في 24 نوفمبر 1832 عقد مؤتمر تحت شجرة الدردار، حضره رؤساء قبائل بني عامر، بني مجاهر والغرابة.
بايعوا الأمير عبد القادر، بالسلطنة ولقّبوه بناصر الدين، عن عمر يناهز 24 سنة، فبدأت مهمته السياسية والعسكرية طريقها نحو توحيد البلاد، وإقامة دولة جزائرية مستقلة ذات سيادة.
اتّخذ الأمير، مدينة معسكر عاصمة لدولته وبدأت حربه ضد فرنسا، حيث حقق عدة انتصارات عليها لاسيما في معركة المقطع في 28 حزيران 1835، وقد اهتزّت فرنسا لنكبة المقطع فطالبت بصوت واحد بتحقيق العقوبة والانتقام من الأمير، فتحركت الحكومة الفرنسية وأصدرت قرارا باحتلال مدينة معسكر القلب النابض في دولة الأمير، متأكدة من أنّ الاستيلاء على العاصمة سيجبر الأمير الطموح على الاستسلام.
معسكـر..حاضنة الكفاح
قبل الخوض في تفاصيل الحملة الفرنسية على مدينة معسكر، يجدر بنا التعريف بالمدينة وضواحيها وواقعها قبل سنة 1835م، وذلك بهدف ربط الأحداث واستنباط تفاصيلها..مدينة معسكر قديمة يعود تأسيسها إلى العهد الروماني إذ أقاموا بها حصونا (الليسات) وسموها كسترونوفا (المعسكر الجديد)، تقع عند سفح المنحدر الجنوبي للسلسة شارب الريح بالأطلس التلي.
ازدادت قيمة مدينة معسكر خلال العهد العثماني، فكانت عاصمة الإقليم الغربي كمدينة داخلية، كما اكتسبت سمعة كبيرة على عهد الباي محمد الكبير وقد اشتهرت بعدد من العلماء أمثال الرماص، القلعي، وعبد القادر المشرفي، وأبي راس، وعرفت بزاوية القيطنة والتي كان على رأسها الشيخ محي الدين، وكان سكانها في أزهى أيامها لا يتجاوز 30 ألف نسمة.
يحيط بالمدينة سور مربع الشكل يجمع المدينة وكل زاوية بها برج يحمل مدفع أو مدفعين، يتخلل سورها بابان رئيسيان خارجيان أحدهما في الغرب والآخر في الشرق، ويعد سوق الحبوب والجامع الأعظم والفندقان وقصر محمد الكبير أهم معالمها الحديثة.
أما أحوازها، فتجدر الإشارة إلى مرتفعات بني شقران على طريق معسكر وهران، وتنتسب إليها قبائل بني شقران بما فيها قبائل بني مستر، بني حاسي وبني عيس وأولاد سعيد، ثم منطقة سيق، وفي المنحدر الجنوبي، الأطلس التلي، يوجد سهل غريس.
مثلت مدينة معسكر القلب النابض في مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري، وفيها أقام دولته وبدأ مشواره الجهادي بتشجيع وإلحاح سكانها، وهو ما تفطنت إليه الإدارة الاستعمارية فبدأت في تنفيذ حملة نحو المدينة لتدميرهاو والاستيلاء عليها لإجبار الأمير على الاستسلام والرضوخ وإرغام سكانها على الطاعة والانصياع، فقررت تسيير حملتها.
الأوضاع العامة بالمنطقة قبيل الحملة
أظهر انتصار الأمير عبد القادر، على الجيش الفرنسي في معركة المقطع، قدرته على حماية حدوده ، الأمر الذي اعتبرته الوزارة الفرنسية تهديدا للشعور الوطني الفرنسي، إذ صرّح تتير بقوة في البرلمان عن النظام المطبق في الجزائر قائلا: “إنه ليس استعمارا إنه ليس احتلالا على مدى واسع، وليس احتلالا على مدى ضيق، إنه ليس سلاما وليس حربا، ولكنه حرب سيئة الإدارة”..فاتّجهت فرنسا نحو مضاعفة الجهود لحماية مواقعها العسكرية وثكناتها المهددة من قبل الأمير، وأخذت الصحف في تهيئة وتعبئة الشعب”.
ولحماية أطماعها في التوسع الخارجي، وأهمية الجزائر الإستراتيجية، قامت حكومة دوبروغلي باستدعاء درالون وتريزل، وتعيين كلوزيل في 10 أوت 1835 حاكما على الجزائر، إذ أن قدومه إلى الجزائر أعطى أملا للقوات المسلحة في إعادة الثقة في قياداتها العسكرية، لمعرفته بأوضاع الجزائر إذ قاد الجيش الفرنسي أواخر 1830، وهو صاحب معرفة جيدة بالخطط والأسس الناجحة لمواجهة الأمير.
جمع كلوزيل، ضباطه وقادة القطاعات العسكرية في مركز قيادته، مؤكدا أن هدف وصوله إلى الجزائر رفع معنويات فئتين من المقيمين في الجزائر، تلك التي شهدت بعد معركة المقطع أن الجهود لم تثمر، وتلك التي يئست من الوضع المتردي.
تعهّد كلوزيل، بالزحف بالجيوش الفرنسية نحو عاصمة الأمير (معسكر) والاستيلاء عليها، والثأر من الأمير لهزيمة المقطع، والتشفي في العرب، وعقد صلح طويل المدى مع الأمير وهزم تلمسان وجعلها نقطة انطلاق للتوسع في داخل وهران، والتمركز عند مصب نهر التافنا، لمنع وصول الإمدادات الآتية من جبل طارق ومالطا لقوات الأمير، وطرد باي مليانة واحتلال بايلك التيطري وتعيين بايات تابعين طائعين لفرنسا والسيطرة على المواقع الإستراتيجية في التل وقسنطينة كمرحلة أخيرة.
إعادة الثقة والهيبة للجيش الفرنسي ورفع معنوياته المحطمة في المعارك السابقة، إذ وصف أحد الكتاب الفرنسيين حالة الجيش بقوله: “صار الجنود الفرنسيون من هول الحرب هلاما لا نظام له يريد الفرار، ولا يستطيعون، يدورون حول أنفسهم كالدوامة مشدوهين لاهثين كأنما قد مسهم الشيطان..لقد فقد الجميع شعورهم بمواقعهم وبواجباتهم، بل فقدوا حتى غريزة البقاء..رجال ينتحرون..يتشاجرون فيما بينهم للظفر بأحشاء الحيوانات النافقة.
ولتحقيق هذه الأهداف، وجب إعداد قوة كافية وتجهيزها بالأسلحة والعدة، فالجيش الفرنسي في حاجة إلى إعادة تنظيم ليتمكّن من المحافظة على الأمن والنظام، والقضاء على الأمير عبد القادر وأوضاعه التي تختلف من مقاطعة إلى أخرى، لاعتبارات أهمها شخصية قائدها العسكري وتأييد زعماء القبائل للسلطات الفرنسية واحترامها للقانون.
وقد تهيّأ كلوزيل للقيام بمهمته، فأرسل العيون لجهات مختلفة لتطلع على أمور الأمير وأحواله وصلته بالقبائل، وقوته من خيل ورجال، ورجعت هذه الوفود لتؤكد أن الوضع خطير وأن العرب متمسكون ومتماسكون، وإشارة واحدة من الأمير تحضر إليه القبائل لتتقيد بأوامره.
لاحظ كلوزيل أنّ وحداته القتالية غير كافية لتنفيذ ما كان يصبو إليه، إذ خفضت فرنسا جيشها في الجزائر بإرسال الفرقة الأجنبية إلى ايزابيل ملكة إسبانيا لمقاتلة الدوق دون كارلوس المطالب بالعرش، إضافة إلى انتشار الكوليرا الذي فتك بقرابة 4 آلاف جندي، وأبعدهم عن القتال، فقلت القوات العسكرية الفرنسية في الجزائر، وأضحى عددها لا يتعدى 21 ألف، بعد أن كان 25 ألف، إضافة إلى نقص العتاد الحربي والتي كانت معظمها غير صالحة للاستعمال في المناطق الجبلية.
بناء على هذا الوضع، طلب كلوزيل من حكومة باريس إرسال إمدادات وتعزيزات، وبعد دراسة حكومة لويس فيليب الأمر، وبناء على اقتراح وزير الحربية ماسون، قرّر المسؤولون إرسال 4 فرق مشاة و4 سرايا هندسة، وعدد كبير من المدفعية والبغال كحل أولي، ثم يعزز بوحدات أخرى تباعا ووفقا لمقتضيات الوضع.
الأوضاع الجزائرية
مثلت معركة المقطع انتصارا ساحقا لصالح الأمير عبد القادر، أوجب تغيير القيادة العسكرية الفرنسية بقيادة جديدة، غير أن هذا الانتصار سيفتح على الأمير صعوبات بدأت بتعيين حاكم عام جديد، أكّدت للأمير وأقنعته أن فرنسا تستعد لمحاربته.
اقتنع الأمير، بإصرار كلوزيل، على استئناف القتال وعمل الحكومة الفرنسية على تنفيذ مخططاتها وأهدافها في الجزائر، فوجد مرغما على خوض معركة الدفاع، وبدأ في تجهيز نفسه للقتال، وانطلاقا من ذلك، بدأ الأمير للاستعداد للحرب ، فأخذ يهتم بتدريب وحداته الفتية لرفع معنوياتها عاملا على تعزيزها بشتى الوسائل والطرق ولهذا كثف نشاطاته وتحركاته بين القبائل داعيا زعماءها إلى الجهاد ومحاربة الفرنسيين.
ثار الأمير، ضد تعيين القاضي إبراهيم مسؤولا عن قبيلتي الدوائر والزمالة، وذلك بعد عودة تريزل إلى وهران إثر معركة المقطع، فنجحت سياسته في الضغط على القائد الفرنسي في عزل إبراهيم باي وسمح له بقوة لحراسته تألفت من 50 تركيا، وفرض حصارا اقتصاديا على الجيش الفرنسي طالبا من خلفائه مراقبة تنقلاته والضغط على القبائل المنتشرة بعدم التعامل تجاريا مع وحداته، وحرص على إيجاد حلفاء جدد لتعزيز نظامه وتقوية مركزه فكاتب ملك إنجلترا، إلا أن الحكومة البريطانية لم تستجب ولم تلب حاجته، كما طلب العون من سلطان عربي (معروف) لمده بالعتاد والذخيرة، إلا أنه رفض تقديم يد العون له.
اقتنع الأمير عبد القادر، بالمواقف المتخاذلة، فعزم على اسغلال ما يتوفر له من قوة وموارد دون اللجوء إلى قوى خارجية، وصمّم على تجنب الاشتباك مع الفرنسيين في مناطق مكشوفة لتفوق القوة الفرنسية عدة وعتادا، والتزم بنصب كمائن في ممرات إجبارية لمنع الجيش الفرنسي من احتلال المواقع المهمة.
وأغلق مداخل معسكر، بإنشاء مراكز دفاعية حولها وحول مدينة تلمسان لمنع توغل الفرنسيين إليها، وتشديد الحصار التمويني على وهران وحصار قوات كلوزيل جميعها أينما وجدت لإضعاف قدرتها القتالية وإجبارها على الاستسلام، وطلب مساعدة باي مليانة بشل عمليات القبائل المتنصرة والموالية للفرنسيين، ونفس الشيء في التيطري، وإرسال عناصر إلى سهل متيجة لحرق المزروعات وقطع الطرقات، وبالفعل، فقد قطعت المواد الغذائية عن الجزائر لمدة 8 أيام، وأرسل باي مليانة، سيدي الحاج، قوة تمركزت في بوخر شوفة على بعد 4 كلم من العاصمة، وقطعت الطرق على كل سالك.
الحملة الفرنسية علـى معسكـر
بناء على ذلك، بدأت الاستعدادات النشيطة في الجزائر وفي جنوب فرنسا للقيام بحملة على مدينة معسكر، وكان ولي العهد نفسه يرغب في المشاركة في هذه الحملة فالتحق بمدينة تولون في 10 نوفمبر، وركب الباخرة والتقى المارشال كلوزيل بالجزائر، وفي 21 نوفمبر، وصل وهران مع المارشال الذي كان تلقى من فرنسا إمدادات عسكرية قوامها 4 كتائب من المشاة ومدفعية معتبرة، وأرسلت بعض الفرق المقيمة في الجزائر إلى وهران.
أعدّ كلوزيل نفسه لدخول المعركة حيث التحق به الدوق دورليان للاشتراك في العمليات القتالية والإشراف على تنظيم صفوفها، إذ قسم الوالي العام جيشه البالغ 12 ألف مقاتل على الشكل التالي: أركان الدوق دورليان، تضم الجنرالان بودران وماربو والعقيد جيرار والنقباء دوشاتيل، لبلان والطبيب باسكيه ومونغيوب وبرتانو دالشجين وشابو لاتور، وأركان كلوزيل مكونة من العقيد مازون والنقباء دورانسه ودولا تو مدوبان.
حمل كل جندي وحدة نار مكونة من 90 طلقة ووجبات طعام كافية ليومين إضافة إلى البسكوت والأرز، واستعمل كلوزيل الجمال، إذ استأجر 774 جمل من القبائل المتنصرة وتكونت القافلة من العربات بـ 4 دواليب والتي يتعذر عليها التنقل في المناطق الوعرة مما يعيق التقدم السريع للقوات المسلحة.
قدّر الأمير عبد القادر، التجهيزات والاستعداد التام لكلوزيل، فضاعف نشاطه واستعداداته لحماية عاصمته، ووقف الزحف الفرنسي والسعي الحثيث لاستمالة القبائل لمضاعفة جيشه وكلّلت مساعيه بالنجاح لاسيما بعد اقتناع زعمائها أن انتصار الفرنسيين خطر يهدّدهم.
قدّم حضرُ المدينة سرا مساعدات مالية، ورفضوا بجميع الطرق والوسائل سلطة الفرنسيين الذين كانوا يحملون لهم كراهية شديدة.
قرر الأمير مواجهة القوات الفرنسية لإجبارها على ترك عاصمته، ثم إرغامهم على الخروج النهائي والعودة إلى بلادهم، وقد تكون جيشه من 8 آلاف فارس بقيادة المزاري، بمساعدة بعض القبائل و4500 مقاتل من القبائل بإمرة البوحميدي ومحي الدين بوحلام، أما سلاحه الثقيل فيتألف من 4 آلاف مدفع میدان.
تمثّلت مهمة فرق الجيش الأولى في إنهاك الفرنسيين واستنزاف قواهم، وتجنّب الاشتباكات في معارك فاصلة أو مجابهة فردية، واختيار المكان والوقت المناسبين، واللجوء إلى الكمائن في ممرات إجبارية، وهي كثيرة على الطريق التي اتخذتها الفرق الفرنسية لاحتلال معسكر.
ولضمان السير المثالي للخطة في الميدان، أدرك الأمير استحالة تقسيم جيشه إلى وحدات قتالية صغيرة لصعوبة الاتصال والتنسيق فيما بينهما بالمناطق الجبلية الوعرة، ولقلة خبرتها بالفنون القتالية على الطريقة الحديثة المعتمدة على القتال بوحدات صغيرة منفصلة قائمة على التنسيق المثالي مع بعضها في المهمات، إضافة إلى تفضيل القبائل القتال تحت إمرة شيوخها.