إن ممارسة التعذيب في الجزائر لم تكن محدودة، وهي جزءا من النظام الإستعماري ومن صلاحيات الأجهزة المختصة، التي أنشأتها السلطات الفرنسية في الجزائر.
إن جرائم فرنسا ضد الثورة بمنطقة سيدي بلعباس، والمتضمن سرد الحقيقة عن سياسة التعذيب الإستعمارية وانتشار مراكز التعذيب التابعة للجيش الفرنسي وزرعها لضباط المخابرات على التراب الوطني، وبمنطقة سيدي بلعباس كأنها خلايا سرطان في الجسم تهدف الى انهاك وتحطيم معنويات الشعب الجزائري، لكن دون جدوى وتداعياتها مع شهادات العصر في ذكر الحقيقة للرأي العام عن فضاعة التعذيب والجرائم، التي عايشها الشعب الجزائري.
فعن سياسة الإجرام الفرنسي الممنهج في منطقة سيدي بلعباس، ومعاناة سكانها بمختلف شرائحه الإجتماعية والتي يندى لها الجبين وتقشعر لها الأبدان فحاولت تشخيص الصورة الحقيقية، وتسليط الضوء على نماذج من هذه الجرائم، التي وقعت بين 1954-1962، بالمنطقة وعرضت نماذج حية عما عايشه سكان المنطقة من هوس آلة التعذيب الفرنسية ولأبشع الجرائم الفردية والكثيرة المتراكمة في أرجاء منطقة سيدي بلعباس، والردود الإنتقامية لفرنسا ضد نشاط الثورة لمراكز تتكلم عبر زمن التاريخ عن فضاعة معاناة الألام لما قاساه الموقوفين كمشهد تاريخي عن جرائم فرنسا، وعن جملة الممارسات المنافية للأخلاق والأعراف الدولية.
أولا: سياسة التعذيب الإستعمارية وتداعياتها المعاصرة
كسحت فرنسا في 1830 ببراثنها وجيوشها كل جميل أتت على الأخضر واليابس دمرت الأحلام، وهامات الرجال….نكلت بكل تغريدة للحرية قطعت الألسنة، شوهت وطمست الشخصية الأبية في الجزائر عامة، فكان القائد سانت أرنو، يقر في مذكراته لحرب الإبادة الوحشية التي شنها ضد الشعب الجزائري:” كنا نبيد كل شئ، نقتل السكان نحرق وندمر المساكن والأشجار”.
إن جنرالات فرنسا كل من مونتانياك، الدوق دوروفيقو، بيجو، وبيليسي، في عمليات الحرق والنهب للأراضي في جوان 1845، وسانت أرنو، الإعتقال والحجز وراء الجدران دون تهمة أو سبب معين. وراندون، والجنرال لامورسيير، وغيرهم الكثير تبقى أسماؤهم ترن كحجرة عثرة في تاريخ حرب الجزائر وفرنسا مما سببته من رعب وألم، وقتل وإبادة للبشر والحيوان والنبات.
ومن جملة الإعترافات المخطوطة في شكل رسائل كتبها الجنرالات منها ما أورده كافينياك، الى خطيبته أنه يستريح نفسيا ويبعد الأفكار السوداء عن نفسه بقطع رؤوس العرب ورسالة مشؤومة أخرى مع الجنرال مونتانياك، جاء فيها:”…هكذا كيف يجب القيام بالحرب للعرب، قتل كل الرجال عمرهم حتى 15 سنوات، ثم أخذ النساء وكل الأطفال ووضعهم في مراكب بحرية وإرسالهم الى جزر الماركيز أو غيرها، وبإختصار إبادة كل من يدب لدى أرجلنا مثل الكلاب “.
وكانت وجهة نظر أليكس دو طوكفيل، مؤيدة لرؤى القادة والساسة الفرنسيين ولزميله الجنرال لامورسيار، المحبذين للقوة والإجرام عن طريق القتل الجماعي الممنهج فكان يفضل الضغط على العرب في مختلف تدخلاته وإبادتهم أو قنصهم مع إحراق الزرع وبث الهلع في نفوس السكان، وجاء في مقولته ما بلي:” بما أننا قبلنا هذا العنف الكبير والمتمثل في الغزو، أعتقد انه لا ينبغي أن نتراجع دون أعمال العنف الجزئية التي هي ضرورة مطلقة لتكريسها “.
إن جرائم فرنسا لم تبدأ سنة 1957، مع الجنرال بول أوساريس، الذي أباد خلال سنتي 1955-1957 اكثر من 3024 سجينا اختفت من مجموع 24000 سجين بالجزائر العاصمة، فأجاب بعبارة مهذبة شهيرة وببرودة أعصاب:” أنهم قتلوا”، أو مارسال بيجار، أو صالان راوول، أو جاك ماسو، أو ايدموندجوهر، بل تعدتها الى أبعد مما يتحمله الزمن من فضاعة وهول المشاهد الإجرامية التي يندى لها جبين التاريخ.
فقائمة السفاحين طويلة وعريضة تتضمن كل من موريس بابون، وشارل ديغول، وميشال دوبري، وروجي فري، وهنري بورجو، وغيرهم من الجنرالات الفرنسيين، الذين قادوا عمليات الإبادة في حق الشعب الجزائري، إن سياسة المجازر الإستعمارية المتبعة من قبل الإدارة الفرنسية كانت حجر الزاوية والأسس التي رفعت بها قوامها وأظهر من خلالها كيانها الإسنعماري.
منذ تفجير الثورة الجزائرية تصاعدت وتيرة اللجوء الى الإستخدام المفرط من قبل الحكومة الفرنسية في زيادة التعذيب وجعلها وسيلة مباشرة للقمع وتكميما للحناجر الرافضة للعبودية وتكبيلا للعزائم، فقد سئل الفيلسوف الفرنسي فرانسيس جونسون، المناصر لثورة التحرير الجزائرية والرافض لجرائم فرنسا في الجزائر، هل جرائم ضد الإنسانية ؟ أجاب مفحما، فقال:” كان من المفروض أن يكون السؤال هو: هل الإستعمار الفرنسي في الجزائر جريمة ضد الإنسانية أم لا؟.
أقول أن الإستعمار الفرنسي في حد ذاته جريمة ضد الإنسانية فما بالكم بالجرائم الأخرى، ومما سبق نستخلص أن الجبش الفرنسي حين استعمر الجزائر وارتكب جرائمه بدون رحمة محاولا الإنتقام من الثورة والشعب وسعى إلى تحييده عنها، أراد قتل روح الكفاح فيه، بل كان العكس فكانت الجماجم سلما دفعت بالشعب إلى الإلتفاف حول الثورة والذود عنها حتى كان النصر مؤزرا في 05 جويلية 1962.
ثانيا: بشاعة الإجرام الفرنسي بمنطقة سيدي بلعباس
نتيجة لإحتدام واشتداد وقع العمليات العسكرية، التي قادها أشاوس رجال جيش التحرير الوطني في منطقة سبدي بلعباس، وأمام هذا الصد المنيع لجأت فرنسا إلى انشاء مراكز للتعذيب تعتبر بؤر للقهر والإضطهاد لتطبق من خلالها أساليبها القمعية والوحشية بكل شراسة وعدوانية، هدفها اعتماد أسلوب الإستنطاق كوسيلة لردع كل طاقة رافضة للتواجد الإستعماري وايضا بغرض انتزاع الإعترافات كرها من الأشخاص الموقوفين من قبل أجهزة الأمن الفرنسية، وكانت أغلب هذه المراكز تنشط في سرية متناهية ومحجوبة عن الأنظار الدولية ودون رقابة.
ورغم إختلاف مسمياتها من سجون، معتقلات، الى مراكز التعذيب أوجدت كلها لهدف أسمى وهو إضعاف وإفشال الثورة التحريرية والسعي منها إلى تجفيف عقول ساساتها وقاداتها، لكسر معنوياتهم بغية قطع الصلة الوطنية بين الثورة ومسانديها ومجاهديها وبث سياسة الترويع لكسر شوكة العزيمة النضالية، لكن دون جدوى لا الرصاص ولا الحديد ثبط من عزائم الرجال فكان النصر مظفرا بعد جهد جهيد.
ألف الجيش الفرنسي منذ بداية الثورة التحريرية وعقب كل هزيمة يتلقى من خلالها الضربات الموجعة من قبل الثوار عقب نهاية كل معركة او اشتباك او كمين، يسارع الى القرى والمداشر ليصب جام غضبه على الدروع البشرية نساءا -أطفالا وشيوخا، موجها لهم انتقامه اللاذع فيبيدهم تارة ويسبي ويعذب وينتهك من الشرف تارة أخرى، مخلفا وراءه الرعب والهلع فكان المستعمر يكن في نفسه الخوف والغل مجبولا فيه يرى في كل مواطن او مواطنة كبيرا كان او صغيرا على أنه عدوا له حاملا البندقية، لابد من تصفيته او الإنتقام منه.
صور من القمع والتعذيب بدوار بني تالة شرق مدينة سفيزف
ارتكب العدو مجازر عدة ضد المدنيين العزل، منها ما وقع مساء يوم الإثنيين 16 مارس 1957 اين قام الضباط الفيلق 129 بقيادة العقيد كاستيني، والنقيب مارث، رئيس المركز العسكري لمزرعة بيران، بعملية تمشيط واسعة النطاق، حيث جرح من طرف المحافظ السياسي المختار السقاط المراحي، وعلى إثر ذلك قام الملازم لوفافر Lefavre، بالإنتقام من المدنيين العزل وكلهم فلاحين وعددهم عشرون شخصا في مزرعة المعمر لافورق لوسيان LucienLaforgue، وهذا بأمر من السفاح المقدم هول Haul.
عن الواقعة نورد شهادة حية للأجيال والتاريخ على لسان أحد المجاهدين الستة، الذين نجو من الموت، حيث يسرد بطلاقة المجاهد بتخيسي مخيسي، قائلا:” زارتنا من يوم الإثنيين فصيلة من المجاهدين تتكون من 12 فردا بقيادة سي زغلول، أين قضوا الليلة عندنا بالدوار فقدمنا لهم العناية اللازمة والمساعدة الممكنة من أكل وشرب ولباس وكل ما يحتاجونه من مستلزمات، وفي اليوم الموالي يوم الثلاثاء وهو يوم السوق الأسبوعي لمدينة سفيزف، ذهبنا لشراء بعض الحاجيات لتزويد المجاهدين بالمؤونة.”
” وحين عودتنا الى الدوار وجدنا المجاهدين قد تحولوا عن منزلنا الى منزل بوسطلة لحسن، وبحلول الساعة الثانية ظهرا قدمت إلى الدوار فرقة من الجيش الفرنسي مدعومة بالدرك الفرنسي في سرية تامة، وعلى رأسهم شانسين””، من المكتب الثاني فباغثوا المكلف بالحراسة شايب الذراع عبد القادر، الذي حين رأى دورية المستعمر فر هاربا دونما يبلغ المجاهدين بقدومهم، فحاصر الجيش الفرنسي القرية، وبدأ في إطلاق النار الكثيف فتبادل المجاهدون وعساكر العدو رمي الرصاص، فأصيب أحد ضباطهم من رتبة عقيد بجروج بليغة واستشهد منا مجاهدان اثنان، وتمكن المجاهدون من الإنسحاب بأعجوبة الى الغابة المجاورة للقرية.”
“وبعد ذلك بدأ الجيش الفرنسي في مداهمة السكان وإخراجهم من مساكنهم، وفي تلك اللحظة أمرني عسكري فرنسي بحمل أحد الشهداء فوق سيارة مصفحة وبحلول الساعة الحادية عشرة ليلا أخرجونا من ديارنا ليذهبوا بنا إلى المعصرة الكبيرة للخمور التابعة للمعمر لافورق لوسيان، ثم أدخلنا في الزنفور- قبو لتركيز وتخمير المشروبات الكحولية وبدأو في تعذيبنا ثم قاموا بتفتيشنا ونهبوا كل ما كنا نملكه من نقود وأشياء أخرى، وتركونا هناك بعدما أشعلوا لنا السجائر ثم أغلقوا عنا كل الأبواب وجميع المنافذ لإعاقة التنفس.”
“وفي يوم الأربعاء وعلى الساعة التاسعة صباحا فتحوا الأبواب فوجدونا نحن الستة فاقدين للوعي، أما بقيتنا وعددهم عشرون قد توفوا اختناقا “رحمهم الله ويضيف المجاهد بتخيسي مخيسي، في شهادته قائلا:” أنهم أخذونا نحن الستة، رمضان الجيلالي، صارنو بن يحي، لقجع جلول، سايح بقدور، بولسيس حنيفي، ومحمد زياني، بعد أن تأكدوا من نجاتنا الى المكتب الثاني ثم إلى مزرعة بيري، أين تم استنطاقنا بوحشية ليستمر هذا المسلسل كل أربعة أيام، فمكثنا هنالك مدة عشرين يوما تحت التعذيب الوحشي والإستنطاق وفي الأخير أطلق سراحنا “.
الشهداء العشرون رحمهم الله فهم كالآتي:
بوصطلة عبد القادر، بوصطلة المختار، بوصطلة العربي، بوصطلة محمد ولد أحمد، بوصطلة لحسن، قدوس محمد ولد الحاج، بن علي، مصطفى، وسيراس بن قدور ولد محمد، بلاحة ولد لخضر بولسيس بغدادي ولد عيسى، بولسيس جلول ولد عيسى، سمون عيسى، سمون البودالي ولد عيسى، بن زيان العربي ولد جلول، صارنو محمد ولد يوسف، بورخيسي الحبيب ولد الطاهر، مروك محمد، كحلة لحسن علي، ولحسن بن سهلة ولد العربي.
الدكتور عبد الحق كركب/ جامعة تيارت