تكملة للمسار الدبلوماسي، الذي خاضه السلك الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني بين سنوات 1955-1958، وذلك بمشاركة وفود باسم الجبهة في مؤتمرات الإفريقية الأسوية.
استطاعت من خلال هذا الحضور كسب ونيل ثقة العديد من الدول الإفريقية – الأسيوية، ومن هذه المؤتمرات : مؤتمر باندونغ 18 أفريل 1955، مؤتمر بريوني في 18 جوان 1956 ، مؤتمر القاهرة في 26 ديسمبر 1957 ، مؤتمر أكرا الأول 15 أفريل 1958).
سنتطرق إلى موضوع انتصار الدبلوماسية الجزائرية من خلال مساعي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بغرض تدويل القضية الجزائرية، وذلك بمشاركتها الفعالة في مؤتمرات الدول الإفريقية المستقلة جاعلة من هذه المؤتمرات منبرا لرفع صوتها عاليا، بغرض إسماع دول وشعوب العالم المحبة للسلام.
لإخراج الثورة الجزائرية من المنظور الفرنسي الداعي بأنها مسألة داخلية تخص فرنسا دون غيرها من الدول، والضغط عليها لقبول منطق التفاوض مع الحكومة المؤقتة باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب المتحدة مهمة التكفل بهذه القضية، وتبنيها مسؤولية إجبار فرنسا على انتهاج الحل السلمي بدل الحل العسكري الذي شنت من خلاله حربا إبادية ضد شعب ثائر من أجل قضية عادلة.
واصلت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، التي تأسست رسميا يوم 19 سبتمبر 1958 المسار الدبلوماسي للثورة الجزائرية بعد أن حلت محل لجنة التنسيق والتنفيذ، باعتبارها المسؤول الوحيد على الملف الدبلوماسي للثورة الجزائرية، يحدوها في ذلك الإيمان بأن الضربة الحقيقية، التي يمكن أن تتلقاها فرنسا على المستوى الدولي تكون انطلاقا مما توصي به هذه المؤتمرات في لوائحها السياسية، ولذا عملت الحكومة المؤقتة منذ نشأتها على ألا تكون غائبة في أي مؤتمر كان هذا ما يفسر حضورها كل المؤتمرات التي انعقدت بين الدول الإفريقية ومن هذه المؤتمرات نذكر:
مؤتمر أكرا الثاني..
احتضنت مدينة أكرا عاصمة غانا للمرة الثانية على التوالي مؤتمرا من 8 إلى 12 ديسمبر 1958، لكن هذه المرة جمع كل الحركات الوطنية من مختلف أنحاء القارة الإفريقية على غرار سابقه، الذي جمع الحكومات والدول الإفريقية.
اغتنم الوفد الجزائري في أول حضور إفريقي له باسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، فرصة تواجده بين الأفارقة طالبا منهم الوقف إلى جانب الشعب الجزائري في المحافل الدولية بغرض تدويل القضية الجزائرية.
فعلا فإن الدول الإفريقية لم تخيب ظن الوفد الجزائري، حيث جعلت القضية الجزائرية تحتل الصدارة من حيث الاهتمام، وخرجت بعدة توصيات لصالح القضية الجزائرية جمعتها في لائحة سياسية.
ففي الجانب الدولي، تدعو الدول المجتمعة في مؤتمر أكرا في التوصية الخامسة، الأمم المتحدة إلى حمل فرنسا على حل الحرب القائمة بينها وبين الشعب الجزائري بطرق سلمية، وذلك بدخولها في مفاوضات مباشرة مع الحكومة المؤقتة في أرض محايدة لأمن الوفود المتفاوضة ومما جاء في هذه التوصية ما يلي:
يدعو المؤتمر بقوة منظمة الأمم المتحدة أن توصي في وضوح لإيجاد حل سلمي للمشكلة الجزائرية بإجراء مفاوضات مباشرة بين الحكومة الفرنسية والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وأن تحدد أجلا معقولا لفتح هذه المفاوضات، في أرض محايدة تضمن الكرامة والحرية لكل طرف.
كما تدعو اللائحة أيضا في الوصية السادسة دول وحكومات الأقطار الإفريقية المستقلة حديثا للاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ومما جاء فيها:
تدعو بقية الدول والحكومات، وخاصة الدول الإفريقية المستقلة، وهي كل من غانا وليبيريا والحبشة للاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
للعلم أن مثل هذا الاعتراف سيؤهل الحكومة المؤقتة بتولي مهامها الدبلوماسية في المحافل الدولية، ويعطي دفعا آخر لعجلة تدويل القضية الجزائرية في الساحة الأممية.
مؤتمر منروفيا
اجتمعت الحكومات الإفريقية المستقلة، للمرة الثانية بعد مؤتمر أكرا الأول في منروفيا عاصمة ليبيريا من 4 إلى 8 أوت 1959. جعلت من القضية الجزائرية محور المحادثات، لكونها أولتها أهمية بالغة واعتبرتها من أهم القضايا الإفريقية الراهنة وعملت على اتخاذ قرارات في ثلاث مسائل تخص القضية الجزائرية وهي:
1 – الاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
2 – تقديم الدعم المادي والمعنوي لجبهة التحرير وجيش التحرير الوطني.
3 – مضاعفة النشاط الدبلوماسي في الأمم المتحدة من أجل نصرة قضية الجزائر.
في حقيقة الأمر عملت فرنسا المستحيل لمنع انعقاد مؤتمر منروفيا، بهدف ضرب مساعي الدبلوماسية الجزائرية، لكنها لم تفلح في ذلك، لكون هذه الأخيرة ظلت في جميع الحالات هي الأقوى، لأنها توصلت في مؤتمر منروفيا إلى تحقيق انتصار جديد للجزائر يضاف إلى سلسلة الانتصارات، التي تسجلها الحكومة المؤقتة باستمرار على الساحة الدولية، بكسبها أنصار جدد من أصل إفريقي لصالح القضية الجزائرية.
بعد أن كانت مسألة تخص الشعب الجزائري بالدرجة الأولى والأقطار العربية بالدرجة الثانية، وهو المنفذ الذي استغله قادة فرنسا بتأويلهم هذا التضامن العربي مع الجزائر، إلى “تعصب عربي – إسلامي”، محاولة من خلال ذلك إثارة مشاعر المسيحيين وبعثها من جديد في قالب الحروب الصليبية.
استطاعت الدبلوماسية الجزائرية في مؤتمر منروفيا أن تحقق انتصارا جديدا للجزائر، إذ اعتبر الوفد الجزائري عضوا كامل الحقوق في أشغال المؤتمر، هذا فضلا عن كسب الدبلوماسية الجزائرية اعتراف كل من غانا وغينيا بشرعية الحكومة الجزائرية، وبذلك توسعت رقعة تضامن الشعوب والحكومات الإفريقية مع الثورة الجزائرية، التي لم تتأخر عن الالتحاق بالدول العربية التي تؤمن بعدالة القضية الجزائرية، مشكلة كتلة صلبة تستطيع أن تعتمد عليها الدبلوماسية الجزائرية بتأييدها المادي والمعنوي في المحافل الدولية، بغرض تحطيم الدعاية الاستعمارية الفرنسية المضللة التي تحاول أن تفرق بين إفريقيا العربية وباقي الأفارقة، وتجعلها أسيرة للسياسة الاستعمارية الفرنسية.
إن مثل هذا الوعي نلمسه في كلمة الرئيس عبد الله إبراهيم عندما قال: “إن الوعي الإفريقي المشترك هو الصخرة التي تتحطم عليها أحلام الاستعمار الغربي والأساس الذي تبنى عليه قواعد إفريقيا جديدة حرة متضامنة ناهضة.
مؤتمر تونس..
انعقد المؤتمر الثاني للشعوب الإفريقية في مدينة تونس من 25 إلى 31 جانفي 1960، وقد عبر أعضاء المؤتمر الوافدون من جميع أنحاء إفريقيا عن إيمانهم العميق بانتصار الأفارقة الأحرار في معاركهم من أجل تحرير القارة الإفريقية وتوحيد أجزائها المشتتة واستعادة مجدها.
في اليوم الثاني من المؤتمر، شرع رؤساء الوفود في إلقاء مداخلاتهم، ولعل ما جاء في مداخلة رئيس الوفد الغيني، عبد الله ديالو، الذي انتخب كاتبا عاما للجنة الإدارية للمؤتمر ، دليل على التضامن الحقيقي للدول الإفريقية مع الشعب الجزائري فيما يقوم به من عمل ثوري طيلة خمس سنوات من أجل الإطاحة بالاستعمار، حيث قال: “إن تضحية الجزائر يجب أخذها بعين الاعتبار والإكبار من طرف جميع الأفارقة، وتتطلب منا جميعا المساندة الفعالة ويجب أن نتوجه إلى الجزائر متطوعين من كافة أنحاء القارة حتى يرمزوا إلى هذه المساندة وهذا التأييد العملي.
وفي الجلسة الختامية تليت مجموع القرارات واللوائح، التي تمت المصادقة عليها ومنها لائحة خاصة بالجزائر، إذ حيا فيها المؤتمر الانتصار الذي أحرزه الشعب الجزائري على قوات الاستعمار بإشراف جبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وكما انحنى أمام أرواح الشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف في سبيل قضية بلادهم.
وخلصت اللائحة بمجموعة من التوصيات تخص الثورة الجزائرية تدعو فيها الدول الإفريقية بالتعجيل بالاعتراف بالحكومة المؤقتة، إذ جاء فيها على الخصوص: “على الحكومات الإفريقية المستقلة التي لم تعترف حتى الآن بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الاعتراف بها، وضرورة سحب الجنود الأفارقة الذين يحاربون في الجزائر ضمن قوات الجيش الفرنسي، واستعداد الدول الإفريقية لتكوين جيش إفريقي يتشكل من المتطوعين للقتال إلى جانب الثوار الجزائريين.
رفع طلب إلى الأمم المتحدة تدعو فيه الدول الإفريقية المجتمع الدولي للعمل على إجبار فرنسا قبول الحل السلمي للقضية، وإنهاء الحرب باعترافها باستقلال الجزائر، حيث جاء في التوصية: نظرا لاستفحال خطورة الحالة في الجزائر بصورة مباغتة فالمؤتمر يوجه نداء للأمم المتحدة حتى تفرض السلم والاعتراف بالاستقلال الجزائري.
تحرز الدبلوماسية الجزائرية، مرة أخرى، التأييد الإفريقي للثورة الجزائرية في المؤتمر الثاني للشعوب الإفريقية المنعقد في مدينة تونس، إذ تشير توصيات المؤتمر إلى ضرورة إنجاح تدويل القضية الجزائرية باعتراف الدول الإفريقية دون استثناء بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، مع تحميل الأمم المتحدة مسؤولية إلزام فرنسا وضع حد للحرب بطرق سلمية مع اعترافها باستقلال الجزائر.
مؤتمر أديس أبابا
انعقد المؤتمر الثاني للدول الإفريقية المستقلة بمدينة أديس أبابا عاصمة إثيوبيا من 14 إلى 24 جوان 1960، حضرته العديد من الوفود الممثلة للدول 16 الإفريقية بغرض البحث ودراسة القضايا، التي تشغل أذهان الساسة الأفارقة وفي طليعتها تلك التي تتعلق بتحرير القارة الإفريقية من أيادي الاستعمار الأثيم والسير بها إلى بر الأمان موحدة ومزدهرة.
لقد نالت القضية الجزائرية أهمية كبيرة في أشغال المؤتمر، وإن الاستقبال الخاص الذي حظي به الوفد الجزائري من حفاوة صادقة وتكريم خالص لهو أحسن تعبير عن التضامن، الذي تكنه الدول الإفريقية للجزائر شعبا وحكومة، بعد موجة من الوعي التي عرفتها الدول الإفريقية برفضها للاستعمار بمختلف أشكاله، حيث رفض المؤتمر الاستعمار الجديد الذي تتبناه فرنسا ودعوته إلى إقامة أسس متينة تسمح مستقبلا في تحقيق تعاون بكل ما يحمله من معان بين الدول الإفريقية المستقلة في جميع الميادين ومساندة في ذات الوقت الأقطار المكافحة من أجل الاستقلال ومعارضة المشاريع الاستعمارية الهادفة إلى استغلال إفريقيا وتجزئتها.
ألقى وزير الأخبار ورئيس الوفد الجزائري إلى أديس أبابا، محمد يزيد، خطابا مطولا اعترف به الجميع بما في ذلك الأعداء، إذ قالت وكالة رويتر البريطانية: “إن المؤتمر لم يهتف لأي خطاب آخر مثل هتافه لخطاب مسؤول الجزائر ، فقد أكد محمد يزيد للحاضرين بأن النصر سيكون حليفا للجزائريين لا محالة”، وأن إعانات الأفارقة السياسية والدبلوماسية والمادية ستعجل في ذلك بقوله: “إن الشعب الجزائري متأكد من الانتصار لأنه وإن كان يعتمد على نفسه قبل كل شيء، إلا أنه يتمتع بمساندة جميع الشعوب المتعلقة بالحرية والتي يوجد في مقدمتها شعوب إفريقيا، وإن الإعانات المادية والسياسية والدبلوماسية تعتبر ذات وزن عظيم في كفاحنا التحرري.
حقا، لقد وجد خطاب وزير الأخبار آذانا صاغية لدى المسؤولين الأفارقة الذين أصروا على مؤازرة كفاح الشعب الجزائري في كل الميادين حتى تتحقق أمانيه القومية إيمانا بأن الثورة المسلحة في الجزائر، قضية تخص كل الدول الإفريقية، وأن استقلال الجزائر سينعكس إيجابا على تطور إفريقيا في جميع الميادين، تحقيقا لهذه الأمنية تدرك الدول الإفريقية يقين الإدراك بوجوب الاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالنسبة للدول الإفريقية التي لم تعترف بها مع ارتياحها لقرار الحكومة المؤقتة لقبولها التفاوض مع الحكومة الفرنسية . (19)
إن الأفكار التي وردت في خطاب محمد يزيد، شكلت قاسما مشتركا في مداخلات رؤساء الوفود الحاضرة في مؤتمر أديس أبابا، هذا ما نلمسه مما جاء في كلمة ديالو عبد الله الأمين العام لمؤتمر الشعوب الإفريقية عندما قال: إن قضية الجزائر هي قضية القارة الإفريقية جمعاء، والواقع أن كفاح الشعب الجزائري قد كانت له نتائج عظيمة الأهمية في بقية القارة.. وسيكون لاستقلال الجزائر نتائج هامة وغير منتظرة على التطور الاقتصادي والاجتماعي لإفريقيا وعلى إبراز شخصية إفريقيا ووحدتها.