خرج كلوزيل من وهران 25 نوفمبر 1835 م متجها نحو سهل تليلات عبر مركز التينة، واجتاز داية مورسالي وسينيا وتوقفت مشارف وادي السهل.
في 27 نوفمبر أرسل الحاكم العام الجنرال أودينو، في مهمة استطلاعية نحو سهل تليلات لمعرفة أماكن تمركز الأمير.. وعسكرت القوات الفرنسية على جانبي وادي تليلات.. مقدمة مطلة على غابة مولاي إسماعيل وميمنتها على بعد 4 كلم من خائق حيث تمر طريق ضيقة ومتعرجة إلى الداخل الوهراني..
تحركت الفرنسية فجر 29 نوفمبر نحو سهل السيج لإتمام المهمة الموكلة لها، وتركت فرق الحاكم العام (مؤلفة من كتيبتين من الفرقتين 47 و 66 وسريتي هندسة بقيادة العقيد كومب تركتميل الأوغاس) جنوبي شرق غابة مولاي إسماعيل، لتشرف مقدمتها بقيادة الجنرال أودينو على سهل السيج، أما فرق الجنرالين براجو ودار لنج، فقد سارت في سرايا متوازية مع سرايا فرقة العقيد كومب التي تشكلت فرقة أساسية للاتجاه، أما الحركى، فوصلوا إلى نهر السيج، وخيموا عند الساعة الخامسة من ظهر 29 نوفمبر، بينما اتخذ الجيش الفرنسي شكل مربع تمركزت كل فرقة منه على ضلع واحتلت وسطه القافلة والعتاد.
في صباح 30 نوفمبر، وضع كلوزيل 1600 عامل تحت إمرة العقيد لامورسيه (قائد الهندسة)، وكلفهم بإقامة جسرين على نهر السيج لتسهيل مرور القوات وتأمين تراجعها وقت الضرورة، ولحفر خندق طوله 600م على الضفة اليسرى للنهر، مشكلا مركزا دفاعيا قويا لألف مقاتل، وموقف لعربات الجيش والهندسة والإدارة.
تمونت الكتائب الفرنسية بالماء من الينابيع العديدة والغزيرة في نهر السيج، وبدأت الاستعداد للسير نحو عاصمة الأمير عبد القادر عند الأمر، وفي ليل 30 نوفمبر إلى 1 ديسمبر، عسكرت في وادي الغروف وتجهزت للقتال، في حين أمر الأمير عبد القادر بترك تلمسان، ووصل في 30 نوفمبر إلى سفوح جبال الأطلس، وتمركز مع المزاري على ميمنة القوات الفرنسية بالقرب من مسيل الغروف لمراقبة تقدم وتحركات كلوزيل.
معركة الغروف.. 3 ديسمبر 1835
انضمت قبيلة الغرابة وبني عامر بإمرة محي الدين على بوحلام ،إلى جيش الأمير ليلة 30 نوفمبر إلى 1 ديسمبر 1835، واحتلت سفوح جبال تواكاس وعودتني المشرفة على مسيل الغروف، وعند معرفة كلوزال بما أعد الأمير، قرر الإسراع للوصول إلى أرض المعركة قبل الأمير لتفريق قوات الجزائريين وتشتيتها بين الوديان المطلة على سهول تليلات السيج والهبرة.
تلقى الجنرال أودينوا أوامر من الحاكم العام بالتوجّه داخل سهل السيج مع قوة استطلاعية من 2500 جندي موزعة على 3 سرايا، الكتبية 2 و17 الخفيفتان وعناصر الحركى وكتيبة الرماة الإفريقية الأولى، لاستكشاف أنحاء سهل السيج وجبل تواكاس، إضافة إلى تجنب مقاتلة الجزائريين أو اللحاق بهم إلى الجبال..
اتجهت القوات الفرنسية نحو قبيلة بني عامر على مقربة من جبل تواكاس في محاولة لشلّ تحركاتها، ومع وصول كلوزيل إلى موقع المقاتلين الجزائريين، تضاعفت أعداد الفرنسيين، فلم يجد الجزائريون سوى الانسحاب بسرعة، إلا أن 2500 فارس جزائري باغتوا ميسرة الجيش الفرنسي الحركى، فأخذوا في التراجع تحت الضربات المتوالية، إلا أن كلوزال تقدم مع كتيبتين وفصيلة مدفعية، فتمكن من توقيف الهجوم الجزائري وأعاد تنظيم جيشه.
ورغم شدة الضغط الفرنسي على القوات الجزائرية، فقد صمد الجزائريون وأبلوا البلاء الحسن، وبدأت أعدادهم في التزايد لاسيما بعد وصول 6000 فارس مع مجموع المشاة، فأحاطوا بالقوات الفرنسية واشتبكوا معها حوالي 5 ساعات، وأظهر الجزائريون إقداما منقطع النظير، حتى إنهم كانوا يقتربون أحيانا من مرمى مدافع الفرنسيين مفضلين الاستشهاد في الميدان على التراجع، إلى أن عاد الجيش الفرنسي في السادسة مساء إلى معسكره قرب نهر السيج بعدد من القتلى و43 جريحا.
أمر كلوزيل في 2 ديسمبر 1835 بعد استعدادات تامة وحمل مؤونة تتكفي لـ17 يوما بالسير نحو معسكر لاحتلالها لا يرغب سوى في الخلاص من المقاتلين الجزائريين المتجمعين على قمم الأطلس وعلى الطرق المؤدية إلى معسكر.
ولقد حرص الماريشال على تجنب الاتجاه نحو معسكرات الأمير مفضلا الطريق الطويلة مخترقا مناطق السيج والهبرة السهلية، بقصد تفادي المعركة والخسائر، فاتجه الفرنسيون في صفوف متراصة محمية بفرسانها، للهجوم على الفرق الجزائرية التي يمكن أن تهاجم بشكل مفاجئ.
تيقن الأمير أن كلوزيل، مصمم على السير باتجاه معسكر متجنبا الطريق المباشر إليها، فأمر قواته بالهجوم عليه لوقف زحفه نحو المدنية، إذ لم يكن أمامه خيار إلا مواجهة كلوزيل، فإذا انسحب تاركا الطريق حرة أمام الفرنسيين لاحتلال العاصمة، يكون قد خسر المعركة قبل خوضها، وعلى هذا لم يكن أمامه خيار سوى التصدي للجيش الغازي.
وعلى هذا الأساس، أمر 3 آلاف مقاتل من المشاة غير النظاميين، بمهاجمة قوات العقيد كومب أثناء العبور للضفة اليمنى لنهر السيج، وأبقى القسم الآخر لمراقبة سير الفرنسيين وعرقلة تقدمهم وإجبارهم على العودة إلى وهران، وأمام الضغط الجزائري، انسحب العقيد كومب تحت حماية القصف المدفعي الفرنسي الشديد.
أبقى الأمير، 200 من المشاة غير النظاميين على سفوح الأطلس لنصب الكمائن والانقضاض على ميمنة الجيش الفرنسي التي تراجعت بسرعة نحو القافلة، إلا أنها تمكنت من العودة واختراق الصفوف الجزائرية دون قتال.
في حين قاتل 600 فارس جزائري مؤخرة الجيش الفرنسي وميسرته، فأحدثوا ثغرة بين الفرق، ما اضطر كلوزيل إلى تغيير سير الفالفرقة الثانية والثالثة يمينا بتجنب التصدع والاستعداد لأي هجوم مفاجئ.
أجبرت قوات الوسط بإمرة العقيد بوفور، ألفين من المشاة غير النظاميين على التراجع، غير أنهم صمدوا ولم ينسحبوا إلا بعد تضييق الخناق عليهم من طرف الكتيبة الإفريقية، كما نصب كلوزيل على ميمنته 8 مدافع لقصف تجمعات الجيش الجزائري، وفسح المجال للجيش الفرنسي للتقدّم..
تدخلت عناصر الاحتياط الفرنسية لمساندة ميسرة قواتها، غير أنها تراجعت أمام هجوم 600 فارس جزائري، ولولا اندفاع كلوزيل وكومب مع كتيبتين من المشاة لتقهقر الفرنسيون وانهزموا أمام القوات الجزائرية علما أن قوات الأمير توزعت بين أشجار سفوح الأطلس وأوديته تترقب قدوم كلوزيل، غير أنه تفطن لإستراتيجية الأمير، فأمر جيشه بالابتعاد عن هذه السفوح، فلم يتمكن الجزائريون من استدراج الفرنسيين إلى الجبال للانقضاض عليهم ووقف زحفهم نحو معسكر.
معركة سيدي مبارك
3 ديسمبر 1835
لم يستسلم الأمير بعد معركة الغروف، فقرر وقف زحف الفرنسيين بتغيير خطته التراجعية بالصمود في مكان يختاره بنفسه على طريق تقدمهم نحو وادي الهبرة، وشجعه على هذا القرار معلومات أفادت باتجاه الجيش الفرنسي نحو الوادي، بكتائب متباعدة في الطريق الضيق والمنعرج المؤدي إلى معسكر.
أمر الأمير قواته باحتلال أمكنة العبادة الأربع في هذا المكان بعد تأكده باتخاذ كلوزيل الممر الإجباري نحو سيدي مبارك، وهو يشكل ملجاً للهاربين ودليلا للمسافرين في المنطقة، وسعي إلى حشد قواته حولها للدخول في معركة لا تتيح للفرنسيين حرية العمل ليفتح له المجال للتصرف في كل الاتجاهات.
عندما تيقن الأمير من دخول الفرنسيين إلى سيدي مبارك، أسرع واحتلها قبل أن تجتازها قوات كلوزيل، وعند الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر 3 ديسمبر 1835 م، تمركزت الفرق الجزائرية على النحو التالي: احتل جزء من المشاة النظاميين مع مقاتلي القبائل البرجية وادي ملاح العميق، متوزعين بين حجارة المقبرة يسار الفرنسيين، وبعيدين عن أنظار عناصر مقدمتها بقيادة الجنرال أودينو.
كما تمركز الخليفة البوحميدي وعناصره في خندق داخل الغابة، وتوزعوا بين أشجارها على طريق وهران معسكر يسارا، وتمركز فرسان المزاري في جبال الأطلس وتفرقوا وحدات صغيرة في الوديان مقابل قبائل البرجية والمشاة النظاميين، وتمركز الأمير مع عدد كبير من قواته كاحتياط على المرتفع يمينا مثبتا مدافعه الثلاث في مرابضها بالقر
قسم الأمير، المهام على جيشه، وأمر المشاة النظاميين والقبائل بتجنب الاشتباك مع العدو في قتال مكشوف معتمدا على حرب العصابات لمفاجأته والقضاء عليه بأقصى سرعة ممكنة، فكان على المشاة غير النظاميين وبعض الفرسان صد محاولات الالتفاف الفرنسية وحماية هجمات باقي الوحدات.
وأمر الفرسان بالهجوم على الجيش الفرنسي وإحداث فجوة بين كتائبه، ما يترك مقدمته تجتاز مرابط سيدي مبارك بغية عزلها عن بقية الفرق، ثم محاصرتها إلى أن تستسلم، وأمر فرق الاحتياط بمساندة القوى المدافعة أو المهاجمة لإتمام مهماتها ضد القوات الفرنسية على طريق وهران معسكر.
اعتمد الأمير، في خطته القتالية على طريقة الكماشة حول سيدي مبارك، في الوقت الذي كان كلوزيل يتقدم بجيشه نحو المكان منظما وموزعا جيشه على قادته حيث الفرقة الأولى في المقدمة، الفرقة الثانية في اليسار والفرقة الثالثة في اليمين، والرابعة في المؤخرة، والاحتياط في الوسط.
وصلت طلائع القوات الفرنسية مساء 3 ديسمبر 1835 إلى مرابط سيدي مبارك، المكان الذي اختاره الأمير بذكاء ومهارة لمواجهة كلوزيل، فوقعت المعركة، وتصادم الجيشان..
قامت قوات الحركى بمهمة استطلاعية نحو الغابة، فأصبحت هدفا للجزائريين حيث أطلقوا عليها نيرانا غزيرة من عناصر قبيلة البرجية ومشاة الجزائريين النظاميين المتمركزين في وادي ملاح، فأجبر الحركى على التراجع إلى الخلف بدعم من قائد الجيش الفرنسي الذي أرسل بعض الخونة بإمرة النقيب موليار لإعادتهم.
لاحظ كلوزيل تراجع الخونة، فأمر الجنرال بالتقدّم مع فرقته يمينا نحو سفوح الأطلس ليهجم على مركز الأمير، لكن قوات الفرقة الأولى أوقفت أمام الخندق وتراجعت بعد أن جرح أودينو وأبدل بالجنرال ماربو، وفي الوقت الذي كانت الفرقة الأولى تتقدم إلى اليمين، أوقفت عناصر المشاة الجزائريين المرابطة في الوادي والمقبرة، فرقة الجنرال براجو، وأجبرتها على التراجع أمام قوة الدفاع وقصفت مدفعية الأمير المؤلفة من 3 مدافع فقط.
مجموعة الدوق دورليان والمقدم بورجون يساعدهما النقباء دولوني، ريدوبانز، تيكسادور ودوماسن والمؤلفة من الخونة والحركى، والكتيبة 17 الخفيفة والكتيبة الثانية والإفريقية، اجتازت الوادي والغابة واقتحمت المواقع الجزائرية يسارا، فتمكنت من احتلال الغابة والمقبرة، علما أن الجنرال دارلنج استفاد من هذا الهجوم وسار بمحاذاة جبال الأطلس نحو فرسان المزاري الذين صمدوا بصعوبة.
استولى الفرنسيون بعد بضع ساعات من القتال على الغابة الواقعة على يمين المواقع الجزائرية، بينما تقدمت مدفعيتهم إلى الأمام في الطريق الرئيسي، وأمام هذا الموقف تخلى الجزائريون عن جميع النقط الدفاعية، وكان عليهم أن ينسحبوا بعد أن كبدوا القوات الفرنسية خسائر فادحة.
عد احتلال كلوزيل منطقة سيدي مبارك، تابع سيره حتى الضفة اليسرى لوادي الهبرة، فنصب خيامه ليل 3 ديسمبر 1835، وفي ظرف يومين اجتازت قواته سيدي إبراهيم ووادي البرجية ووادي ملاح وعين الكبيرة ، وفي اليوم التالي ترك الحاكم العام في عين الكبيرة كامل عرباته المدفعية، الفرقتين الثالثة والرابعة بقيادة الجنرال دارلنج والعقيد كومب، واتجه بنفسه مع الباقي من جيشه إلى عين كفرة، فبلدة البرج وقرر الدخول إلى معسكر، بعد أن جاءه يهودي من المدينة وأخبره بأن قوات الأمير لا ترابط بها.
وفي 7 ديسمبر، وقف الأمير عبد القادر أمام أبواب معسكر، وانتشرت أخبار حضوره بسرعة، فجاء رؤساء بعض القبائل الذين تجنبوا مواجهة الفرنسيين، وطلبوا منه العفو وتزعمهم من جديد إلا أن الأمير رفض وطلب تعين خلف له، فقاموا وقبلوا يديه وقدميه وبرنسه راجين الغفران والسماح عن الماضي، ووعدوه بالإخلاص والثبات مستقبلا “لقد كان أباهم وسلطانهم والرجل الذي اختاره الله ليقودهم للجهاد.. إن حياتهم له، فإذا تخلى عنهم فليس لهم ما يفعلون سوى الاستسلام للكفار”..
حين سمع الأمير هذه الكلمات، التفت إليهم وارتفع الدّم إلى وجنتيه بعد أن ضربوا على الوتر الحساس وهو الشعور بالواجب، فقال: “ليفعل الله ما يشاء، ولكن تذكروا إنني أقسم إلا أدخل مدينة معسكر باستثناء الجامع حتى تثأروا لهزيمتكم”.
دخل الأمير، إلى معسكر صباح 9 ديسمبر وثبت سلطته، وأصبح قادرا على مواجهة أعدائه للحفاظ عليها، فازداد الجزائريون إيمانا برسالة الأمير..
أدت قبائل معسكر (الحشم) بحجمها الديموغرافي ووزنها الاقتصادي الواجب، وشكلت العمود الفقري لمقاومة الأمير عبد القادر، ما أهّلها لأن تصبح القبيلة المحورية في تسير دولته، ولعبت دورا فعالا في تموين مقاومته إذ بلغ عدد المطامير التي كان يحزنها الأمير 2100 مطمورة (1837 – 1839) معظم المشرفين عليها من هذه القبائل.
فتيحة بن حميميد
جامعة ابن باديس – مستغانم