أدركت الثّورة الجزائرية المظفّرة، منذ البداية، أهمية الإعلام والاتصال والصحافة ودروها الفعال في المعركة التحريرية، والتعريف بالقضية الوطنية، وتعبئة وتوعية وتجنيد أفراد الشعب الجزائري، والتصدي للإعلام والدعاية الفرنسيين في الداخل وفي الخارج.
تأسّس ليكون لسان صدق للثّورة التحريرية المباركة
وكان قادة الثورة يعلمون أن نجاحها يتوقف إلى حد كبير على الكفاح المسلح أولا، ثم على الجهود الديبلوماسية والسياسية ثانيا، ثم على العمل الإعلامي والدعائي ثالثا، خصوصا وأن الثورة كانت تواجه خصما متمرّسا وعريقا في ميدان الإعلام والدعاية.
وقد حرصت الثورة على توفير تكامل بين العمل العسكري والسياسي والإعلامي لتحقيق الانتصار على الاستعمار وتحرير البلاد، حيث اهتمت جبهة التحرير الوطني بإصدار الوسائل الإعلامية العصرية كالصحافة، والراديو، ووكالة الأنباء، وأنشأت سلكا (جهازا) عسكريا كلفته بالاتصال بالجماهير وهو المحافظ السياسي.
وحرصت على تنويع وسائل الإعلام والاتصال رغم الصعوبات التي واجهتها، من خلال توظيف المسرح والسينما والتظاهرات العلمية والاجتماعات النقابية والنشاطات الرياضية والفنية وغيرها، فما هو نوع العمل الإعلامي – الدعائي الذي قامت به الثورة؟ وما هي الوسائل والأساليب الإعلامية – الدعائية التي استخدمتها؟ وما هي مراحل نمو وتطور إعلامها بين 1954 و1962؟
لقد بدأت الثورة نشاطها الإعلامي بأجهزة بسيطة وإطارات بشرية ناقصة التكوين والتدريب الفنيين والمهنيين، بالرغم من أن مجالها كان شائكا ومتنوعا، بتنوع الرأي العام الوطني والخارجي، ممّا يستدعي التنوع في الأسلوب والخطاب الإعلاميين والتنوع في الوسائل الإعلامية.
الجهود الإعلامـية بين 1954 و1956
تيقّنت جبهة التحرير الوطني منذ بداية الثورة أن تحويل طاقات الشعب الجزائري، من طاقات مهملة ومهمشة، إلى طاقات بناءة وإيجابية يُعتمد عليها في تحقيق أهداف الثورة التحريرية، ليس بالأمر الهين، وإنما يتطلب أن تنتهج أسلوب الانضباط والصرامة والتوعية المستمرة للمواطنين,
وكان أول شيء قامت به هو السهر على تبليغ مبادئ الثورة وأهدافها للشعب، وقد صاحبت هذه العملية، عملية أخرى تمثلت في إرساء وتدعيم قواعد التنظيم السياسي في الأرياف والقرى والمدن، حيث شرعت الجبهة في إنشاء المراكز وتكليف من يقومون بالاتصال واختيار المناضلين والمسبلين وتكوين اللجان الشعبية المختلفة، ومن بينها اللجان المكلفة بالأخبار والدعاية. ولقد أسندت جبهة التحرير مهمة توعية وتعبئة الجماهير في مطلع الثورة إلى جيش التحرير، خصوصا في الأرياف والقرى نظرا لعدم استكمال إقامة أجهزة الإعلام والدعاية.
وكان أول عمل إعلامي للثورة هو توزيع بيان أول نوفمبر، الذي تضمّن أهداف ومبادئ وأخلاق الثورة وطبيعتها وأسلوبها النضالي، وقد وزع هذا البيان في نفس يوم إعلان الثورة وفي أول نوفمبر 1954، في جميع أنحاء البلاد، واحتوى عددا من الأهداف بينها: الاستقلال الوطني بواسطة إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية، واحترام جميع الحريات دون تمييز عرقي أو ديني، تجميع وتنظيم الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري لتصفية النظام الاستعماري، تدويل القضية الجزائرية، التأكيد على التعاطف نحو جميع الأمم المساندة للقضية الجزائرية التحريرية في إطار ميثاق الأمم المتحدة.
وتبع صدور وتوزيع هذا النداء الأعمال الإعلامية والتحسيسية الأخرى للسكان، توعيتهم وتجنيدهم إلى جانب الثورة، حيث كان المجاهدون الأوائل يتنقلون في سرية تامة في القرى والأرياف والمدن، يبشرون بالثورة ويعلنون الكفاح المسلح ضد الاستعمار في اجتماعات شعبية واتصالات خاصة، وكانت الاحتياطات الأمنية والتحريات تصل حد المبالغة في القرى والمدن التي وجد فيها مراكز وقواعد الاستعمار ومصالح استعلاماته وأمنه.
وبعد اتّساع رقعة الثورة، وذيوع خبر انتشارها في الداخل وفي الخارج، أسندت مهمة الاتصال المباشر بالمواطنين إلى لجان الدعاية للثورة، وإلى المحافظين السياسيين، والمناضلين؛ لتوعية وتعبئة المواطنين وإحباط دعايات الاستعمار الفرنسي، كما استخدمت جبهة التحرير – في هذه الفترة – المنشورات على مستوى المناطق للاتصال والتوعية، وأصدرت النشريات الصحفية ابتداء من سنة 1955، حيث أصدرت نشرة صحفية الأوراس.
وتتضمّن أهم أخبار المنطقة الأولى وردودا على بعض دعايات الصحف الفرنسية والغربية والعالمية، ثم بعد ذلك صدور نشرات صحفية في المناطق الأخرى مثل: الجبل بالمنطقة الثالثة، وحرب العصابات في المنطقة الرابعة؛ وغيرها مثل “أوراس النمامشة” و«صدى الثورة” و«السيف الأسود”. إلخ، وكانت عناوين هذه النشريات متعددة بتعدد قيادات الولايات والمناطق، وبالأخص بتوفر محافظين سياسيين أكفاء، وكان تبادل النشريات يتم بين المناطق أو الولايات فيما بعد، كما كان يتم تبادل الأنباء بين الولايات عن طريق اللاسلكي.
وقد بلغ عدد النشريات حوالي خمس نشريات صحفية نصف شهرية، وكان عدد نسخ النشرة الواحدة لا يزيد عن 300 نسخة، وتصدر في حجم الكراسة وتتراوح بين 21 و 27 صفحة وتصدر باللغتين العربية والفرنسية في الغالب وكان يتم إرسالها إلى المدن الجزائرية وإلى الخارج عن طريق المناضلين.
أما بالنسبة لتوصيل الأخبار الجديدة، فكان شفهيا لإبعاد كل الشبهات، وذلك عن طريق حفظ محتوى الرسالة من طرف من يقومون بذلك التوصيل، وهم عادة من يحوزون على درجة مصداقية عالية.
إضافة إلى هذه الوسائل، لجأت جبهة التحرير الوطني إلى فتح المكاتب الإعلامية بالخارج للتعريف بكفاح الشعب الجزائري وتدويل القضية الجزائرية، ودحض دعايات الاستعمار الفرنسي، وكسب تأييد الرأي العام الدولي. وقد اعتمد الإعلام الخارجي للثورة الجزائرية في بدايتها على النشرات والتصريحات، التي تصدرها الجبهة عن طريق مكاتبها في الخارج التي كانت تعمل تحت اسم (بعثة جبهة التحرير الوطني).
وتقوم بالدعاية والنشاط الدبلوماسي في الوقت نفسه. وبالإضافة إلى هذا، لم تغفل جبهة التحرير الجالية الجزائرية في فرنسا، حيث عملت على توعية وتجنيد أفرادها إلى جانب الثورة، حيث جنّدت العمال والطلبة والمهنيين والأطباء للتعريف بالقضية وكسب أنصار لها في المجتمع الفرنسي نفسه، وفي باقي البلدان والمجتمعات الأوروبية والغربية.
الجهود الإعلامـية بـين 1956 و1958
عانى إعلام الثورة مشاكل عديدة في البداية، وكان من أبرزها قلة التنسيق بين الأعمال الإعلامية والدعائية في الداخل وفي الخارج، وعند انعقاد مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956، أوجد المؤتمرون حلولا لكثير من المشاكل الإعلامية والدعائية، ومن أهمها انعدام التنسيق بين أجهزة جبهة التحرير الإعلامية المختلفة,
فجعل المؤتمر جبهة التحرير هي الموجه الوحيد للثورة الجزائرية ولدعايتها، وتقرر بعد المؤتمر بعشرة أشهر، إلغاء طبعات جريدة “المقاومة الجزائرية” التي كانت تصدر في الخارج، وتوحيدها في “جريدة المجاهد”، واعتبارها اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني والناطق الرسمي باسم الثورة.
وقد حدد مؤتمر الصومام الجبهات الإعلامية وأولويتها بالنسبة للثورة، والوسائل الدعائية الملائمة لكل جبهة على النحو الآتي: الجبهة الداخلية، وتتمثل في الشعب الجزائري في المدن والقرى، وجيش التحرير الوطني، والجالية الجزائرية بفرنسا، الجبهة الثانية وتتمثل في الرأي العام العربي والآسيوي والإفريقي وفي البلدان الاشتراكية – سابقا – والرأي العام الغربي، وخصوصا الفرنسي، والرأي العام في أمريكا اللاتينية.
وأشار مؤتمر الصومام إلى قاعدة الدعاية الجزائرية بتأكيده على ضرورة الابتعاد عن الدعاية الكاذبة والاعتماد على الحقائق، وأن تكون الدعاية ناضجة وجدية وموزونة، على ألا تفتقر إلى الصلابة والصراحة والاتقاد الثوري.
وتطرقت وثائق مؤتمر الصومام وقراراته إلى رجال الإعلام وهم هنا الثوار والمحافظون السياسيون والصحفيون الثوريون، فالمحافظون السياسيون الذين جعلهم المؤتمر نوابا لقادة الولايات، قد حدّدت مهامهم وصلاحياتهم كالآتي: تتمثل مهام المحافظ السياسي في تنظيم الشعب وتربيته، والدعاية والإعلام والحرب النفسية، والعلاقة مع الشعب والأقلية الأوروبية، وأسرى الحرب..إلخ.
وعندما تناول المؤتمر النشاط الإعلامي والديبلوماسي للثورة على المستوى الدولي أكّد على أنّ موقع النشاط الإعلامي والديبلوماسي الدولي يكون في البلاد العربية. المحافظة بانتظام على استقلالية الثورة الجزائرية استقلالا تاما، وأن تبقى الاتصالات بالأشقاء اتصالات حليف مع حلفائه، القضاء على البهتان، الذي أشاعته الحكومة الفرنسية ووسائلها الدعائية لإظهار الثورة بمظهر المديرة من الخارج.
وأن الشعب الجزائري متعلق بفرنسا، والسعي للحصول على تأييد الدول والشعوب الأوروبية بما فيها البلاد الشمالية وكذلك بلدان أمريكا اللاتينية، التي أكد على الاعتماد على الهجرة العربية فيها، إضافة إلى دعوة دول “مؤتمر باندونغ” إلى استعمال ضغط سياسي ودبلوماسي واقتصادي مباشر على فرنسا، علاوة على مساعيها لدى هيئة الأمم المتحدة.
وألح مؤتمر الصومام على ضرورة تنظيم جبهة التحرير الوطني المهاجرين الجزائريين في فرنسا ليكونوا سلاحا هاما للثورة في إنارة الرأي العام الفرنسي والأجنبي، بنشر الأخبار والمقالات في الصحف والمجلات، ودعا فيدارلية الجبهة في فرنسا بإجراء اتصالات سياسية مع المنظمات والحركات واللجان القائمة ضد الحرب الاستعمارية والقيام بنشاط في الصحافة والتجمعات والمظاهرات والإضرابات ضد نقل الجنود والعتاد الحربي للجزائر والحصول على المساعدات المالية عن طريق التضامن مع المقاومين والمناضلين في سبيل الحرية.
واعتبر مؤتمر الصومام أن الاتحاد الروحي والسياسي للشعب الجزائري الذي التحم وتوطد في الكفاح المسلح، قد أصبح حقيقة تاريخية، وهو القاعدة الأساسية للقوة السياسية والعسكرية وللمقاومة، ويجب أن يُحفظ هذا الاتحاد تاما وكاملا وأفضل وسيلة لذلك هي وحدة الجبهة غير ممسوسة ولا منقوصة، نشيطة حازمة للتحرير بصفتها المرشد الوحيد للثورة الجزائرية.
أما وجود جبهة تحرير وطنية لها عروق بعيدة في كافة طبقات الشعب فهو ضمان من الضمانات الضرورية ولذلك ينبغي تنصيب جبهة التحرير الوطني تنصيبا نظاميا في عامة البلاد في كل مدينة وكل قرية وكل عرش، وكل حارة وكل معمل وكل جامعة وكل مدرسة، نشر الوعي السياسي في مراكز الثورة، انتهاج سياسة تقوم على إطارات مدربة تدريبا سياسيا ومحنكة تحرص على احترام هيكل المنظمة ومتيقظة وقادرة على الابتكار، الرد بسرعة وبوضوح على جميع الأكاذيب واستنكار أعمال الاستفزاز وتعريف أوامر جبهة التحرير الوطني بنشر مكاتب كثيرة ومتنوعة تبلغ جميع الدوائر حتى المحاصرة منها، الإكثار من مراكز الدعاية وتزويدها بالآلات الكتابية والطباعة والورق، كما يجب التشبع بالمبدأ الآتي: وهو وجوب العمل بتفكير مسؤول يشرف السمعة العالمية التي أحرزت عليها الجزائر السائرة نحو الحرية والاستقلال”.
وقد تطوّر إعلام الثورة في الفترة التي تلت انعقاد مؤتمر الصومام، وتعزز بأجهزة إعلامية وبإطارات بشرية جديدة وذلك كما يلي:
1 – صدرت جريدة “المجاهد” باللغتين العربية والفرنسية، وتم نقلها إلى تونس في1957.
2 – أنشئت الإذاعة السرية المتنقلة في 1957، ثم أنشئت الإذاعة السرية الثابتة في السنة الموالية.
3 – أنشئت مكاتب عديدة في الأقطار الآسيوية والإفريقية وفي البلدان الاشتراكية سابقاً
4 – إضافة إلى ذلك، كانت جبهة التحرير تقدم برامج إذاعية من إذاعات القاهرة وتونس وطرابلس ودمشق وبنغازي، وبغداد فيما بعد سنة 1958، وكان أقدم البرامج الإذاعية، البرنامج المقدم من إذاعة القاهرة منذ أواخر 1955، حيث خصصت هذه الإذاعة ثلاثة برامج أسبوعية للجزائر.
وخصصت لكل برنامج عشر دقائق. هذا عدا الأساليب الأخرى المتنوعة مثل الاشتراك في المؤتمرات الدولية ذات الطابع الشعبي والجماهيري، وإرسال الوفود الإعلامية إلى الدول التي ليس للثورة فيها مكاتب إعلام، واستغلال جلسات الأمم المتحدة للدعاية للقضية الجزائرية، كما حدث في دورة 1955.
الجهود الإعلامية من 1958 إلى 1962
بعد إعلان الحكومة المؤقتة في سبتمبر 1958، أنشئت وزارة الأخبار التي قامت بدورها بإنشاء قسم للسنيما في 1959، وتأسيس الوكالة الجزائرية للأنباء في 1961، كما أنشأت مكتبا للوثائق والمعلومات يتولى جمع كل ما يكتب عن القضية الجزائرية في الصحافة العالمية، ويقوم بإبلاغ وزير الأخبار أثناء تنقلاته المختلفة بملخص لما تكتبه الصحافة العالمية عن القضية.
وقد استطاع إعلام الثورة أن يفتح نافذة على العالم الخارجي، كما استطاع توعية وتعبئة وتجنيد الشعب الجزائري في الثورة، وإحباط مؤامرات ودعايات الاستعمار الفرنسي والتغلب على أساليب حربه النفسية والمعنوية في الداخل، واستطاع أن يعرف بالقضية الجزائرية في الخارج ويكسب تأييد ومساندة الرأي العام الدولي إلى جانب صف حق الشعب الجزائري في تقرير المصير والحرية والاستقلال وتكوين دولته الوطنية.
التحـدّيات التي واجهت إعلام الثّورة
وقد واجهت الإعلام الجزائري أثناء ثورة التحرير ثلاثة تحديات رئيسية هي: تحطيم الفكرة التي ظلت فرنسا ترددها طول 124 سنة من الاحتلال، قبل انطلاق ثورة أول نوفمبر 1954، وإقناع الرأي العام الدولي بأن هناك شعبا جزائريا له قوميته وتراثه وانتماؤه الحضاري والثقافي والتاريخي والديني والجغرافي والسياسي، ولا يمكن أن يصبح فرنسيا، وله الحق في أن يحيا حياة حرة كريمة، كباقي الشعوب في العالم.
التحدي الثاني تمثّل في إبراز الوجه الآخر من حقيقة فرنسا التي اشتهرت في العالم بأنّها موطن العدالة والحرية والمساواة، وذلك بإظهار السياسة اللاّإنسانية التي تتبعها مع الشعب الجزائري، حتى صارت أغلبيته من الحفاة والجياع، أما التحدي الثالث فكان إقناع الرأي العام العالمي بأنّ الحركة الثورية الناشئة قادرة على استلام زمام السلطة في بلد له أهميته العالمية والجيوسياسية.