القيم الدينية والتاريخية والحضارية والشعبية، بما في ذلك العادات والتقاليد، سواءً كانت مدوّنة في كتب التراث المختلفة، أو متوارثة أو مكتسبة..وما دام التراث نوعين، ماديّ ولا ماديّ، فإنّنا قد نملك القدرة على صيانة التراث المادي وتخزينه من جهة، ومن جهة أخرى، يجب استغلال هذا التراث والترويج له واستعماله كاللباس التقليدي (القشابية، القفطان، الخلخال…)، والأمر أكثر ضرورة فيما يتعلق بالتراث اللامادي الذي هو كل المظاهر غير المادية وغير الملموسة لمختلف تشكلات التراث الإنساني، الذي يرتبط بشكل مباشر بهوية أصحابه أو مبدعيه، فهو ذو صلة وثيقة بالمجتمع، وهذا ما استوجب سنّ العديد من القوانين لحمايته باعتباره مكوّنا أساسيا لثقافات الشعوب وتمايزها وتنوّعها وثرائها. وهو ما يؤكّده إعلان اليونسكو الذي يجسّد هذا التنوع الثقافي وتعدد الهويات المميزة للمجتمعات البشرية. ومن هنا، فإنّه من الضروري إيجاد طرق ووسائل تجعل عملية الاستغلال متاحة وممكنة في الحياة اليومية للمجتمعات من خلال التعريف بذلك التراث والترويج له، وليس لمجرد وضعه في المتاحف المغلقة دون توظيفه في بناء الفكر الاجتماعي والسياسي، فهو في النهاية عملية ديناميكية لشحن المجتمعات وتُعزز قيمها الحضارية والثقافية من أجل تمتين الروابط الاجتماعية وتعزيز عوامل الوحدة من خلال هذا التنوع.
ما هو دور علم التاريخ في حماية التراث أولا، وتثمينه ثانيا؟
قد يكون علم الآثار كما يعتقد البعض المعني مباشرة بالتراث المادي، وقد يبدو الأمر صحيحا لأنّ علماء الآثار من خلال أبحاثهم واستكشافاتهم الأثرية يساهمون في إعادة إحياء كثير من المعالم، والدعوة إلى إعادة ترميمها وصيانتها من خلال الاستعانة بالخبراء والمختصين في الهندسة والعمران، بحيث تبقى تلك الهياكل محافظة على روحها. وبالنسبة لعلم التاريخ، فإنه يسهم هو الآخر في دعم علم الآثار في المحافظة على التراث اللامادي من خلال الكتابات التاريخية التي تسهم في نقل التراث الإنساني اللامادي (عادات، ثقافات، معتقدات، فكر…)، لذلك وجدنا كثيرا ممّن كتبوا في هذه المجالات، فكان لعلم التاريخ بذلك إسهامه بشكل مباشر في نقل هذا الموروث، وهنا نستشعر ما قام به نابليون بونابرت خلال حملته على مصر (1798م) حيث أمر بكتابة كل ما يتعلق بمصر في كتاب ضخم يضم عدة مجلدات (تحت عنوان “وصف مصر”) يتناول تراث مصر المادي واللامادي. ومن هنا يمكن القول إن علم التاريخ أداة فعالة لعملية استمرار الموروث الثقافي، والقدرة على خلق تنمية فكرية مستدامة، وبهذا يمكن أن نثمّن هذا الموروث من خلال الاهتمام بالتاريخ.
كيف يمكن الترويج بنجاعة لتراثنا الثقافي؟ وهل يكفي “مجرّد الترويج” لهذا التراث أم يجب أن تتبع ذلك خطوات عملية أخرى تجعلنا “نستفيد” من تراثنا أكثر؟
في ظل التكنولوجيا التي يشهدها هذا العصر، فإن أدوات الترويج كثيرة ومتنوّعة، منها: وسائل الإعلام المختلفة (التلفزيون، الإذاعة، الصحف، المجلات) شبكات التواصل الاجتماعي، التسويق السياحي والمؤسسات المعنية بالشأن الثقافي، الندوات، المحاضرات، المؤتمرات… ولكن الترويج وحده لا يكفي، بل لابد أن ترافقه سياسة شاملة ذات خطط تستهدف نتائج محددة تتمثل أساسا في إيجاد آليات لاستقطاب المتلقي وتحفيزه للاهتمام بتراثه بنوعيه، وتحسيسه بأهمية ذلك، لأن التراث في النهاية هو تعبير عن هوية المجتمع وثقافته، ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق بناء وعي جماعي بأهمية التراث في بناء الشخصية الجماعية، كما أنه ذو أهمية اقتصادية خاصة إذا تهيّأت الظروف التي تستقطب الأجانب، فيصبح حينها موردا من الموارد التي تدعم الخزينة العمومية، من خلال السياحة الدينية والحموية والأثرية.
من هو الجمهور صاحب الأولوية في عملية التعريف بالتّراث خصوصا، ونشر المعرفة التاريخية عموما؟ هل هو المتلقي المحلي، أو الأجنبي؟ أم أنّ كلاهما على نفس القدر من الأهمية؟
من وجهة نظري، أعتقد أنّ المتلقي المحلي أولى بذلك، لأن الكثير منا، مع الأسف الشديد، لا يعرف الكثير عن تراثه، حتى أصبح السطو على التراث الجزائري جهارا نهارا، لأنّنا لا نملك الأدوات التي تدافع عن هذا التراث، وهذه في الحقيقة ليست مسؤولية الدولة فحسب، وإنما هي مسؤولية جماعية مشتركة، فالكثير من معالمنا التراثية نجهلها، والبعض مما نعلمه لا نعطيه الأهمية ولا الرعاية اللازمة، والأكثر من ذلك أن بعضه يتعرض للتخريب والإهمال واللامبالاة. وإذا هيّأنا نحن الأرضية المناسبة من خلال الترويج والاهتمام، يصبح من السهل علينا إقناع المتلقي الأجنبي.
هناك من يحذّر من استسهال الخوض في التاريخ وادعاء التمكن من مفاتيحه..هل يجوز لأي كان أن يقول إنه مؤرخ؟ وهل يكفي أن يكون أحدهم مهتما بالتاريخ ليصير متخصصا فيه؟
الخوض في التاريخ ليس بالأمر السهل كما قد يتوهم البعض، لأنّه علم، والعلم يحتاج إلى أدوات ومفاتيح، وقد يكون هناك من يهتم بالتاريخ ويكتب فيه، ولكنه لا يملك الأدوات والمنهج، فيغدو عمله سردا للمعلومات دون الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها المؤرخ الحقيقي، والتي تعتمد على البحث والتقصي والتشكيك والتحليل والمقارنة والاستدلال، وكل هذا يحتاج إلى دراسة وموضوعية وتعمّق وقدرة وصبر وجهد..إنّ المادة التاريخية واحدة، لكن طريقة معالجتها هي التي تتفاوت حسب جودة المؤرخ.
في هذا السّياق، ما هي الشّروط التي يجب توفّرها لكي يكون البحث التاريخي رصينا، وموضوعيا، ومحترما للضّوابط العلمية المتعارف عليها؟
حتى يكون البحث التاريخي أكاديميا لابد أن يملك الباحث أدوات كالمنهجية، التخصص، التحكم في اللغات، الانفتاح على الثقافات، الإمكانيات المادية والمعنوية الواجب توفرها. ولكن يمكن إضافة بعض الشروط، أو إن شئت، الصفات، ومنها الجد والمثابرة، إذ لابد للباحث أن يروض نفسه على الصبر والجلد والجد، الدقة والأمانة العلمية التي تتطلب الابتعاد عن الإبهام والتعميم، الشك والنقد وهي من الصفات الأساسية للباحث في التاريخ، لأن ما كتب أو نقل أو سمع قد يكون متأثرا بالأهواء الفردية والنزعات القومية والاجتماعية، التجرد هو الذي تتطلبه الكتابة التاريخية وهو البعد عن أي هوى أو أي تحيز أو فكرة مسبقة (وهذا ما جعل المستشرقين يخطئون في فهم الحضارة الإسلامية لأنهم انطلقوا من أحكام مسبقة أرادوا الوصول إليها)، النزاهة وعدم الانحياز العقائدي والقومي، وتكمن أهمية هذه النقطة في محاولة الباحث الاجتهاد في التقليل من إبراز نزعته الذاتية في الموضوع، لكن في حقيقة الأمر يبقى هذا الأمر نسبيا، وقد قيل “إن التاريخ لا يكتب بدون حب أو حقد”، إضافة إلى صفات أخرى كالسفر والترحال والشعور بالمسؤولية في كل ما يقول الباحث ويكتب.
بالمقابل، هل يجب بالضرورة أن يكون ناشرو المعلومة التاريخية، كصانعي المحتوى التاريخي على وسائط التواصل الحديث، من خرّيجي معاهد التاريخ؟
معرفة التاريخ تعني الجميع، لكن كتابة التاريخ مسؤولية المؤرخين، ومن هنا يمكن القول إنّ صانعي المحتوى مجرّد هواة يفتقدون إلى الأدوات والمناهج، وبالتالي تكون معلوماتهم غير دقيقة، ومصادرهم غير معروفة، قد تقود المتلقي إلى أن يبحث عن المعلومة الحقيقية في مصادرها الأساسية. فكتابة التاريخ تحتاج – كما ذكرنا سابقا – إلى أدوات ومفاتيح، وكما يقال: “لا تاريخ بلا مصادر”، في حين أنّ صناعة المحتوى قد تستعمل فيه التكنولوجيا لإيصال معلومة ما قد تكون صحيحة أو محل شك، ومن هنا لا مجال للمقارنة بين صانع المحتوى والباحث، فالأول تكون أهدافه ربحية تجارية في الغالب، في حين تكون أهداف الباحث علمية.
هل البحث العلمي في التاريخ هو مهمة فردية، أم أنه مجهود عابر لأقسام علم التاريخ من جهة، وعابر للتّخصّصات ذات الصلة من جهة أخرى؟
في مرحلة من مراحل البحث العلمي، كان المجهود الفردي للباحث هو البارز، ولكن الآن، وفي ظل التحولات المختلفة، فإن البحث التاريخي أصبح في أمسّ الحاجة إلى العلوم المساعدة التي توفرها الأقسام الأخرى، كالإعلام والإحصاء وعلم الاجتماع، وغيرها من التخصصات التي تسهم في فهم الحوادث التاريخية وتحليلها وإبراز نتائجها وأهميتها، واستغلالها كأداة من أدوات التغيير من أجل قراءة المستقبل بتحليل سليم ومنطقي عقلاني، فاليوم، لابد من استغلال التاريخ في التنمية المستدامة وفي سيرورة المجتمع من أجل المحافظة على استمرار الوعي الجماعي والتلاحم والتضامن داخل المجتمع، من خلال إبراز الصفحات المضيئة في التاريخ والاعتزاز بها، وأيضا لابد من الاعتراف ببعض الأخطاء في ماضينا حتى نتجنبها مستقبلا.
دائما في نفس السّياق..كثيرا ما نقرأ عن مختلف الدول التي عرفها تاريخ بلادنا الوسيط مثلا، ولكننا نادرا ما نقرأ عن خصائصها الديموغرافية، والاقتصادية، وحتى المعارف القديمة المرتبطة بالزراعة والحرف وغيرها..هل هذا راجع إلى نقص في المراجع والمصادر؟ أم أنه قصور في الاشتغال البحثي العابر للتخصصات كما سبق القول؟
هو سؤال في منتهى الدقة..عمر البحوث التاريخية في بلادنا قصير جدا، لذلك فإن جلّ الأبحاث التاريخية ركزت على مواضيع عامة تتناول الجانب السياسي، لكنها ربما لم تتعمق أو تتوسع في المواضيع ذات البعد الاجتماعي والديموغرافي والاقتصادي، لكن يجب التنبه إلى أن هناك بعض المحاولات الجادة التي بدأت تقتحم المجالات الدقيقة في البحث من خلال الجزئيات، ولكنها ما زالت محتشمة؛ لأنها تفتقر إلى الأدوات المساعدة خاصة الإحصاء والعلوم المساعدة الأخرى.
وعلى سبيل المثال، هناك أبحاث تعتمد على ما يسمى بالبحث التاريخي المجهري (البحث الميكروسوبي للتاريخ)، أي الغوص في الجزئيات وتحليلها وتفسيرها، وتنشيط ما يعرف بالتاريخ المحلي، بحيث تتيح لنا الدراسات الدقيقة إيجاد حلول مستقبلية لكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
وقد قامت في المغرب الأوسط (الجزائر) دول عديدة، لكن جل الدراسات ركّزت على الجانب السياسي والعسكري إلا اليسير منها، على حساب مجالات حساسة كالزراعة والصناعة، والتجارة والطرق التجارية. ومن الأمثلة نذكر الدولة الحمادية التي قامت بالجزائر في القرن الرابع الهجري، ونجد أنّ المؤرخين والجغرافيين والرحالة وصفوها بأنها كانت دولة غنية تشتهر فيها الزراعة والصناعة والتجارة، وقال عنها ابن حوقل في كتابه “صورة الأرض”، إنّها كانت غنية بالفواكه والثمار، وموانئها نشطة، وذكر الإدريسي أنه كان فيها كثير من المواشي والثمار، وهو مثال يبرز ما كان في البلاد من خيرات ومياه، ومثل هذه الإشارات قد تقودنا إلى دراسات تاريخية ذات طابع اقتصادي واجتماعي قد تشرح لنا ما هي الأساليب والأدوات التي استعملها الحماديون لتحقيق هذه الوفرة. كما لا ننسى أن الجزائر كانت يوما ما مطمورة روما من الحبوب، والاعتماد على مثل هذه الدراسات يجعلنا نعرف عوامل وأسباب تلك القوة حتى نستفيد منها في الوقت الراهن لإيجاد حلول لمشاكلنا الاقتصادية، وتحقيق ما يعرف بالأمن الغذائي كما فعل أجدادنا. كما تقودنا هذه الدراسات إلى معرفة الطرق التجارية، وإبراز أهميتها كالتي كانت تربط المغرب الأوسط بإفريقيا جنوب الصحراء، وقد يكون لذلك دور في إيجاد بدائل اقتصادية حيوية للاقتصاد الوطني في الوقت الراهن، والبحث التاريخي الجاد هو الذي يبين أهمية تلك الطرق القديمة من أجل إحيائها، كما تفعل الصين مثلا في عملية إحياء ما يسمي بطريق الحرير القديم، وتنويع مساراته وممراته، وكذلك يجب أن نفعل نحن من خلال بحوث تاريخية علمية جادة وذات بعد استشرافي.
كثيرا ما نقرأ في الدّراسات والأعمال الأكاديمية، خصوصا في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أنّ الباحث وظّف المنهج التاريخي..ما مدى دقة ذلك؟ وهل ما يستعمله الباحث هو المنهج التاريخي بمفهومه الدقيق أم أنه مجرّد سرد فيه ترتيب كرونولوجي؟
لابد للباحث، عند إنجاز بحثه، من اختيار المنهج العلمي المناسب، فهو أساسي في مختلف تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولهذه المناهج آليات وخطوات من الضروري الالتزام بها من أجل الكشف عن الأسباب الحقيقية لحدوث الظاهرة المراد البحث فيها، ومحاولة فهمها وتفسيرها.
ومن بين هذه المناهج، المنهج التاريخي الذي يتتبع الأحداث التاريخية الماضية للمجتمعات لفهم واقعها وحاضرها، ومن ثمة فهم النظم التاريخية في مراحلها المختلفة، وما مرّت به من تحولات وتطورات وفق آليات يلتزم بها الباحث للوصول إلى الحقائق العلمية الدقيقة من بينها تتبّع السيرورة الكرونولوجية للظاهرة المدروسة خطوة بخطوة، حتى يتمكّن من تقديم معلومات تساعد في فهم الحاضر وتقديم قراءة له، ومن ثمة التنبؤ بالمستقبل. ولا يكتفي بذلك فحسب، فبعد عملية الجمع والترتيب والتصنيف والتبويب، يعمد الباحث إلى نقد المصادر والوثائق والبيانات والمعلومات ومختلف الأدلة التي يتم الحصول عليها..وعلى الباحث أن يسير وفق منهجية علمية صحيحة أثناء بحثه، ويتجنب ما يمكن أن يوقعه في الشك والخطأ والارتياب، فهذا ما يتطلبه المنهج التاريخي، وهذا ما ينبغي أن يكون. ولكن يتفاوت الباحثون في ذلك، وعدم تمكن الباحث من آليات المنهج التاريخي سيجعل عمله مجرد سرد كرونولوجي.
وإذا أسقطنا هذا التفسير على البحث في العلوم الإنسانية في الوقت الحالي، نجد، مع الأسف الشديد، أن عملية توظيف المنهج التاريخي بالتعريف الذي أشرنا إليه ما يزال غير متحكم فيه بالشكل الجيد، وهذا يعود إلى عدة عوامل منها عدم قدرة الباحث أحيانا على التحليل والتفسير، وعدم امتلاك الرصيد المعرفي الذي يتيح له التحليل والتفسير والاستدلال والاستنتاج والإسقاط على الحاضر أو استشراف المستقبل، وأحيانا فإن الباحث لا يملك الجرأة الأدبية والعلمية في مناقشة بعض القضايا، ما يدفعه إلى عرض تاريخي للأحداث دون تحليلها أو مناقشتها، وهذا ما يجعل عددا معتبرا من البحوث تفقد القيمة العلمية.
لطالما كانت المادة التاريخية أرضا خصبة للإبداع الفني والأدبي بمختلف أشكاله..وإذا كان البعض يرافع من أجل الحرية المطلقة في الإبداع وتخيل الأحداث والوقائع، فإن البعض الآخر يؤكد على أن الحقائق التاريخية خط أحمر لا يجوز تجاوزه..في رأيك، هل بإمكان المبدع أن يشكّل التاريخ كما يشاء، أم أن هذا الأخير مقدس لا يجوز تحويله أو تحويره وإن للضرورة الإبداعية؟
يقوم العمل الإبداعي بالدرجة الأولى على التخييل، ومن هنا فإن الإبداع يبيح للمبدع التصرف في أحداث التاريخ بوصفه مادة أولية يقوم عليها إبداعه، فهو ليس مقصودا لذاته إنما هو مادة أولية يبني عليها المبدع عمله، وإذا كان المؤرخ يهتم بالتاريخ بما يحمله من حقائق وأخبار، فإن المبدع يوظف التاريخ لأغراض فنية تخدم فكرته الإبداعية، ومن هنا بإمكانه أن يتصرّف في المادة التاريخية ويغيّر فيها، فيحذف أحداثا، ويضيف أخرى فيعيد تشكيله بما يخدم فكرته الأدبية والفنية. وإذا كان الإبداع يتطلب حرية، بل إن من شروط الإبداع الحرية، فإن هذا يبيح للمبدع ألا يلتزم بكل ما ورد في التاريخ. صحيح أنّه لا يمكن تغيير الأحداث والتواريخ المفصلية، ولكن للمبدع الحرية في إضافة بعض الطبائع للشخصية التاريخية مثلا وتشكيلها بما يتناسب ورؤيته الفنية والأدبية، كما ذكرنا. لا أحد ينكر أن المبدع مسؤول عمّا يكتبه ولكن لا يمكن تقييد حريته حتى عندما يتعلق الأمر بالتاريخ.
ومهما كان حضور التاريخ في العمل الإبداعي سيظل هناك حدّ فاصل بين التاريخ والإبداع. يبقى الإبداع إبداعا والتاريخ تاريخا.
عطفا على ما سبق، وبالنّظر إلى قدرة التأثير القوية للصورة والصوت على إدراك المتلقي: هل يمكن أن يحلّ “المتخيّل” (بفتح الياء) محلّ الوقائع التاريخية؟
يوظّف المبدع المادة التاريخية ويجرّدها من وظيفتها التوثيقية، ويعيد تشكيلها كما ذكرنا سابقا، لتقوم بوظيفة جمالية فنية رمزية تحمل الكثير من الدلالات والإيحاءات، فيتقاطع التاريخي مع المتخيل، ومهما كانت مساحة هذا التقاطع، فإنّ المتخيّل يظل متخيّلا..صحيح أنّ توظيف المادة التاريخية في مجال الإبداع بأسلوب يجذب اهتمام القارئ كما يقول جرجي زيدان يعد وسيلة لترغيب الناس في الاطلاع عليه، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أن المتخيّل سيحل محل الوقائع التاريخية. وإذا أخذنا الرواية التاريخية مثلا، فهي تستمد أحداثها من التاريخ، بل ومن خلالها قد يُقرأ التاريخ، إلا أنها لا يمكن أن تكون تأريخا، لأن التاريخ يُقدَّم فيها من خلال رؤية إبداعية تخييلية تخدم مواقف معينة، وتحدّد مصائر الشخصيات في لحظة زمنية محددة. لا يمكن للرواية مهما وظفت التاريخ أن تكون تأريخا.
تعتبر المذكّرات والسير الذاتية والكتابات الشخصية من المراجع الهامة لباحث التاريخ..هل تحتوي رفوف مكتباتنا على القدر الكافي من هذا النوع من الكتب؟ ولماذا؟
يلاحظ عندنا أن ثقافة كتابة المذكرات الشخصية لم ترقَ إلى المطلوب، وهذا يعود إلى عوامل كثيرة يطول شرحها، ولكن لحد الوقت الراهن عدد قليل من المذكرات الشخصية التي كتبت والتي يعود أغلبها إلى شخصيات وسياسيين، ولكن ينقصنا الكثير، وهذا النقص يرتبط بعوامل اجتماعية وسوسيو ثقافية خاصة في مجتمعا الجزائري الذي كانت فيه تأثيرات الاستعمار قوية خاصة في زرع الجهل والأمية، وأعتقد أن هذا الأمر يعد من العوائق الرئيسية، إضافة إلى غياب الجرأة في الخوض في مثل هذه الكتابات.
من جهة أخرى، ما هي محاذير الاعتماد على المذكرات والشّهادات “الأحادية” في كتابة التاريخ؟ وما هي الطّريقة الصّحيحة والعلمية للتعامل معها؟
الاعتماد على المذكرات والشهادات سلاح ذو حدين، لأنه لا يمكن الاعتماد عليها بشكل مطلق، باعتبار أنّ التاريخ يعتمد على المقارنة بين الوثائق التاريخية، فالمذكرات الأحادية لا تتيح الوصول إلى الحقيقة كاملة، خاصة وأنّ تلك المذكرات على قلتها، يغلب عليها التحفظ والكثير منها لا تلامس المواضيع الجوهرية التي ما تزال الكثير من الأسئلة تطرح حولها إلى اليوم، وما يلاحظ أن كثيرا من الرموز والشخصيات الوطنية لم تدون مذكراتها، وبالتالي أضاعت كثيرا من الفرص التي تيسر الوصول إلى المعلومات والحقائق التاريخية، وهنا لابد أن نعترف بأنّنا بحاجة إلى كثير من المذكرات التي يؤرخ أصحابها لحوادث تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية، أو حتى تؤرخ لمناطقهم
وقراهم ومدنهم، والتي منها يمكن قراءة كثير من الخصائص الاجتماعية والنفسية والثقافية وغيرها.
في وقت يعيش النظام الدولي حالة من الاستقطاب والتأزم..كيف للتاريخ أن يسهم في العلاقات الدولية، إمّا بالسلب، كعامل للتنافر والتنازع، أو بالإيجاب باعتباره عاملا للتقارب والتعاون؟
العلاقات الدولية مبنية في جزء منها على تفاعلات التاريخ، وهنا نستشهد بالكثير من الأحداث التاريخية التي يمكن أن توضح الصورة بشكل جلي، فالأزمة الروسية الأوكرانية مثلا يراها البعض صراعا مبنيا على مصالح وأهداف استراتيجية، وهو أمر صحيح، ولكن إذا تمعنّا بشكل دقيق، نجد أن الأزمة تعود إلى فترات سابقة، فالاهتمام الروسي بمنطقة القرم كان منذ العهد العثماني لأن المنطقة تمثل عمقا استراتيجيا ومصلحة حيوية لروسيا، كما تمثل نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي أحداثا تاريخية جعلت الغرب يمدد نفوذه إلى العمق الروسي من خلال دعم أوكرانيا اللامشروط، وهذا مثال بسيط عن دور التاريخ في صناعة التفاعلات السياسية. كما نستدل على دور التاريخ في الصراع بين القوى في منطقة الشرق الأوسط (إيران، تركيا، مصر، سوريا)، وهنا، عادة ما نستحضر الصراع القديم بين العثمانيين والصفويين والمماليك، بمعنى أن الأحداث التاريخية هي التي تحرك عجلة الحاضر والتاريخ بمختلف التجاذبات التي تحدث بين مختلف القوى.
كما يمكن إعطاء صورة إيجابية لدور الأحداث التاريخية في التقارب بين الشعوب، فطريق الحرير مثلا، الذي يمتد من كازاخستان (التي كانت إحدى الجمهوريات السوفيتية) إلى سور الصين العظيم، صار منذ 2013 عاملا من عوامل التقارب بين الدول الواقعة على هذا الطريق، ورغم الكثير من الأحداث المؤلمة التي عرفها عبر العصور المختلفة، لكنه يمثل في الوقت الراهن جسرا من جسور التواصل بين مناطق ودول متعددة، وهذا يعني أن الأحداث التاريخية قد تستغل في بناء جسور التعاون وخلق تحالفات سياسية واقتصادية وجيو استراتيجية.
ونشير هنا إلى أنّ جامعة يحيى فارس بالمدية، ممثلة في كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، كانت سباقة على المستوى الوطني في عقد مؤتمر دولي بعنوان “العالم الإسلامي والصين على طريق الحرير”، منتصف مارس الماضي، ومثّل هذا المؤتمر، الذي كان لنا شرف رئاسته، فرصة لفتح نافذة على الدراسات الآسيوية، وإبراز العلاقة التاريخية بين العالم الإسلامي والصين، وكيف كان هذا الطريق معبرا للحركة الثقافية والدينية والتجارية في القديم وفي العصور الوسطى، ومنه انتقلت المسيحية إلى الصين، ومنه انتشر الإسلام أيضا، وعليه سافر ماركو بولو ووليم روبروك، وهيثوم الأول ملك أرمينيا وغيرهم، وانتقل الحرير وصناعة الورق ومختلف الفنون. كما كان الملتقى فرصة لإبراز سمات العلاقات الجزائرية الصينية من خلال التعريف بطريق الحرير بأبعاده
التاريخية وآفاقه المستقبلية، وكانت البحوث المقدمة قيّمة وجادة، ومستشرفة للتحولات العالمية خاصة في ظل الرؤية الجديدة لطريق الحرير أو ما يعرف الآن بطرق الحرير الجديدة (الطريق البحري، الفضائي، التكنولوجي، الرقمي) المتجاوزة لمفهوم طريق الحرير التقليدي، فكان التنبيه لضرورة أن يكون لبلدنا دور في التحولات التي يعرفها العالم، خاصة على ضوء تشكل أقطاب جديدة على غرار منظمة “بريكس” التي تعمل الجزائر على أن تكون أحد الفاعلين فيها.
قد يتمّ توظيف التّاريخ وجعله أداة في يد النيوكولونيالية..كيف ذلك؟
بعد الحرب العالمية الثانية، كرّست هيئة الأمم المتحدة مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، ونتج عنه تحرر معظم الدول في أفريقيا وآسيا، إلا أن الروح الاستعمارية بقيت مشتعلة في قلوب الكثير من السياسيين والعسكريين والمفكرين الذين رأوا من الضروري إيجاد طرق وأساليب جديدة في الاستمرار والاستغلال والنهب، انطلاقا من تكييف النمط التقليدي للاستعمار باستعمال أدوات جديدة بأقل جهد وتضحية وأكثر فعالية، فعمل الاستعمار بعد خروجه على تقييد الدول المستقلة باتفاقيات اقتصادية، وثقافية، وتحالفات سياسية، كما هي الحال لمنظمة الكومنولث ومنظمة الفرنكوفونية، فكانت الرأسمالية المتوحشة والعولمة والاستعمار الثقافي من أساليب الاستمرار في الهيمنة وتكريس التبعية للعالم الرأسمالي. فالنيوكولونيالية أو الاستعمار الجديد كما عبر عنه المفكر الفرنسي جون بول سارتر في 1956، ونبه إليه زعيم حركة التحرر الغاني كوامي نكروما، هو وجه جديد للاستعمار لا يستعمل القوة العسكرية والاحتلال المباشر، ولكنه أكثر خطورة في تكريس التبعية الاقتصادية والهيمنة، وقد ناقش المفكرون الغربيون هذا المصطلح كما فعل جون بول سارتر (في كتابه “الاستعمار والاستعمار الجديد”)، والمفكّر نعوم تشومسكى (“اتصال واشنطن والفاشية في العالم الثالث”)، فالقوى المهيمنة على صناعة القرار الدولي سياسيا واقتصاديا وماليا وإعلاميا وتكنولوجيا، تستعمل الآن أدوات جديدة للهيمنة وفق استراتيجية جديدة، مثل ملف حقوق الإنسان وقضايا الديمقراطية وحق الأقليات الدينية والعرقية، والتكنولوجيا والقوة الناعمة. وفي النهاية، هي تستعمل مبدأ الميكيافيلة من أجل استمرار مصالحها في الدول الضعيفة، بهدف استمرار التبعية التي تؤدي في النهاية إلى فقدان السيادة والقرار الوطني لدى كثير من الدول في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إذن فإن النيوكولونيالية هي الوجه الثاني للاستعمار، أو ما يعرف بالهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية والإعلامية.
وهنا أفتح قوسا لأشير إلى المناورات التي يقوم بعض الفرنسيين، من مثقفين وسياسيين وحتى مسؤولين، في إيجاد تفسيرات ومبررات فيما يخص العلاقات الجزائرية الفرنسية، مستغلين بعض ملفات الذاكرة من أجل إما تبرير جرائمهم في الجزائر أو إيجاد منافذ جديدة لاستمرار الهيمنة الاقتصادية والثقافية، ومن الأفكار التي يروج لها “التاريخ المجيد للاستعمار في الجزائر” وأنّ الفرنسيين هم من أوجدوا الأمة الجزائرية!! وملف الحركى والإقدام السوداء والهجرة وغيرها.
من المقولات المتواترة “إن لم تكتب قصتك (أو تاريخك) فسيقوم غيرك بذلك”، ولعلها مشتقة من مقولة أرسطو الشهيرة: “الطّبيعة تكره الفراغ”..إلى أي مدى تتجاوز وظيفة كتابة التاريخ مجرد “العلم بالشيء” لتكون آلية للدفاع عن قيم الدولة / الأمة وهويتها وكينونتها؟
هي واحدة من العبارات التي عكست الهيمنة الاستعمارية على المنطقة العربية، فحلفاء الاستعمار من مثقفين ومستشرقين وعسكريين وإداريين هم من سجلوا الجزء الأكبر من تاريخ البلاد العربية التي كانت تحت سلطتهم، فاستهدفوا اللغة والدين والعقيدة والقيم والعادات والتقاليد، متهمين أهل الشرق عموما والمنطقة العربية تحديدا بالقصور والدونية، متناسين أن جزءًا من حضارة الغرب هي من الإرث العربي والإسلامي، رغم أن بعض المؤرخين من المنصفين من الغرب تصدوا لمثل هذه المواقف، وعلى رأسهم المؤرخ الكبير أرنولد توينبي الذي تعرض لحملة نقد كبيرة من المفكرين الغربيين، فاتُهم بأنه تحامل على الحضارة الغربية، وقالوا إنه خان الغرب بسبب دفاعه عن القضايا العربية والإسلامية.
ولصياغة تاريخنا وكتابته بعيدا عن الآراء الغربية، علينا أن نجدّ ونجتهد من أجل الوصول إلى وثائقنا المتنوعة التي أخذت منا عنوة، ونعيد كتابة تاريخنا بكل موضوعية وحيادية. لابد أن نجنّد أنفسنا لكتابة تاريخنا وماضينا بدون عقدة وبكل اعتزاز، لا نلعن الظلام ولكن يجب أن نشعل النور، تاريخنا هو مستقبلنا ومستقبل الأجيال، والتاريخ ليس مجرد العلم بالشيء كما قلت، ولكن أهم أداة للدفاع عن بلدنا وقيمنا وثقافتنا وحضارتها، من أجل زرع ثقافة الاعتزاز بالانتماء لهذا البلد، كما تفعل الكثير من الدول والشعوب التي تعتز بتاريخها وتدافع عنه بكل الأدوات والوسائل، والتاريخ أداة من أدوات الدبلوماسية والصراع في عالمنا الحالي المليء بالتناقضات.
بكل صراحة..هل يعتبر إنتاجنا العلمي في هذا المجال كافيا وفي مستوى تاريخ الجزائر وموقعها، ومكانتها في الزمان والمكان؟ وما الذي يجب القيام به في رأيك؟
مع الأسف الشديد، وأنت وضعت الأصبع على الجرح، إنّ الأبحاث التاريخية لم ترق إلى مستوى قيمة وعظمة الجزائر كدولة مميزة بموقعها الجغرافي كبوابة نحو إفريقيا وأوروبا، إضافة إلى الأحداث التاريخية التي عرفتها عبر مختلف الفترات الزمنية.
ولكن هذا لا يمنع الإشادة برواد الكتابة التاريخية في الجزائر الذين كان لهم الفضل في دفع جيل من الشباب نحو البحث التاريخي، وهنا ننوه بطبيعة الحال بما قدمه شيخ المؤرخين المرحوم الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله خاصة فيما يتعلق بتاريخ الحركة الوطنية وتاريخ الجزائر الثقافي ومؤلفات عديدة يعرفها الباحثين في التاريخ وحتى عامة الناس.. إضافة إلى إسهامات الدكتور موسى لقبال فيما يتعلق بتاريخ الغرب الإسلامي، وما يزال الدكتور ناصر الدين سعيدوني، رغم تقدمه في السن، يقدم جهده وما تبقى من عمره في خدمة البحث التاريخي، خاصة فيما يتعلق بالتاريخ العثماني، ويجمع كل ما يتعلق بالجزائر في هذه الفترة، وقد استضافت جامعة يحيى فارس بالمدية ممثلة في مخبر الدراسات التاريخية المتوسطية عبر العصور الأستاذ سعيدوني أواخر أفريل المنقضي، تكريما له واعترافا بدوره في خدمة التاريخ والبحث العلمي وكانت فرصة قيمة للباحثين والطلبة حتى يستفيدوا من خبرته الطويلة في البحث والتدريس داخل الوطن وخارجه.
ولا يسعنا هنا أن نذكر الجميع ونفيَهم حقهم، فهناك عدد معتبر من المؤرخين الرواد، وكان ثمرة هؤلاء جيل من الأساتذة الذين تعلموا على أيديهم، أو ما يعرف بالجيل الثاني من الأساتذة، وهنا أستسمحك للإشارة إلى دور الأستاذ أحمد شريفي، رائد الدراسات الآسيوية في الجزائر (وهو التخصص الذي أنتمي إليه)، والذي كان له الفضل في تكوين وتأطير العشرات من الطلبة في تخصص العالم الإسلامي وقارة آسيا في العصور الوسطى، وهو تخصّص سمح بتكوين عدد معتبر من الطلبة الذين ارتقوا في مختلف الدرجات العلمية، وفتح نافذة على تاريخ المنطقة بكل ما تمثله من قيم دينية وفلسفية وسياسية وحضارية.
ورغم هذا الجهد، والعدد المعتبر من الباحثين في التاريخ، إلا أن الدعوة ملحة في الوقت الراهن إلى تعميق الأبحاث التاريخية وتنويعها، خاصة في ظل الثراء الذي تتمتع بها الجزائر من خلال تنوع الأحداث والحقب التاريخية، مع ضرورة الإسراع في إنشاء مراكز للدراسات في هذا المجال، خاصة التي تمسّ البعد الإفريقي باعتباره عمقا جغرافيا وحيويا للجزائر، والبعد الآسيوي بعمقه الحضاري وأيضا بأبعاده الاستراتيجية خاصة في ظل التحولات التي يشهدها عالم ما بعد القطبية الأحادية.
يجب علينا استغلال المادة التاريخية المتوفرة وهي كثيرة ومتنوعة (نقوش، آثار، مخطوطات، أرشيف، شهود عيان، مذكرات وغيرها)، كما يجب إعادة الاعتبار لمادة التاريخ في كل المستويات، وتطوير وتحسين أدوات البحث من خلال البعثات العلمية أو التكوين في الخارج أو استضافة أساتذة أجانب ممّن يشهد لهم بالكفاءة، للإسهام في تطوير أساليب البحث العلمي، ومثل هذه الاجراءات في اعتقادي تسهم بشكل فعال في ارتقاء البحوث التاريخية إلى مستوى الجزائر ذات الأهمية الجغرافية والاستراتيجية، دون أن ننسى ممثلياتنا الدبلوماسية التي يفترض أن يكون من بين إطاراتها مشتغلين في حقل التاريخ والبحث التاريخي، للترويج للجزائر وثقافتها وحضارتها وهويتها.
في الأخير، كيف يمكن للتاريخ أن يقدّم لنا قراءة مختلفة وأكثر وضوحا للماضي، والحاضر، وبالتالي للمستقبل؟
لما غزا نابليون بونابرت مصر، وهو في قلب معركة إمبابة الشهيرة، استحضر التاريخ وخطب في جنوده قائلا: “إنّ أربعين قرنا من الزمن تنظر إليكم من فوق الأهرام”، وفي المقابل خطب قائد الجيش المصري مراد بك، خطبة مماثلة في جنوده، استحضر فيها التاريخ، وذكر جنوده بالتاريخ الإسلامي المجيد، فكلاهما استحضر الماضي لصناعة الحاضر، وتحقيق النصر الذي يمثل المستقبل، وأنا هنا أستشهد بهذا المثال لأقول: إذا كان الحاضر هو غرس الماضي، والمستقبل هو جني الحاضر، فإنّ قراءة التاريخ بشكل صحيح هو بناء للمستقبل وفق أسس سلمية تعزز اللحمة الوطنية والانتماء والاعتزاز بالجزائر كبلد له خصوصيات ومميزات، كبلد له قيمه وتاريخه وتراثه الغني والمتنوع بعاداته وثقافته ولغته، وهو أمر مميز لبلد فيه الكثير من الخير، والكثير من الرجال والنساء الذين يملكون القدرة والكفاءة والإخلاص والحب لهذا الوطن من أجل أن يكون في مصاف الدول الرائدة، ولكن بالعمل والعلم والصبر والمثابرة..الفرد تحرّكه قيم النسب والعائلة والعشيرة، والمجتمعات تحرّكها عوامل الشّعور بالانتماء الجماعي.