لم تكن المرأة الجزائرية بمعزل عما كان يجري في بلدها، من أحداث ومقاومات، فكانت دائما إلى جنب الرجل في كفاحه لطرد الغزاة، وشاركت في الحياة الثقافية والدينية.
كان للمرأة الجزائرية في المجتمع الرستمي، دور بارز في الحياة السياسية والفكرية، فكانت مجاهدة وعالمة وشاعرة ومستفسرة في مسائل دينها والدور نفسه أدته في العهد الحمادي والموحدي، وشاركت في الحركة العلمية والثقافية والدينية في العهد الزياني.
وبرزت مكانتها في العهد العثماني، وتذكر مصادر تاريخية بطولة إحدى فتيات الجزائر وهي علجية بنت بوعزيز، شيخ قبيلة الحنانشة، وزعيم الحدود الشرقية لبايلك قسنطينة ودورها في الدفاع عن الجزائر ،وأم هاني شيخة عرب الصحراء، التي فرضت وجودها وسيرت إقليما من بايلك قسنطينة وإلى جانبها برز عدد النساء الجزائريات سيرن الحكم من وراء أزواجهن منهن عزيزة باي، التي كانت زوجة لرجب باي، والد أم هاني.
كانت وراء سياسة زوجها، الذي بنى لها القصر المعروف بقصر عزيزة بمدينة الجزائر، أو دار عزيزة، وكذلك الدايخة بنت محمد بن قانة، وزوجة الباي عبد الله 1804-1807،التي أثبتت كفاءتها في تسيير شؤون بايلك قسنطينة إلى جانب زوجها وبرزت لالا زينب بنت محمد بن بلقاسم، شيخ زاوية الهامل في الجانب الفكري والثقافي والنضالي.
وعملت هذه السيدة على نشر الإسلام في المناطق النائية وتعليم القرآن للنساء والرجال وفتحت المدارس للطلاب وحفظة القرآن، حيث أدت دورا فريدا من نوعه في المغرب الإسلامي من حيث النشاط الديني والثقافي.
في الفترة نفسها شهدت الزاوية ايت الرحمانية، بجرجرة زعامة نسوية تمثلت في لالا خديجة، أرملة محمد بن عيسى خليفة، والده عبد الرحمان بوقبرين، مؤسس الزاوية وقد خلفتها مشيخة الزاوية ابنتها لالا فاطمة نسومر، التي أدت دورا بارزا ضد المستعمر الفرنسي.
وإعجابا بها، قال المرحوم مولود قاسم نايت قاسم، في الملتقى السابع للفكر الإسلامي بتيزي وزو في 1973: “فطومة رجل وكم من رجل امرأة”.
ابن باديس وتعليم المرأة
وأولى العلامة الشيخ عبد الحميد ابن باديس، عناية بقضية المرأة، كان يرى أن تعليم الرجل يقتضي العناية بالمرأة وأن هذه العناية لا تقتصر على التربية الدينية فقط بل بالتربية الوطنية، فالمرأة لا تكون جزائرية إلا بدينها ولغتها وقوميتها، يقول ابن باديس.
وركز ابن باديس، على تعليم المرأة العلم النافع الذي يناسبها، وكان يرى أن النهضة لا يمكن أن تقوم على الرجال دون النساء، وكتب العديد من المقالات حول موضوع المرأة في مجلة الشهاب بين سنوات 1929و1939، وفي هذا الصدد أنشأ مدارس حرة لتعليم البنات.
المنهج نفسه اتبعه الشيخ البشير الابراهيمي، الذي ساهم بدوره في فتح عشرات المدارس الحرة للتعليم،حيث قاربت الـ300مدرسة نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد وصل مجموع التلاميذ بهذه المدارس 60 الف تلميذ وتلميذة.
ويؤكد الدكتور جمال يحياوي، في دراسة له حول المرأة في فكر الأدباء والشعراء، أن الاهتمام بالمرأة لم يقتصر على رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بل تعداه إلى أدباء ومفكري تلك الحقبة، من عرب وجزائريين، فقد أولى رمضان حمود في كتابه “بذور الحياة”في 1928 أهمية كبرى لقضية المرأة ورأى أنها شريكة الرجل في مكافحة الحياة وطالب بضرورة تعليمها وتهذيبها، لتحدث التوافق بينها وبين الرجل، يضيف يحياوي.
واهتمت مجلة الشهاب بقضايا المرأة بين سنوات 1929و1939، فقد صدرت مقالات بعنوان “رجال السلف ونساؤه”، و”النساء والكمال، مثال المرأة المسلمة المتعلمة”، و”حق النساء في التعليم”، وغيرها من المقالات المهتمة بقضايا المرأة.
ونجد أيضا مقال لمحمد عابد الجيلاني، بعنوان “أمهات المستقبل يهيأن”، وموازاة مع ذلك نشرت جريدة الأمة رسالة بالفرنسية من فتاة عنونتها “صوت فتاة وطنية”، ونقلت بالعربية في جريدة تونس الفتاة عام 1939.
مآثر الجزائرية في شعر العرب
ساهم الشعراء العرب في ذكر مآثر المرأة الجزائرية وبطولاتها، ونادوا بتحررها وتعليمها لتشارك الرجل في رسالته.
وتحدث محمد العيد آل خليفة، عن المرأة في قصيدة بعنوان “البنت الجزائرية”، ومفدي زكرياء، وصالح خرفي، سعد الدين الخمار، عياش بن سليمان، معروف لعور، الهادي سنوسي، والهادي نعمان، هذا الأخير تحدث عن جميلة بوحيرد، ونزار قباني أيضا في قصيدة بعنوان” جميلة” ،الكمالي شفيق، محمد المصري، حسن البياتي وغيرهم.
وأشاد الشعراء الجزائريين في كثير من قصائدهم بالدور، الذي أدته المرأة في الثورة منهم محمد العيد ال خليفة يقول في إحدى قصائده:
قد سبقن الرجال في البأس صبرا…وتحملن فتنة الأضداد
وأثرن الأبطال للثأر منهم …فاستباحوا زروعهم بالحصاد
فإذا جنسنا اللطيف عنيف…وشريف في ساحة الأمجاد
يقول صالح خباشة:
وفي الأوراس راعتني اللواتي…زحفن مع البواسل أي زحف
تخرج لها الأعادي وهي غضبي…وقد تشفي الجريح بلمس كف
إلا أن الحرائر طهرتها…زكيات الدما من كل زيف
وتطرق الدكتور أبو طارق محمد العربي، إلى دور المرأة في الثورة في مقال بعنوان “المرأة الجزائرية مشتلة الثورة وحاضنة الوطنية”، واصفا إياها بقلعة الصمود والمقاومة وعماد الأسرة وخزان الوطنية ،ويشير الدكتور محمد العربي، إلى أن المرأة الجزائرية حافظت على الإنتماء الحضاري للأمة عقيدة وسلوكا وبلغت ذلك الإنتماء للأبناء والأحفاد عن طريق التربية، وبواسطة الأحاجي والأساطير الملحمية والقصص الشعبية عن بطولات الأجداد.
ويضيف: “في أحضانها نشأ وترعرع الأبطال من الشهداء والمجاهدين أبطال الحرية والمدافعين عن الكرامة والهوية “.
ويبرز في دراسته أن المرأة كانت هدفا رئيسيا لقوات العدو وعلى رأس القائمة في مخططه الشيطاني لإخضاع شعبنا وتدمير بنيته الاجتماعية، وتفكيك النواة الصلبة للمجتمع المتمثلة في الأسرة التقليدية.
ويقول:” الفرنسيين كانوا على يقين أن المرأة، التي تربي الأبطال هي أيضا بطلة وعلى استعداد للتضحية بأعز ما تملك فداء للشرف والبلد”.
في الصفوف الأولى لمجابهة الغزاة
لم يتوقف دور المرأة الجزائرية عند دور الإسناد والتحريض على المقاومة، بل إنها تصدرت صفوفها وقادتها مثلما فعلت البطلة لالا فاطمة نسومر، التي قادت في 1854، اثنا عشر ألف رجل وواجهت قوات الإحتلال في الشعاب والوديان وقمم الجبال وهي في ريعان الشباب.
وقد سارت على خطاها الجميلات الثلاثة بوعزة، بوباشا وبوحيرد، باية حسين، جوهر أكرور، الشهيدتين مريم بوعتورة، وزيزة مسيكة، فضيلة سعدان وشقيقتها، وريدة مداد، وغيرهن.
تجمع معظم المصادر التاريخية، على إلتفاف المرأة المجاهدة حول جبهة وجيش التحرير الوطني وقيامها بأصعب المسؤوليات وأخطر العمليات الفدائية، وتذكر وثيقة مؤتمر الصومام:”توجد في الحركة النسائية إمكانيات واسعة، تزداد وتكثر بإطراد، وإنا نحيي بإعجاب وتقدير ذلك المثل البطولي، الذي ما انفكت تضربه في الشجاعة الثورية الفتيات والنساء والزوجات والأمهات”.
يشهد التاريخ على دور المرأة المناضلة والمجاهدة في المدن والأرياف، فكانت الطرف الشريك في التحرير أعدت جيلا من المجاهدين، كن في قمة الوعي وذروة الوطنية، قدمت ابنها للثورة ليستشهد ثم التحقت به وهناك فتيات تبرعن بمهرهن وجهازهن للثورة.
وتذكر مصادر تاريخية قصة الفتاة أمينة، التي فرت من بيت أهلها يوم زفافها لتلتحق بجيش التحرير الوطني، ورفضت كثير من الشابات زواجهن برجال لم يلتحقوا بصفوف جيش التحرير، كبها بطولات ومواقف يشهد لها تاريخنا المشرف.
تحملت المرأة الجزائرية كأم وأخت وزوجة، القسط الأكبر من المشاق والتضحيات إبان الثورة، وشاركت المرأة الريفية أحيانا بالتشجيع والزغاريد واستعمال السلاح الأبيض إن اقتضى الحال والتعاون على قتل بعض العساكر في أثناء الحملات التفتيشية للإستيلاء على سلاحهم وذخيرتهم، نقلت الجرحى وجمعت سلاح الشهداء، الذين سقطوا في المعركة خوفا من استيلاء العدو عليها.
كانت المرأة الريفية المجاهدة تغسل وتغزل الصوف وتنسج القشاشيب، التي تساعد المجاهدين في تدفئتهم شتاءا ويستترون بها أثناء تنقلاتهم.
وتطهو ليلا ونهارا الطعام وتحضر الكسرة وبالأخص للدوريات وأفواج البريد، التي تتطلب السرعة لحمل مؤونتهم لمواصلة مهامهم، وتحفر المخابئ لإيواء المجاهدين وخزن وحفظ المؤن والأسلحة، تؤمن تنقل المجاهدين فرادى وأفواجا بإرشاداتها إلى المسالك الآمنة، تعمل كدليل لهذه الوحدات عبر المسالك الجبلية الصعبة.
ويذكر الأستاذ الأخضر بوطمين، أن المرأة المجاهدة الريفية في الولاية الثانية التاريخية، التي اشتدت فيها الثورة وأنشأ الإستعمار المحتشدات بها لعزل الشعب عن الثورة، كانت هي الوسيلة المثلى لتبليغ توجيهات الثورة وأوامرها في المحتشدات، وبمنطقة عين الحمام، عندما أصبحت شاغرة من المدنيين الذكور والأطفال في سن المراهقة عوضتهم النساء المجندات في ميادين التموين والإتصال وتهيئة المخابئ السرية، مثلما يؤكده الأستاذ عبد العزيز واعلي.
كانت المرأة تنقل البريد والتعليمات والمناشير وتوزعها، وتقوم بعملية الاستطلاع لتأمين الطريق لمرور الفدائيين أو المسؤولين وتنقل القنابل والمسدسات بوسائل مختلفة إلى أماكن العمليات لتسليمها إلى الفدائيين.
عالجت الجرحى ومرضى جيش التحرير الوطني والمدنيين والنساء والأطفال، وهناك ممرضات زودنا الثورة بالأدوية من مكان عملهن وخارجه وجمعن المؤونة والملابس والأحذية وسلمت للمجاهدين.
المرأة الفدائية في المدن نفذت عمليات وسط السكان متنكرة في زي الأوروبيات كي لا يكتشف أمرها ،اتصفت بالشجاعة والجرأة والنفس الطويل وقوة الإحتمال، دمرت مراكز العدو والملاهي والمقاهي ،وحين يلقى عليها القبض تتعرض لأبشع أنواع التعذيب والإغتصاب ويحكم عليها بالإعدام، ورغم ذلك فهي صامدة.
وقامت المرأة المسبلة بأعمال عديدة كالإتصال بين الجيش والجبهة وسهرت على حراسة المجاهدين والفدائيين.
تعرضت المرأة للتعذيب ومعاناة ومارست الطالبة المثقفة أعمالا كثيرة في صفوف جيش التحرير الوطني، تدربت على استعمال السلاح وعلى علاج المرضى والجرحى واهتمت بالشؤون الإدارية بمساعدة كاتب القيادة، واشتغلت بالكتابة على الآلة الراقنة لإعداد المنشورات والأوراق والدعايات وإيصال الإشتراكات أو كتابة التقارير والقوانين العسكرية، وألقت دروسا لمحو الأمية ودروس التوعية السياسية.
بادرت المرأة قبل اندلاع الثورة بإنشاء جمعية النساء المسلمات الجزائريات، يوم 24جوان 1947،كان هدفها الاهتمام بالمرأة ومساعدة المساجين السياسيين من رجال الحركة الوطنية، وقد ضمنت في صفوفها مامية شنتوف، نفيسة حمود، سليمة بلحفاف، مليكة مغني، فاطمة بن عصمان، وغيرهن.
وتركز نشاطهن في إلقاء دروس ومحاضرات تدعو إلى مساندة الحركة الوطنية الجزائرية، وتدعيم برامجها الداعية إلى الحرية و الإستقلال، وقد تطور نشاط المرأة الجزائرية السياسي قبل الثورة، بحيث أصبحت تشارك في الإجتماعات، التي كانت تقام من حين لآخر كاجتماع سينما دنيا زاد، بالجزائر العاصمة بتاريخ 5أوت 1951، والذي دعت إليه اللجنة النسائية لتأسيس جبهة الدفاع عن الحرية، مثلما تؤكده المجاهدة خضراء بلامي في شهادتها.
أدت المرأة الجزائرية، التي هاجرت إلى تونس وليبيا والمغرب وسوريا والعراق والحجاز ومصر، دورا في التعريف بالثورة وجمع التبرعات والإعانات وبفرنسا، انخرطت في التنظيمات السياسية والغذائية ونقل الإشتراكات والأسلحة والقنابل وجمع المعلومات عن نشاط العدو والخونة، واستطاعت تجنيد بعض الأوروبيات من الحركات التحررية والمسيحية.