إكتسبت الدبلوماسية الجزائرية منذ استرجاع السيادة الوطنية إحترام الدول نظرا لمواقفها الثابتة ومبادئها القائمة على حسن الجوار وإحلال السلم في العالم دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
تاريخ الدبلوماسية الجزائرية مستمد من نضالها الثوري إبان الإحتلال الفرنسي.
تسوية النزاعات وفق الشرعية الدولية
أصبحت الجزائر تؤدي دور الوسيط لحل المشاكل القارية بعيدا عن التدخل الأجنبي، حيث اعتمدت الجزائر في سياستها الخارجية على الدبلوماسية الوقائية القائمة على أساس التشاور بين الحركات التحررية الإفريقية.
ومن بين النجاحات المحققة من طرف الدبلوماسية الجزائرية، بعد الإستقلال نجاحها خلال رئاستها لأشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، في المطالبة بتعليق عضوية جنوب إفريقيا في الهيئة الأممية بسبب سياسة التمييز العنصري المنتهجة وقتها من قبل نظام بريتوريا، حيث تمت المصادقة على اللائحة من طرف ثلثي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، الامر الذي اعتبر في نظر اغلب الملاحظين في تلك الفترة بمثابة انتصارا كبيرا للدبلوماسية الجزائرية.
تميزت الدبلوماسية الجزائرية بعد الإستقلال بالشدة بالدفاع الشرس عن سيادة الدولة وعدم الإنحياز والدعم للحركات الثورية التحررية في الصحراء الغربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وذلك وفقا للشرعية الدولية ومناهضة الجزائر للإلحاق القسري للإقليم الصحراوي بالمغرب، والمطالبة في المنابر الأممية بتجسيد استفتاء تقرير مصير الشعب الصحراوي وفق خطة التسوية لعام 1990 وخطة المبعوث الأممي جيمس بيكر، لعام 2003، والتي أقرها مجلس الأمن بالإجماع.
وقد وصفت الجزائر غداة استقلالها ب”قبلة الثوار”، عرفانا لدعمها والتزامها الحثيثين في الذود عن قضية الشعوب المناضلة للتمتع بحقوقها الشرعية الثابتة في تقرير مصيرها، لاسيما دعمها الثابت لشعبي الصحراء الغربية وفلسطين، ونجاحها ومساهمتها في الاتفاق المبرم في 1975 حول الخلاف الإقليمي بين العراق وايران، وتحرير الرهائن الأمريكيين عام 1981 ، واتفاق السلام بين اثيوبيا واريتريا، والأزمة في ليبيا وعدم استقرار الأوضاع في منطقة الساحل الصحراوي، وعبر القارة الإفريقية، والشرق الأوسط والحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط”.
و”بحكم تاريخ الجزائر ووزنها وموقعها الجغرافي المركزي بين القارة الإفريقية والوطن العربي والبحر الأبيض المتوسط، إلتزمت بلادنا ببذل جهود من أجل المساهمة في تسوية الأزمات والنزاعات في المنطقة”.
كانت وساطة الجزائر مطلوبة في عدد من النزاعات (العراق-ايران، الباكستان-بنغلادش، اليمن الشمالي-اليمن الجنوبي وغيرها)، يؤكد أحمد طالب الإبراهيمي في مذكراته.
ويضيف:” برز الرئيس بومدين، كرمز للنضال الكبير من أجل نظام دولي جديد أكثر إنصافا، خاصة في جانبه الإقتصادي…”.
ومن بين النزاعات، التي إلتزمت الجزائر بتسويتها، النزاع القائم بين جبهة البوليساريو والمغرب، والذي “يجب تسويته في إطار مسار إنهاء الاستعمار وتنظيم استفتاء حول تقرير المصير بإشراف منظمة الأمم المتحدة”.
ومن انجازات الدبلوماسية الجزائرية، دورها البارز في تحرير الرهائن الامريكيين الـ52 الذين احتجزوا في إيران لمدة 444 يوما، بعد وساطة ومفاوضات شاقة انتهت بالإفراج عن هؤلاء الرهائن.
وتعود الاحداث الى الرابع من نوفمبر 1979، اذ وبعد مضي قرابة 9 أشهر على قيام الثورة الإيرانية، اقتحم متظاهرون من أنصار الثورة مقر السفارة الأمريكية في طهران واحتجزوا 52 أمريكيا من موظفي السفارة كرهائن لمدة 444 يوما، فضلا عن مصادرة آلاف الوثائق.
وبعد محاولات فاشلة من الادارة الامريكية في تحرير الرهائن، قبلت الحكومة الإيرانية الدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة بوساطة من الحكومة الجزائرية، وكللت الجهود الحثيثة التي بذلتها مجموعة من الدبلوماسيين من خيرة أبناء الجزائر، بإشراف وزير الشؤون الخارجية الاسبق الراحل محمد الصديق بن يحيى، بتوقيع طرفي الازمة، الولايات المتحدة و ايران، على ما أطلق عليه “اتفاق الجزائر” لحل أزمة الرهائن في 19 جانفي 1981 بالجزائر و في اليوم الموالي وصلت تلك الأزمة إلى محطتها الأخيرة حيث أطلق سراح الرهائن الأمريكيين في طهران.
و قد عبرت الولايات المتحدة الأمريكية عن امتنانها للدور المحوري، الذي قامت به الدبلوماسية الجزائرية في إطلاق سراح 52 رهينة أمريكية.
تسوية الأزمة الليبية بعيدا عن التدخل الأجنبي
وفيما يتعلق بالشأن الليبي، أكدت الدبلوماسية الجزائرية مرارا موقفها المؤيد للتسوية السياسية للأزمة في هذا البلد المجاور، من خلال الحوار الليبي -الليبي ورفضها التدخل الأجنبي، ودعت مختلف الأطراف إلى العمل على بناء مؤسسات شرعية وموحدة.
وفي الصدد، استضافت الاجتماع الوزاري لدول الجوار الليبي، لإخراج ليبيا من الأزمة التي تعيشها.
وأدت دور قائد الوساطة الدولية في مالي، حيث دعت باستمرار إلى التعجيل بتنفيذ اتفاق السلام والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر، بغية تحقيق الاستقرار المستدام في البلاد.
وفي أوت الماضي، أكد رئيس الدبلوماسية الجزائرية، التزام الجزائر بتنفيذ اتفاق السلام والمصالحة في مالي، من خلال مواصلة الحوار مع جميع الأطراف، وكان ذلك في ختام الدورة السابعة عشرة للجنة الثنائية الاستراتيجية الجزائرية – المالية، والتي شاركه في تنظيمها نظيره المالي، عبد اللاي ديوب، الذي زار الجزائر على رأس وفد هام.
وأكد رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، للوفد المالي التزام الجزائر المطلق للقيام بدورها كاملا كقائد للوساطة الدولية، ومن خلال رئاستها للجنة مراقبة تنفيذ الاتفاق.
وساهمت الجزائر في الجهود الجماعية من أجل تسوية النزاع بين مصر والسودان وإثيوبيا بسبب سد النهضة المشيد من طرف أديس أبابا على النيل الأزرق ، ولقيت ترحيبا من قبل أطراف النزاع.
وتماشيا مع السياسة الجديدة، التي اعتمدتها الدبلوماسية الجزائرية الرامية إلى المساهمة في أمن واستقرار المنطقة وتعزيز العلاقات مع إفريقيا والعالم العربي، قرر رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، استحداث سبعة مناصب لمبعوثين خاصين، من أجل قيادة العمل الدولي للجزائر، في سبعة مجالات رئيسية تعكس مصالحها وأولوياتها.
وإرتكزت السياسة الخارجية الجزائرية منذ الأربع سنوات الأخيرة على الدبلوماسية الاقتصادية والجالية الوطنية بالخارج كأولوية، تنفيذا لبرنامج رئيس الجمهورية، وإعادة نشر الدبلوماسية الاقتصادية وإعطائها دفعا على المستوى الدولي خدمة للتنمية وعصرنة الأداة الدبلوماسية وتسيير الموارد البشرية وإعداد إستراتيجية تجاه جاليتنا الوطنية المقيمة بالخارج، وحمايتهم وترقية مشاركتهم في التجديد الوطني.
وفي هذا الصدد عقد مؤتمر بقصر الأمم بالجزائر العاصمة في نوفمبر 2021 جمع رؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصلية الجزائرية، والذي شدد فيه الرئيس تبون، على الأهمية الاستراتيجية الكبرى” للجالية الوطنية في الخارج والدبلوماسية الاقتصادية، داعيا السلك الدبلوماسي إلى إيلاء اهتمام خاص لهما.
تاريخ مستمد من النضال الثوري
ويعتبر تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، أهم عمل قامت به جبهة التحرير الوطني لتوسيع التمثيل الدولي للثورة واقناع الرأي العام العالمي انذاك بوجود طرف جزائري قادر على التفاوض مع فرنسا.
وقد خاضت الجزائر قبل انضمامها الى الهيئة الأممية بتاريخ 8 أكتوبر1962 ، معركة دبلوماسية كبيرة مع المستعمر الفرنسي، موازاة مع الكفاح المسلح الذي انطلق في الفاتح نوفمبر 1954.
وبالرغم من مساعي الإدارة الاستعمارية للتعتيم على شرعية كفاح الشعب الجزائري وإخفاء جرائمه، إلا أن الدبلوماسية الجزائرية تمكنت في 1955 و لأول مرة من إدراج القضية الجزائرية على مستوى الأمم المتحدة.
تركت الشخصيات السياسية الثورية لجبهة التحرير الوطني بصماتها في الدبلوماسية الجزائرية ابان الثورة من خلال نشاط ممثليها ونسج علاقات مع مسؤولي الأحزاب السياسية والبرلمانيين وممثلي النقابات ووسائل الإعلام ، ويشير الباحث عمر بوضربة، إلى أن أغلب الإطارات التي أوكلت لها مهام الإشراف على الجهاز الدبلوماسي للثورة الجزائرية ترعرعوا في أحضان الحركة الوطنية.
ويضيف:” عمل الوفد الخارجي على كسب تأييد ومساندة القوى المحبة للسلم، لقد تأسست إستراتيجية الدبلوماسية الثورية على مبدأ مضايقة فرنسا بالضغط في إطار الأمم المتحدة وعلى الساحة الإفريقية لإجبارها على التفاوض حول استقلال الجزائر وفقا للشروط، التي حددتها أرضية الصومام التي أصرت على الإحترام التام لسيادة البلد ووحدة الشعب الجزائري وسلامة أراضيه”.
وتبرز مصادر تاريخية، إلى ” إعادة هيكلة مكاتب جبهة التحرير الوطني والبعثات الخارجية رغم محدوديتها العددية لتشمل القارات الأربع اسيا، افريقيا، أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث بلغ عددها18 مكتبا وبعثة تابعة من الناحية التنظيمية إلى وزارة الخارجية في ديسمبر 1959.“
ويؤكد الأستاذ بوضربة، أنه في 1960 تضاعف عدد المكاتب ليصل إلى 22 مكتبا وعين على رأس هذه المكاتب وطنيون متشبعون بقيم الحرية، من أبرزهم أوعمر أوصديق، في كوناكري بجمهورية غينيا، بوعلام أوصديق، في باماكو، بجمهورية مالي، اللذان عينتهما الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ممثلين لها بعواصم هذه البلدان، والدكتور في علم النفس فرانز فانون، سفيرا للجزائر في أكرا بجمهورية غانا .“
التمسك بحقوق الإنسان وتقرير مصير الشعوب في دستور 2020
وقد جاء في دستور 2020، ان ” الجزائر المتمسكة بالسلم وحقوق الإنسان والتنمية توجه السياسة الخارجية نحو تعزيز حضورها ونفوذها في محافل الأمم عبر عمليات الشراكة القائمة على المصالح المتبادلة، التي تكون منسجمة كل الإنسجام مع خياراتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية الوطنية في ظل احترام أهداف ومبادئ منظمة الأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية”.
و”نصت المواد 33,32,31 على أن الجزائر تمتنع عن اللجوء إلى الحرب من أجل المساس بالسيادة المشروعة للشعوب الأخرى وحريتها وبذلك تبذل جهدها لتسوية الخلافات الدولية بالوسائل السلمية، وتتجسد هذه الأهداف من خلال احترام مبادئ وأهداف الأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي وبذلك تشارك في حفظ السلم“.
تتجسد مبادئ السياسة الخارجية الجديدة من خلال الدستور، ” أن الجزائر متضامنة مع جميع الشعوب، التي تكافح من أجل التحرر السياسي والإقتصادي والحق في تقرير المصير وضد كل تمييز عنصري، كما تعمل من أجل دعم التعاون الدولي وتنمية العلاقات الودية بين الدول على أساس المساواة والمصلحة المتبادلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وتبني مبادئ ميثاق الأمم المتحدة واهدافه “.
ومن إنجازات الدبلوماسية الجزائرية على مر 62 سنة من استرجاع السيادة الوطنية تحركها ضد قبول اسرائيل كدولة عضو مراقب في الإتحاد الأفريقي، حيث حققت نجاحا باهرا في 6 فيفري 2022، برفض قمة رؤساء الدول والحكومات الأفريقية المجتمعة بأديس أبابا، رسميا منح صفة عضو مراقب للكيان الصهيوني داخل الاتحاد الإفريقي.
ومن إنجازاتها أيضا خلال العامين الأخيرين نجاح الجزائر في عقد القمة العربية الـ31، في نوفمبر 2022، للم الشمل العربي والتي وصفت بقمة الثورات، وخاصة لم شمل الفصائل الفلسطينية، حيث اسفرت عن توقيع الفصائل الفلسطينية اتفاق مصالحة بالجزائر.
وتوجت القمة العربية بإعلان الجزائر وتأكيد تمسكها بحقوق الشعب الفلسطيني وضرورة قيام الدول العربية بدور جماعي للمساهمة في التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، وتقديرا لدورها المحوري في منطقتها انتخبت الجزائر بتاريخ 6جوان 2023 في الجولة الأولى وبالأغلبية الساحقة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عضوا غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمدة سنتين بدءا من 01 جانفي 2024.
المعركة متواصلة لتحرير فلسطين
وما تزال الدبلوماسية الجزائرية لحد كتابة هذه الأسطر تواصل معركتها لوقف الحرب على الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض إلى إبادة جماعية وسياسة تجويع من طرف الكيان الصهيوني المجرم في ظل صمت الدول الغربية وتخاذل المواقف العربية، على هذه الجرائم المرتكبة في حق أطفال ونساء ورجال وشيوخ غزة الجريحة الصامدة أمام القصف والتقتيل الجماعي والتعذيب في سجون الإحتلال الغاصب.
أخرها مطالبة الجزائر على لسان ممثلها الدائم لدى مجلس الأمن الدولي، عمار بن جامع، بفرض عقوبات على الكيان الصهيوني لعدم امتثاله لقرارات مجلس الأمن، ودعت إلى وقف المجازر في غزة وعنف المستوطنين الصهاينة بالضفة الغربية.
وسلط الضوء ممثل الجزائر بالأمم المتحدة على المستوى غير المسبوق، الذي وصل إليه إرهاب المستوطنين، الذين يرتكبون انتهاكاتهم في أغلب الأوقات بحماية من قوات الاحتلال، الذي من المفترض بموجب القانون الدولي أنه ملزم بحماية المدنيين الفلسطينيين, مطالبا بمسائلتهم عن الانتهاكات.