أسفر كمين المعرقب، الذي لم تتجاوز مدته عن 25 دقيقة عن تحقيق مجاهدي جيش التحرير الوطني لنصر جديد على حساب وحدات الجيش الاستعماري الفرنسي، التي منيت بهزيمة ساحقة.
استشهد المجاهد محمد علي بن عياد براكني التابع لفوج التغطية، بينما تلقّت القوات الاستعمارية خسائر فادحة، رغما عددها وعدّتها. لهذا، قلنا إن كمين المعرقب الذي نصبه المجاهدون في يوم 04 أفريل 1956 لأفراد قافلة عسكرية فرنسية، واحدا من بين الكمائن الناجحة، جاء كرد رد فعل من القيادة الثورية على الانتهاكات والاعتداء التي كان جنود الجيش الاستعماري الفرنسي يقومون بها في حق المدنيين من ساكنة المنطقة.
تجمع المصادر الجزائرية والفرنسية بأنّ المجاهدين استطاعوا إلحاق خسائر فادحة بالوحدة العسكرية الفرنسية التي تم إيقاعها في مصيدة كمين المعرقب، فجريدة «المجاهد» وبالرغم من أنها لم تحدد عدد القتلى الفرنسيين بالضبط، إلا أنها أوردت تفاصيل المعركة.
من جانبه، أكّد المجاهد بلقاسم جدي في شهادته هذا الكلام، وذكر بأن الجنود الفرنسيين تكبّدوا خسائر كبيرة. أما المجاهد محمد العربي براهمي فيذكر بأن المجاهدين جنديا فرنسيا واحد تمكن من الفرار بعد أن ألقى سلاحه وراءه، ويشير المجاهد الطيب بن سلطان علوان إلى الخسائر التي لحقت بالقوات الفرنسية قائلا: قام شريط لزهر بنصب كمين غير بعيد عن الجرف لمجموعة من الشاحنات الفرنسية، أعلم أن عدة عسكريين قد حيّدوا، أما الضابط الفرنسي دومنيك فارال، فقد حدد الخسائر التي لحقت بالوحدة العسكرية الفرنسية بقوله: أعلن عن سقوط 32 قتيلا في الجانب الفرنسي من بينهم ملازم أول وطالب ضابط، بينما حدد الملازم جان بالازوك عدد قتلى الكمين بـ 22 قتيلا، فيما خسرت وحدة القطاع الوحدة المسؤولة عن الجهة التي وقعت فيها المعركة 22 جنديا بينهم ضابطان.
الأسلحة والمعدّات الحربية
بالنسبة للأسلحة والمعدات الحربية التي استرجعها المجاهدون خلال هذا الكمين، أشار الجنرال الفرنسي فرانسوا كان بأن الثوار تمكنوا من غنم كمية معتبرة من الأسلحة، بينها 03 رشاشات 30 ثم اختفوا في ضفاف الواد الوعرة، فيما حددت جريدة «المجاهد» خسائر الجيش الاستعماري الفرنسي في المعدات كالآتي: 25 رشاشة و7 بندقيات رشاشة ومدفعين من عيار 60 و7 بندقيات من نوع ماس 49 و04 من نوع ماص 36، وكمية وافرة من المسدسات والعتاد و04 آلات راديوفونية لتلقي الأخبار وإرسالها.
أما المجاهدون صالح بناني بناني وبلقاسم جدي ومحمد العربي براهمي، فقد حدّدوا الخسائر التي لحقت بالوحدة العسكرية الفرنسية كالآتي: احتراق عربة استطلاع مصفحة، وسيارة جيب وثلاث شاحنات GMC، وتم غنم مدفعي هاون، من بينها مدفع هاون 82 ملم دون قاعدة غنم 36 قطعة سلاح منها: 02 مدافع رشاشة فرنسية 29/24، بندقيتين آليتين ذات خزان 10 طلقات 15 بندقية تكرارية من نوع ماص 36 06 بنادق ماص 49 04 مسدسات من عيار 09 ملم. كمية كبيرة من الذخيرة الحية وعدد من حاملات الذخيرة والقنابل اليدوية الهجومية والدفاعية. معدات التوجيه: 01 جهاز إرسال لاسلكي، 04 نظارات ميدان 04 بوصلات، عدد من الساعات اليدوية.
معركة الجرف الثانية..الاستعداد
بعد نجاح كمين المعرقب في تحقيق أهدافه، قام المجاهدون المشاركون فيه بجمع الغنائم من أسلحة وذخيرة حية ومعدات حربية، ثم شرعوا في مغادرة موقع الكمين تمهيدا للعودة إلى مقر الإدارة بجبل أرقو الذي يبعد عنهم ببضعة كيلومترات شمالا، في حين اكتفى الجنود الفرنسيون المتواجدون في المركز العسكري بجبل الجرف بمتابعة مجريات الكمين من وراء جدران المركز، وعجزوا عن تحريك قواتهم لنجدة زملائهم وفك الحصار عنهم، أين تملكهم الجبن والخوف بسبب هذه الضربة التي وجهت لهم من طرف مجاهدي جيش التحرير الوطني، وتزامنت عملية خروج المجاهدين مع تحليق الطائرات الحربية الفرنسية فوق المنطقة، فقد وصلت متأخرة، وفشل قادتها، رغم تحليقهم المستمر، في تحديد المواقع التي يتمركز فيها المجاهدون الذين استطاعوا مسايرة الوضع واستفادوا من جغرافية وتضاريس المنطقة لتمويه أنفسهم بشكل جيد. وتأخرت عودة المجاهدين رغم قصر المسافة للأسباب التالية:
صعوبة المشي بين التضاريس الوعرة، حمل المجاهدين لغنائم كثيرة أثقلت كواهلهم، تساقط الأمطار في المنطقة، ولكن رغم هذه الصعوبات، واصل المجاهدون المشي خلال الليل، ورجعوا إلى مقر الإدارة وتمركزوا هناك في انتظار التطورات التي سيسفر عنها الكمين.
في خضم قيام المجاهدين بتنفيذ الكمين كانت القيادة الثورية لناحية تبسة تترقب نتائجه، وعندما وصلتها أخبار نجاحه، سارع القائد بشير ورتان المكنى سيدي حني إلى تشكيل وإرسال دوريات من المجاهدين، وكلف أفرادها بتقديم الدعم للمجاهدين المشاركين في الكمين. ثم أجرى اتصالا ثانيا بالمجاهد صالح بن علي سماعلي، قائد قطاع الشريعة، ومسؤول الفرع الطيب بن سلطان علوان، وقادة الأفواج جفافلية علي بن بلقاسم، حاجي الطاهر علي بن علي الزرمومي، أين قيموا الموقف السائد بالمنطقة على إثر الكمين، وأطلعهم على معلومات جمعها المسبلون وتفيد بقيام قيادة الجيش الاستعماري الفرنسي بحشد وتجهيز وحداتها العسكرية حتى تقحمها في عملية لمتابعة المجاهدين المشاركين في الكمين، ودرسوا الموقف وخلصوا إلى تبني قرار يقضي بالاستعداد لمواجهة القوات الفرنسية.
المواجهة
من الملاحظ أنّ المصادر الفرنسية تشير إلى أنّ المعركة استمرت لمدة خمسة أيام مثلما يذكر الملازم جان بالازوك الذي كتب بشأنها ما يلي:
من 05 إلى 10 أفريل، وقعت معركة عنيفة في منطقة الجرف، بالنمامشة، لمدة خمسة أيام،أما دومنيك فارال فيضيف بأن فصيلتين تابعتين للكتيبة 23 من قوات المرتزقة المحمولة، كانت متمركزة في بئر العاتر، تحركتا لملاحقة الثوار.
وعن الظروف التي بدأت فيها المعركة، أشار الجنرال فرانسوا كان بأن القوات الفرنسية كانت تقوم بالتعبئة العامة جنوب قرية ثليجان يوم 05 أفريل. هناك ولأول مرة شاهد وصول 07 طائرات هليكوبتر من بينها 03 من نوع Banane للقوات البرية، و04 من نوع Sikorsky للقوات البحرية و02 للقوات الجوية، وإذا كانت القوات الفرنسية قد شرعت في تجميع وحداتها لشن العملية العسكرية ضد معاقل جيش التحرير الوطني، فإن المجاهدين بدورهم أخذوا كامل الاحتياطات الممكنة لديهم، حيث لم يمنعهم الانتصار الذي حققوه في المعرقب من البقاء للعدو بالمرصاد إذ كانوا متيقنين أن النجدات سترسل، وفعلا لم يلبثوا إلا قليلا، وشاهدوا العساكر يقتربون من مسالك الجبال، وينزلون من السماء.
كانت الإمدادات ترسل من جميع الأماكن، ولقد لاحظ الجنود المظليين ذوي القبعات الحمراء قد جاؤوا من تبسة نفسها، أين توالى إرسال الإمدادات خلال العشية كلها واستؤنف في اليوم التالي فتيقنوا أن المعركة ستكون من أشد المعارك التي دارت رحاها بين رجال جيش التحرير الأشاوس، والقوات الغاشمة منذ اندلاع الثورة.
وبعد استكمال كافة التحضيرات، أصدرت قيادة الجيش الاستعماري الفرنسية الأوامر لضباطها ببدء العملية العسكرية، أين هاجمت وحدة عسكرية فرنسية مدعومة بالطيران الحربي على الساعة التاسعة صباحا المكان المسمى الظهر القريب من جبل تازربونت، والذي تمركز فيه المجاهد القائد مقداد بن الحفناوي جدي مع مجموعة مكونة من 65 مجاهدا، لتبدأ بذلك المعركة بين الطرفين ويشتد لهيبها.
يصف المجاهد محمد العربي براهمي مجريات اليوم الأول من المعركة قائلا: انجر عن كمين المعرقب وقوع معركة كبيرة في اليوم الثاني من حصوله بجبل أرفو العظيم. شاركت فيها كل أفواج المجاهدين المتواجدة به، ودامت أكثر من 12 ساعة، تلقى فيها العدو ضربة أخرى لا تقل عن ضربة الكمين الموجعة، وقد خسر فيها أكثر من 20 قتيلا وفي مقدمتهم قائد مركز الجرف برتبة نقيب، ناهيك عن عشرات الجرحى والمصابين من جنوده خلال المعركة، وقد استعملنا في هذه المعركة الأسلحة التي غنمناها من الكمين.
من جانبه، يتحدّث المجاهد بلقاسم جدي عن بداية المعركة قائلا: في اليوم الموالي نشبت المعركة بيننا وبين الجنود الفرنسيين، أين كان تعداد مجاهدي جيش التحرير الوطني فيها كثير، وهذا ما أدى إلى اشتداد دائرة المعركة لتشمل الجبال المحيطة بجبل أرقو، ثم امتدت لتصل إلى جبل تازربونت.
وعن هذه التطورات، يتحدّث المجاهد الطيب بن سلطان علوان قائلا: فيما يخصني فقد تمركزت في تازربونت، واشتبكت وفقدت خمسة من رجالي علي بن علي (زرمومي)، عمر بن الصيد (جدري)، فرحات (زرمومي) الصادق بن محمد وعيساوي عبد الرحمن من تبسة.
وعن الظروف التي وقعت فيها المعركة، يتحدّث المجاهد فرحاني محمد الصغير بن إبراهيم قائلا: تزامنت المعركة التي قادها المجاهد علي بن علي الذي ينحدر من فرقة أولاد أحمد بن عيسى، وهي إحدى الفرق المشكلة لعرش الزرامة، مع عودتنا من رحلة الانتجاع التي قضيناها في صحراء الخنف بواد المشرع، أين أقمنا في شعبة المزارة حيث تمركز المجاهدون في داغوس جبل فعور الكيفان، وشرعوا في مواجهة القوات الفرنسية المدعومة بالحركى خلال الفترة الصباحية.
وقاوموا مقاومة شرسة بشجاعة منقطعة النظير طوال اليوم، أين كان المجاهد علي بن علي الزرمومي يردد خلالها عبارات التكبير التي دوت في الجبل ورددت الصخور صداها، ثم يطلق الرصاص ببندقية رشاشة نوع 24/29 FM وبندقية فيزي قارة، باتجاه الجنود الفرنسيين الذين منعهم من الاقتراب منه، وبحلول المغرب، استشهد وتوقف سلاحه عن إطلاق النار، بعد أن قام أحد الجنود الفرنسيين برمي قنبلة يدوية عليه، وقد خاض معركة بطولية وتمكن من إلحاق خسائر فادحة في صفوف القوات الفرنسية، ثم قام الجنود الفرنسيون بعد ذلك باعتقال بزويش علي تومي.
بعد نهاية المعركة ومغادرة الوحدة العسكرية الفرنسية للجبل، قمنا بتكوين مجموعة من الرجال لأجل دفن شهداء المعركة، ثم غادرنا شعبة المزارة باتجاه كاف الديار بجبل فعور الكيفان، ولما صعدنا إلى مكان المعركة وجدنا أثار دماء الجنود الفرنسيون ملتصقة بصخور الجبل، ثم صعدنا إلى المكان الذي تمركز فيه الشهيد مصار علي بن علي، وكانت المفاجأة كبيرة، حيث لم نعثر على جثمانه بعد أن قام الجنود الفرنسيون بإخراجه واحراقه، ولم نعثر سوى على بقايا سرواله، فقنما بدفن بقية الشهداء الذي عثرنا عليهم ثم غادرنا الجبل وعدنا إلى بيوتنا.
تواصلت المعركة في يوم 06 أفريل أين كان رماة المجاهدين وهم في أماكنهم العالية المنيعة، يطلقون على الهيلوكوبترات والطائرات وابلا من نيران رشاشاتهم لكي يمنعوها من النزول، وكانت تلك الطائرات مختلفة الأنواع منها المقنبلة ومنها المطاردة، ونجح المجاهدون في تحييد خمس طائرات هيلوكوبتر وأخرجوها من العمل.
ولمواجهة حجم الأضرار، سارعت فرقة قسنطينة لطلب تعزيزات من الجزائر العاصمة، وقد استجابت القيادة الفرنسية في الجزائر لطلبها، فأرسلت السرية الثالثة من الفوج الأول لفيف أجنبي مظلي (CC/REP) التابع للمقدم ألبرت بروتير، أين قام أفرادها بعملية إنزال في مساء يوم 06 أفريل، وبوصول هذه السرية، تواصل القتال ليلا بين المجاهدين والجنود الفرنسيين على ضوء الأسهم المنيرة التي كانت تطلقها طائرات العدو.
في هذا الإطار، أورد الجنرال فرانسوا كان في شهادته ظروف الاشتباك الليلي الذي خسر فيه الجيش الاستعماري الفرنسي عددا ما من جنوده يوم 06 أفريل 1956 قائلا: في أول مواجهة لي فقدت العريف الأول كودراي والعريف براي، إنّها كارثة بالنسبة للملازم الأول المشؤوم الذي أمضى كل يومه والقسم الأول من الليلة في إطلاق النار على عدو لم ير له أثرا..ازدادت سرعة الرياح عند حلول الليل، وأخذت تقلب القماش لتكشف عن وجوه الموتى التي كان يضيئها نور القمر بشكل مخيف.
إنّ ثوار قبيلة النمامشة قنّاصون مرعبون مزودون بسلاح إيطالي «ستاتي»، حيث لا يسمع إلا أزيز رصاصها المرعب. تحضرني هنا نادرة مثيرة للشفقة كانت الكتيبة الثانية على يميننا يقودها النقيب فوساريو قام بالهجوم على كتل من الصخور يتمركز بها العدو استنجد بالطائرة لنقل 04 أو 05 جرحى من بينهم العريف جاليوراكي الذي جرح في ساقيه، كان ممدّدا في الطائرة، وبمجرد ارتفاعها عن الأرض.
تلقى هذا الأخير رصاصة في الرأس..يا له من يوم..وعلى الساعة الخامسة والنصف من صبيحة يوم 07 أفريل استؤنف القتال بين المجاهدين والجنود الفرنسيين، أين أبدى المجاهدون أثناءه نفس الإقدام الذي أبدوه في اليوم السابق، واستعملوا الأسلحة التي كانوا استولوا عليها في المعركة الأولى، فكبّدوا القوات الفرنسية خسائر فادحة، وإمدادات العدو تتقاطر وتضرب حولهم بنطاق مساحته نحو الخمسين كيلومتر مربعة، لقد شارك في هذا الحصار الآلاف من جنود الاستعمار وست طائرات مطاردة وعشر هليكوبتر وثلاث بيبركب وعدد لا يحصى من رجال المظلات ذوي القبعات الخضراء، توالى إنزالهم وراء خطوط المجاهدين عدة ساعات.
استمرت المعركة بضراوة كبيرة، وتمكن المجاهدون في نهايتها من الخروج من ميدان القتال الرئيسي واتجهوا إلى مرتفعات كاف النسورة شمالا، بعد النجاح في إلحاق خسائر فادحة في صفوف وحدات الجيش الاستعماري الفرنسي التي فقدت جنودها بين قتلى وجرحى بلغ مجموعهم أكثر من 50 قتيلا وما يساويهم جرحى ومصابون مثلما أكدت جريدة المجاهد التي تناولت النتائج التي أسفرت عنها معركة الجرف الثانية، والإنجازات التي حققها المجاهدون فيها.
..لكن، اعترف أحد أكابر الضباط الفرنسيين أن المعركة أسفرت عن ثلاثمائة وأربعة وسبعين قتيلا بينهم عدة ضباط وعن المئات من الجرحى، في مقابل استشهاد ثمانية وجرح واحد وعشرين من مجاهدي جيش التحرير الوطني. ومن المحقق أن الجزائريين أسقطوا في تلك المعركة 06 هيلكوبترات سكرسكي وطائرة مطاردة تندربلت، وعطبوا طائرة من نوع «بيبركب» إضافة إلى حرق سبع سيارات معدة لنقل الرجال والعتاد، وقد اعترف رؤساء الاستعمار أنفسهم أن طائرة هيلكوبتر واحدة تساوي فريقا من الجنود، ما يمكّن من تقدير أهمية ما لحق القوات الفرنسية من خسائر فادحة في يوم الجرف التاريخي.
ورغم حدة القتال، كانت الإصابات قليلة في صفوف المجاهدين، حيث لم تتجاوز خمس إصابات لحقت بكل من المجاهدين حاجي الطاهر سلطان الشامخي قواسمية بشير بن المكي، تومي فرحات، والطيب بن سلطان علوان، يضاف إليها استشهاد المجاهد عمار الذي ينحدر من فرقة أولاد أحمد بن عيسى.
من جانب آخر، يمكننا الوقوف على قوّة المعركة ونجاح المجاهدين في تحقيق نتائج إيجابية وباهرة فيها، وتقويض وإفشال مخططات قيادة الجيش الاستعماري من خلال تصريحات بعض الضباط الفرنسيين الذين عبروا عن خيبة أملهم، ولعلّ أبرزها تصريح الجنرال فانسكيم للصحفي كلود دلماس والذي جاء فيه الآتي:
بالنسبة للتسليح الذي مكن هؤلاء الرجال من مهاجمة طائرات الهيلوكوبتر، فهو يأتي مباشرة من ليبيا، أخيرا، تضع الظروف الجغرافية لهذه المعارك أحد الجوانب الرئيسية للمشكلة وهي إغاثة الجرحى فهي عقبة لا يمكن التغلب عليها إلا إذا كانت قواتنا عددها كاف يسمح لها بالتطويق.
ثم يأتي تصريح الجنرال فرانسوا الذي قال فيه: في صباح يوم07 أفريل، عاد الصمت ومعه خيبة أملنا وحزننا.
أما الملازم جان، فقد اعتبر – من جانبه – بأن هذه القضية بالنسبة للفرنسيين ليست سوى نصف نجاح. فبعد نهاية القتال خسرت القوات الفرنسية 47 جنديا وجرحا 50 معظمهم خلال الاشتباكات الأولى، و 130 ثائرا قتلوا.. في محاولة لتضخيم عدد الجزائريين الشهداء بالمعركة.
أصداء المعركة في الصحافة الاستعمارية
خلّفت معركة الجرف الثانية صدى قوّيا في وسط الصحافة الاستعمارية الفرنسية التي واكبت تطوراتها، وقد حاول الصحفيون من خلال التقارير التي نشروها التقليل من الخسائر الفادحة التي لحقت بصفوف القوات الفرنسية، وتضخيم الخسائر في صفوف المجاهدين، وهذا ما عبرت عنه جريدة المجاهد بالقول: لقد تناقضت البلاغات في تفاصيل هذه الواقعة وحاولت الجرائد المزيفة تخفيف ما تكبده فيها الأعداء من خسائر، ويمكن استعراض بعض النماذج من المقالات التي تناولت المعركة، وهي المنشورة في جريدتي الكومبا وصدى وهران التي تؤكد الطرح الذي ذهبت إليه جريدة المجاهد:
جريدة الكومبا
تناولت الجريدة مجريات المعركة في ثلاثة أعداد متتالية، والتي جاء فيها:
عدد 08 أفريل 1956: اشتباك عنيف شرق النمامشة.. الجزائر 06 أفريل، وقع أمس اشتباك مهم في المنطقة الواقعة على بعد 05 كيلومترات شمال الجرف شرقي سلسلة جبال النمامشة بين دورية تم نقلها من مركز الجرف وعصابة قوّية من الخارجين عن القانون.
تشير المعلومات الواردة حتى الآن إلى أن خسائر كبيرة من كلا الجانبين، تم تدمير إحدى الشاحنات واشتعلت فيها النيران جزئيا. تم إرسال التعزيزات إلى مكان الحادث في الساعات الأولى من صباح اليوم. كما تجري حاليا اشتباكات عنيفة في المنطقة الواقعة على بعد 06 كيلومترات جنوب شرق المزرعة، حيث تم الاشتباك مع الفرقة التي تمت متابعتها من قبل قواتنا.
عدد 09 أفريل 1956 تنظيف منطقة النمامشة في اللمامشة، استمرت الاشتباكات التي بدأت يوم 05 أفريل في منطقة المزرعة بين وحداتنا وعصابات المتمردين القوية طوال يوم 06 أفريل وبعدها مرة أخرى، تم الاشتباك مع فرقتين ثائرتين تم تطويقهما خلال الليل في مكان يبعد حوالي 10 كيلومترات جنوب شرق المزرعة.
في 07 أفريل، جمعنا المعلومات التالية من مصادر رسمية حول الاشتباكات التي استمرت مساء السبت في منطقة المزرعة. من جانب الثوار الخسائر أشد بكثير، على نحو فعال، يوم 07 أفريل بعد الظهر، تم إحصاء 20 جثة على الأرض، كما أن الخارجين عن القانون يضطرون أحيانا إلى أخذ موتاهم. العدد يثبت فاعلية قواتنا وحربنا العنيفة اضطرت طائرتا هليكوبتر إلى الهبوط اضطراريا.. الجنود والطاقم بأمان وقد تم استرداد الطائرتين. وبدعم فعال من القوات الجوّية تتواصل الغارات حول القمم التي تهيمن على منطقة المزرعة، وتجدر الإشارة إلى أن البحث المنهجي سيستغرق عدة أيام بسبب جغرافية المنطقة شديدة الصعوبة خصوصا أنها مليئة بالصدوع التي يتحصن فيها المتمردون.!!!
عدد 10 أفريل 1956: انتهى القتال في الجرف بالمزرعة يوم 08 أفريل.. يمكن تقديم التقرير التالي مع الأخذ في الاعتبار أن أعمال البحث لم تكتمل بالكامل من جانب القوات الفرنسية، هناك حوالي عشرين قتيلاً وثلاثين جريحًا غالبية هذه الخسائر تم تكبدها خلال المواجهات الأولى حيث تمت مهاجمة الوحدة المنقولة، تسبب القتال في الأيام التالية في تكبد القوات الفرنسية المشاركة خسائر طفيفة، تبدو خسائر الثوار مهمة للغاية، كما لوحظ أثناء البحث الذي أعقب العملية. تم العثور على أكثر من ستين جثة في الميدان من المؤكد وفقا للآثار التي خلفتها المعركة، أنه تقرير عن نتائج القتال في النمامشة يقول المكتب الإقليمي للعمل النفسي:
يمكننا تقييم عدد جثت الثوار الذين أزيلت جثثهم أو دفنوا كما تم استعادة عدد كبير من الأسلحة الحربية، كما تم ضبط وثائق مهمة.
جريدة صدى وهران..
من جانبها، خصصت جريدة صدى وهران في عددها الصادر يوم 08 أفريل 1956 حيزا تناولت فيه أخبار معركة الجرف الثانية، أي بعد مضي أربعة أيام على بدايتها، وجاء في العنوان الذي كتب بالبنط العريض: معارك ضارية في قسنطينة مقتل مائة متمرد في الجرف المزرعة.. نأسف لمقتل 22 قتيلا وواحدا في عداد المفقودين و20 جريحا في صفوف قوى الأمن..
وقالت الصحيفة إن المعركة في الجرف المزرعة كانت صعبة، حيث تم تقطيع مجموعتين كبيرتين إلى أشلاء، ولكن لم يكن من الممكن تحديد الرقم الدقيق لخسائرهم بدقة نظرا لحرص القيادة المحلية على عدم الإشارة إلى أنهم قتلوا بشكل مؤكد الخصم الذي تعافى كان على الأرض. ومع ذلك فإن التقديرات الأولى المقدمة مع جميع التحفظات، ستؤدي إلى أكثر من مائة يمثلون عدد القتلى من المتمردين.. يستمر العمل في هذه المنطقة ومن المتوقع أن يتم قتل العديد من الخارجين عن القانون. ونحن نأسف للخسارة، في صفوف قوى الأمن قتل ضابطان و22 رجلا وفقدان واحد وجرح 20.
جريدة المجاهد.. لسان الصدق..
لم تفوت جريدة المجاهد وصف المعركة، واستخرجت بعض الدروس المستقاة منها، وأشارت إلى فشل مرتزقة الاستعمار وتخاذلهم وبراءة الله منهم. وإنه يحق للشعب الجزائري ولجيش التحرير الوطني أن يفتخرا بيوم الجرف، فإن هذا الانتصار والعشرات من الانتصارات التي تقدمته ومن التي سنحصل عليها إن شاء الله عن قريب، يقوي عزم أبناء وطننا خصوصا وقد بدت في أفقه بشائر الفوز، وأشرق نور عهد جديد، عهد الحرية والسعادة والهناء.
وإذا كان بعض الفرنسيين من أقطاب السياسة والعسكرية – تقول المجاهد – ما زالوا يشكون في نجاح الثورة الجزائرية الحالية، فإن انهزامهم بالجرف ذلك الانهزام الذي تلا انهزامات عدة يريهم لو كانوا يبصرون أن محاولاتهم في التغلب على الشعب الجزائري ستبوء لا محالة بالفشل المرير والدمار الوبيل. فليعلموا – تواصل المجاهد – أن أبناء وطننا الذين اختاروا أن يعيشوا أو يموتوا أحرارا، لمتيقنون أن النصر سيكون حليفهم وذلك لا لقوتهم بل لأنهم محقون والحق يعلو ولا يعلى عليه.
أما المجاهد محمد العربي براهمي، فاعتبر أن المعركة تعد أكبر نصر تحقق على مرأى ومسمع من المواطنين سكان المنطقة الذين ثأر منهم عساكر العدو انتقاما لما تكبدوا من خسائر فادحة.
في الختام..
من خلال ما سبق نستنج ما يلي: أظهر كمين المعرقب تحكم المجاهدين في تقنيات الحرب الثورية، حرب العصابات التي نجحوا من خلالها في توجيه ضربات صاعقة للقوات الفرنسية، من خلال ما تم استرجاعه من غنائم والجنود الفرنسيين الذين تم القضاء عليهم، وأثبت فشل الجنود الفرنسيين في التعامل مع هذا النوع من الحروب غير النظامية، مثلما فشلوا في مواقع سابقة على غرار فج المورد في 24 ماي 1955، والحميمة القرعة 17 جويلية 1955.
أخذت معركة الجرف الثانية اسمها واشتهرت به من وراء الكمين الذي نصبه المجاهدون في المعرقب والذي استهدفوا من ورائه الجنود الفرنسيين التابعين للمركز العسكري الفرنسي بجبل الجرف. تمكن المجاهدون من الصمود في معركة الجرف الثانية لمدة ستة أيام من القتال المتواصل، ضد وحدات المظليين الفرنسيين التي جاءت لتقديم الدعم للوحدات الفرنسية التي كانت متمركزة في منطقة تبسة، أين حققوا نتائج إيجابية في هذه المعركة وهذا ما كشفت عنه ووثقته الكتابات الفرنسية.
نجح المجاهدون خلال معركة الجرف الثانية في القضاء على ضابطين من ضباط الجيش الاستعماري الفرنسي، كان أحدهما الضابط المسؤول عن المركز العسكري بجبل الجرف، وهذا ما يعتبر أقوى رد من المجاهدين على الجرائم والممارسات القمعية التي مارسها هذا الضابط واقترفها جنوده الذين أعطى لهم الضوء الأخضر للتفنن في ارتكابها، مستغلا القوة التي كانت متوفرة بين يديه.
تعد معركة الجرف الثانية إحدى المعارك الكبرى التي خاضها المجاهدون بناحية تبسة، وجاءت لتكمل سلسلة الانتصارات التي حققوها في مواقع سابقة على غرار معارك وادي الجديدة الأولى، أم الكماكم الأولى، الجرف الكبرى وغيرها.
جبل أرقو معقل من معاقل الثورة بناحية تبسة، كيف لا وهو الجبل الذي يسميه ساكنة المنطقة بالأرض الحرة أو المحررة في إشارة إلى أنه أرض عصية على الغزاة، فقد كان كابوسا حقيقيا لدى قيادة الجيش الاستعماري الفرنسي، وفشلت كل مخططاتهم لفرض السيطرة عليه، رغم الإمكانات البشرية والمعدات المتوفرة لديهم، وظل الجبل المستقر الدائم للمجاهدين طوال سنوات الثورة التحريرية.
أقحمت قيادة الجيش الاستعماري الفرنسي في معركة الجرف الثانية سبع طائرات نقل جنود، في محاولة منها لكسب رهانها لكن عزيمة المجاهدين وتصميمهم كان أقوى أين تمكنوا من عطب 04 طائرات من هذه الطائرات بنسبة إصابة تقدر بـ 57.14 بالمائة.