ورثت الجزائر غداة استرجاع السيادة الوطنية وضعا إجتماعيا وإقتصاديا وصحيا كارثيا ومأساويا، سوء التغذية وتفشي الأمراض والأوبئة وإنعدام الرعاية الصحية وقلة الأطباء.
ما أدى إلى ارتفاع نسبة وفيات الأطفال خاصة الرضع، والإعاقات والصدمات النفسية والعقلية بسبب القنابل والتعذيب الوحشي، و300 ألف طفل يتيم، منهم 30 ألف يتيم الأبوين، و3 ملايين جزائري هدمت مداشريهم وأحرقت، علاوة على 200 ألف لاجئ جزائري بدول الجوار.
علاج السكان حق مكرس منذ استرجاع السيادة الوطنية
وجدت الجزائر نفسها عشية الإستقلال في وضع اجتماعي وصحي هش بسبب هجرة الإطارات والأطباء الفرنسيين وتدمير شامل لمختلف الهياكل والمستشفيات الطبية، حيث أدى النقص الفادح للموارد البشرية في مختلف الهياكل الصحية إلى انتشار وتفشي الأمراض والأوبئة، وتقدر الإحصائيات عدد الأطباء انذاك بـ1301 طبيبا، مقسمين إلى 966 طبيب يعملون في القطاع الصحي العام، و335 طبيب يعملون في القطاع الخاص.
وتشير بعض الدراسات إلى توفر الجزائر بعد الإستقلال على 143 مستشفى، وعيادة بها 42787 سرير و188 مركز صحي، و1016 قاعة فحص وعلاج و130 مستوصف وقاعات إسعاف، وخمس مراكز للحفاظ على البيئة والمحيط و20 مستوصف خاص بمكافحة السل.
كان النظام الصحي متمركز في كبرى المدن، الجزائر العاصمة، وهران وقسنطينة، وتتوزع العيادات على هذه المدن لتقديم العلاج المجاني السكان.
وتشير مصادر تاريخية إلى أن عدد الأطباء في 1965 بلغ 1319 اي ما يعادل طبيب واحد لكل 8092 مواطن و264 صيدلي اي صيدلي واحد لكل 52323 نسمة، وحوالي 151 طبيب أسنان أي طبيب أسنان واحد لكل 70688 نسمة.
وتؤكد المؤشرات الصحية للسنوات الأولى للاستقلال على ارتفاع وفيات الاطفال بنسبة 180 وفاة لكل 1000 ولادة حية، خمسهم يغادرون الحياة قبل السنة الأولى من عمرهم وذلك نتيجة تفشي الأمراض المعدية ونقص التغطية باللقاحات، التي لم تتعد آنذاك نسبة 10 بالمائة. نفس الوضع بشأن وفيات الأمهات الحوامل التي سجلت 230 وفاة لكل ألف ساكن.
في هذا الصدد، اتخذت الجزائر إجراءات استعجالية من أجل القضاء على الأمراض والأوبئة المتنقلة التي خلفها الإستعمار، حيث بادرت بإنشاء أول وزارة للصحة في عهد حكومة أحمد بن بلة، ثم تلتها وزارات أخرى اعتمدت برامج عديدة كانت موجهة الى الفئات المحرومة.
ولهذا، عمدت الحكومة الجزائرية الحديثة الإستقلال الى وضع إستراتيجية في مجال الوقاية للحد من انتشار الأمراض وعلاجها عن طريق حملات التلقيح الوطنية في الفترة 1969-1970، ضد الأمراض الأكثر انتشارا انذاك وهي مرض الشلل، الملاريا، السل، والتركيز على الحملات التوعوية واهمية النظافة.
ولعلاج هذه الأمراض استحدثت مراكز وعيادات متخصصة لتقديم العلاج للمرضى المترددين على القطاع الصحي العمومي، والتوزيع العقلاني للأطباء، وتقسيم النظام الصحي إلى قسمين الأول المستشفيات العمومية التي رصدت لها الدولة ميزانية كبيرة لإنشاء وتجهيز مختلف هياكلها العمومية بالإمكانيات المادية والبشرية لتوفير خدمات الرعاية الصحية، وثانيا القطاع الخاص المتمثل في العيادات والمصحات الخاصة التي تقدم أحسن الخدمات العلاجية.
إضافة إلى ذلك، أنشأت الدولة المعهد الوطني للصحة العمومية في 1964، وأصدرت قانون تنظيم مهنة الأطباء والصيادلة في 1966، للنهوض بالتكوين الطبي والشبه طبي، وتدعم القطاع بمشاريع إنشاء الهياكل القاعدية بين عامي 1967-1969، حيث أنشأت عشر مستشفيات، و109 عيادة متعددة الخدمات و82 مركز صحي، سنة 1976، وقد خصصت ميزانية 313 مليون دج لهذا المخطط.
وفي الفترة 1973-1980 تبنت الدولة مبدأ مجانية العلاج، للقضاء على المشكلات الإجتماعية و الإقتصادية التي خلفتها السياسات الإستعمارية.
وأكد الميثاق الوطني لسنة 1976، على مبدأ الطب المجاني وجاء فيه: ” الطب المجاني مكسب ثوري وقاعدة لنشاط الصحة العمومية وتعبير عن التضامن الوطني ووسيلة لتجسيد حق المواطن في العلاج”.
ونص دستور 1976 في مادته 67 على الحق في الإستفادة من العلاج وجاء فيه: ” لكل المواطنين الحق في الرعاية الصحية وهذا الحق مضمون عن طريق توفير خدمات صحية عامة ومجانية وبتوزيع مجال الطب الوقائي..”.
مفهوم جديد للصحة
واكب إصلاح المنظومة الصحية في الجزائر التطورات الحاصلة واعتمدت سياسة عمومية وطنية لتحسين وتطوير قطاع الصحة، وتقريب هياكله ومؤسساته من المواطن الجزائري من خلال اتخاذ مبدأ الوقاية خير من العلاج.
وفي الثمانينيات تبنى المؤتمر الإستثنائي لحزب جبهة التحرير الوطني المفهوم الجديد للصحة ليحل محل المفهوم القديم والقائل: ” الصحة هي الخلو من الأمراض”، وبأن الصحة من الأنشطة الإجتماعية والإقتصادية ذات البعد الوقائي، وعوضت القوانين، التي تنص على مجانية العلاج بقانون المادة رقم 51 من دستور 1989، والتي تنص على الرعاية الصحية حق للمواطنين تتكفل الدولة بالوقاية من الأمراض الوبائية والمعدية ومكافحتها”.
وفي هذه الفترة حققت نسبة متقدمة في القضاء على الأمراض الخطيرة بتوفير اللقاحات، وسجل انخفاض في وفيات الأطفال والأمهات الحوامل بفضل تدعيم صحة الأم والطفل من خلال فتح مراكز للصحة الجوارية تهتم بمراقبة الحوامل والأطفال حديثي الولادة.
تميزت الفترة 1999-2009، باسترجاع الأمن والإستقرار الاجتماعي، ومن بين إصلاحات النظام الصحي، تنظيم جلسات وطنية أيام 28,27,26 ماي 1998، بقصر الأمم بالجزائر، والتي وضع فيها ميثاق الصحة لتكييف المنظومة الصحية مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة.
وسُطر برنامج خاص بالتعاون مع المنظمة العالمية للصحة في قطاع الصحة، كان الهدف منه محاربة وفيات الأمومة والأطفال والتكفل بصحة السكان من خلال المساواة في الحصول على العلاج خاصة ما يتعلق بالعلاج الأولي في المراكز الصحية.
وتمحورت المبادئ الأساسية لإصلاح المنظومة الصحية، بحسب ميثاق الصحة، على المحافظة على القطاع العمومي وتحسين مردوديته، تأكيدا لما جاء به قانون 1973، الخاص بمجانية العلاج لكافة السكان دون تمييز جهوي أو طبقي وإدماج القطاع الخاص في المنظومة الصحية الوطنية، إقامة جسور بين القطاع العمومي والشبه العمومي والقطاع الخاص، وتكييف القوانين الأساسية للمؤسسات العمومية للصحة مع خصوصيات مهامها.
فضلا عن ذلك، تطوير وتدعيم السند القانوني للمنظمة الصحية وخلق وظائف التقييم ومراقبة النشاطات الصحية حسب الأهداف المنشودة، تطوير النظام الوطني للإعلام الصحي، مع تعميم استعمال تكنولوجيات الإعلام الآلي بتأسيس بنك للمعلومات على مستوى كل ولاية، وتطبيق البرامج المحلية للمخططات الصحية، ترتيب وتوزيع العلاج والإستعجال الطبي الجراحي في إطار خريطة صحية، تطوير صيغ بدائل لتمويل نفقات الصحة بإشراك جميع الشركاء الإجتماعيين في المجتمع.
تشجيع تطوير الصناعة الوطنية للتجهيزات الصحية والمواد الصيدلانية، تحسين الوضعية الإجتماعية والمهنية لكافة مستخدمي قطاع الصحة ووضع تدابير تحفيزية بالتنسيق مع الهيئات المعنية، وإنشاء مجلس وطني للصحة، وإعادة تأهيل الهياكل الصحية بالتركيز على المناطق الأكثر حرمانا من الرعاية الصحية، ببناء هياكل استشفائية جديدة، تعميم نظام الإعلام الآلي في التسيير، واعداد برامج وطنية لمحاربة الأمراض المزمنة (أمراض السكري، الربو، القلب والشرايين، السرطان والأمراض العقلية).
إضافة إلى تفعيل برامج الوقاية من الأمراض، ضمن مخططات قصيرة المدى ومخططات متوسطة المدى تشمل وضع شبكة متعددة المراكز من أجل الكشف عن الأمراض المزمنة، وتنظيم طرق التكفل بالمرضى وتطبيق القوانين الأساسية الجديدة للمؤسسات الصحية والتي تكون أكثر استقلالية في التسيير.
خدمة صحية تخفف من معاناة المرضى
ارتكزت المخططات طويلة المدى على تكييف بعض المصالح الصحية للوقاية، والتكفل بالأمراض المرتبطة بشيخوخة السكان، توفير الوسائل الضرورية لسير المراكز الجهوية من أجل تقديم خدمات صحية عالية التخصص، وتحديد المعوقات ووضع الأولويات.
واتخذت جملة من القرارات كرست مبدأ مواصلة تعزيز ما أنجز وتدارك النقائص المسجلة، استجابة لتطلعات المواطن في الحصول على خدمة صحية تخفف من معاناة المرضى.
ووضع مخطط للتكفل بمصالح الاستعجالات وبالنساء الحوامل مع “تجند كل الفاعلين وتعزيز هذه المصالح واعادة تنظيمها من حيث الوسائل البشرية والمادية الكافية”، تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون.
جهود للتكفل الأمثل بمرضى السرطان
ولتخفيف معاناة مرضى السرطان، اتخذ رئيس الجمهورية، قرارا يقضي باستحداث هيئة وطنية لمكافحة السرطان تتكفل بضبط عناصر المبادرة الرئاسية للوقاية ومكافحة السرطان المندرجة في سياق تجسيد التزاماته بحماية صحة المواطن وترقيتها.
وكلفت هذه الهيئة بتقديم تقارير دقيقة ومفصلة ودورية حول النتائج الميدانية المحققة وأثرها على عصرنة المنظومة الصحية الوطنية وتحسين التكفل بمرضى السرطان على المستوى الوطني، وبناء على تلك المعطيات، تتخذ كل التدابير اللازمة لتقويم أي خلل مستعجل.
وفي هذا الصدد، خصص مبلغ 70 مليار دج للصندوق الوطني لمكافحة السرطان مع الحرص على دعم موارده المالية سنويا بداية من 2024 بمبلغ 30 مليار دج، زيادة على المخصصات الأخرى بعنوان ميزانية الدولة.
وأقر الرئيس تبون، بوضع مخطط واسع يسمح في البداية باستفادة ما يزيد عن 2.2 مليون امرأة بين 40 و45 سنة من الكشف عن سرطان الثدي على أن تتواصل الجهود خلال السنوات القادمة لتشمل باقي الفئات العمرية.
وتواصلت في 2023 عملية اقتناء وسائل تشخيص متطورة سمحت بإحراز تقدم في الفحص والتشخيص المبكر، ما سيجعل انخفاض عدد الوفيات بمرض السرطان ممكنا.
ووضع حجر الأساس لبناء مصلحتين للعلاج بالأشعة بكل من الرويبة وبني مسوس بالجزائر العاصمة، تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية الرامية الى ضمان التكفل الأحسن بمرضى السرطان من خلال تقريب العلاج من المريض وتجنيبه معاناة التنقل، وستعمم هذه المصالح المتخصصة على معظم ولايات الجزائر.
وفي إطار الاستراتيجية الوطنية المعتمدة لمكافحة هذا الداء وبهدف تعزيز وتدعيم وترقية الصحة بالجنوب والهضاب العليا، وضعت المصالح الطبية المتواجدة بمركز مكافحة السرطان بأدرار حيز الخدمة، تلبية لتطلعات وآمال الساكنة بالمنطقة لاسيما تجنبيهم عناء التنقل نحو الولايات الأخرى، خاصة الشمالية.
وبهدف تحقيق التوزيع العادل والمتوازن للموارد المتوفرة، شهدت 2023 دخول حيز الخدمة مركز مكافحة السرطان بالجلفة المجهز بكافة الوسائل العصرية وبطواقم طبية مختصة في المجال، وهذا من أجل التكفل الأمثل بقطاع الصحة ودعم هياكله وتوزيعها بشكل منتظم وعادل عبر جميع ولايات الجزائر.
وتدعمت ولاية تندوف، بأقطاب طبية لتعزيز جهود الدولة الرامية الى ترقية الأنشطة الطبية وتطويرها بهذه الولاية الحدودية.
وشدد رئيس الجمهورية، على أن مسألة مكافحة السرطان أولوية وطنية، حيث أمر بتوجيه الاستثمار في مجال الطاقة النووية بغرض الاستخدام الطبي والتركيز عليه، خاصة العلاج الإشعاعي للمرضى المصابين بالسرطان أو غيره من الأمراض التي تتطلب هذه التكنولوجيا.
وشهدت 2023 تعزيز المنظومة الصحية الوطنية بمستشفى “الأم والطفل” للجيش ببني مسوس بالناحية العسكرية الأولى ودخول مستشفى الحروق الكبرى بزرالدة (غرب العاصمة) حيز الخدمة، موازاة مع مواصلة العمل لإنجاز مشروع المستشفى الجزائري-القطري-الألماني الذي سيدخل حيز الخدمة سنة 2025 في إطار مسعى الدولة لتطوير القطاع الصحي في الجزائر.