تتميّز منطقة الشرق الجزائري من الناحية الجغرافية، بجبالها المرتفعة وصعوبة مسالكها، وغاباتها الكثيفة وشعابها الغائرة.
كان ذلك عنصرا مساعدا لجيش التحرير الوطني لضرب العدو، وهي منطقة تميّزت بقوّة الوعي السياسي لدى مختلف الفئات الاجتماعية للشعب، سواء في المدن أو القرى، أو الأرياف نظرا لوجود النشاط الثقافي والعلمي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بقوّة في مختلف مناطق الشرق الجزائري، ممّا سهّل المهمة أمام جبهة التحرير الوطني لنشر أفكار ومبادئ الكفاح المسلّح.
كان يمكن للمنطقة الحصول على الأسلحة بسهولة مقارنة بالمناطق الأخرى، نظرا لقربها من الحدود التونسية ممّا يمكّنها من تهريب الأسلحة من البلدان العربية كمصر وليبيا، ونتيجة لهذه المواصفات، نظر المؤرخون إليها، على أنّها كانت تتميّز بقوّة إضافية أثناء الثورة، وبالتالي سهّل عليها أن تلعب الدور البارز منذ انطلاقة الثورة في مراحلها المتقدّمة..
هجومات 20 أوت 1955
اجتمع قادة الولاية الثانية، وتبادلوا الآراء، وانتهى الاجتماع إلى تعيين المسؤولين، ووضع المخطط الهجومي العام على كلّ المدن والقرى بالولاية، وتجنيد الشعب، وتحديد الوقت، وتأطير الهجوم..
وفي منتصف نهار يوم السبت 20 أوت، اهتزّت الأرض تحت أقدام المعمّرين والجيش الفرنسي والبوليس، بهجوم مفاجئ من الجماهير وهي تزحف نحو المدن والقرى في شجاعة وإقدام.
إنّ الذين عاشوا تلك الفترة يجمعون على أنّ زيغود يوسف، هو صاحب فكرة هذه الانتفاضة، وعندما اختمرت في ذهنه نقلها إلى مساعديه الأقربين، وفي مقدّمتهم لخضر بن طوبال، ولقد كان زيغود من قدماء المنظمة الخاصة، وكان يقول دائما: “إنّ القمع الأعمى يولّد القمع الأعمى، والعنف يدعو للعنف” .
وعلى هذا الأساس، فإذا تمكّنت جبهة التحرير الوطني، في عملية هجومية ضدّ الاستعمار وقواته بجميع أنواعها، فإنّها ستتسبب في ردّ فعل عنيف يقطع خط الرجعة على المتردّدين، ويوقظ الحسّ الوطني لدى عامة المواطنين، وهذا من شأنه تعبئة الجماهير، وجعلها تتحمّل مسؤولياتها كاملة.
ولقد عبّر المجاهد رضا مالك، عن هجومات الشمال القسنطيني، قائلا: “إنّ أول نوفمبر بالنسبة لنا كان هو بداية الانطلاقة، لكن 20 أوت هو بداية الحرب، وإعلانها بالنسبة لفرنسا”..
لقد غير 20 أوت 1955 مجرى كفاح الشعب الجزائري على المستوى الداخلي والعالمي؛ لأنّه أخرج الثورة من عزلتها، وجعلها تشمل كافة أرجاء الوطن، فقد جعل الثورة تتغلغل في نفوس الجميع متفجّرة كالبركان، حيث أعطى نفسا جديدا وانتعاشا عظيما لمسيرة الكفاح، وكان فاصلاً حاسما بين سياسة التهدئة التي جاء بها جاك سوستيل، وإعلان الشعب الجزائري رفضه المطلق لهذه السياسة، الأمر الذي جعل فرنسا تدرك الخطر وتوجّه قواتها للقيام بتسليط عمليات القمع ضدّ الشعب الجزائري.
ويتضح جليا الدور البارز الذي لعبته منطقة الشمال القسنطيني، أو الولاية الثانية، في العام الأول من عمر الثورة، حيث كانت من أقوى المناطق التي احتضنت أفكار الجهاد والتحرير والاستقلال وطرد المحتل، ورغم ما عانته من صعوبات، لاسيما من النشاط الواسع للقياد والخونة، واستشهاد قائدها الأول الشهيد ديدوش مراد، في يوم 18 جانفي 1955، إضافة إلى نقص الأسلحة، فقد تكيّفت مع تلك الظروف الحرجة، بفضل حنكة قائدها الجديد زيغود يوسف.
وإن تميزت الفترة التي تلت استشهاد ديدوش مراد بهدوء مؤقت، فقد ركّزت المنطقة الثانية قبيل هجومات 20 أوت على التنظيم السري أو السياسي، ومحاصرة الخونة وأذناب الاستعمار من أجل ربح ثقة الشعب ومساندته.
في ظلّ الظروف الصعبة، التي كانت تمر بها الثورة، بعث شيهاني بشير، نائب قائد المنطقة الأولى برسالة إلى قائد المنطقة الثانية زيغود يوسف، لأنه أدرك أنّ الثورة قد تختنق أو تجهض، طالبه فيها بعمل شيء من أجل الثورة، فإذا لم تتحرك المناطق الأخرى، وتفكّ الحصار المفروض على المنطقة الأولى الأوراس.
يقول لخضر بن طوبال عن رسائل شيحاني: في ذلك الوقت كان راسلنا شيحاني، يستنجد ويقول نحن في خطر، لا بدّ أن تتحرك الولايات بعمليات لفكّ الحصار عنّا”.. ويضيف العقيد صالح بوبنيدر، أنّ زيغود يوسف، تلقى رسائل من شيحاني مفادها: لابدّ من عمل شيء لتخفيف الضغط ومشاطرتنا أوزار الحملة الاستعمارية المسعورة علينا”، وهكذا وجد زيغود يوسف نفسه مضطرا إلى القيام بمبادرات.
وبدأ ينسّق مع عبان رمضان وقادة الداخل، وقام بتنظيم عمليات 20 أوت 1955 قصد تخفيف الضغط على ولاية الأوراس، والقيام بعمليات جماعية وجماهيرية، أيّ بمشاركة الشعب الجزائري حتى يتمكّن من تحرير نفسه بنفسه وقد تقرر أن تكون العمليات العسكرية في منتصف النهار، وليس في الخفاء وذلك قصد المجاهرة بالثورة، وقطع كلّ الصلات مع العدو الفرنسي.
لقد كان زيغود يوسف، واعيا بخطورة الوضع، وهو يقوم بالإعداد لهجومات الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955، ونلمس ذلك من قوله: اليوم أصبحت القضية قضية موت أو حياة، ففي نوفمبر كانت مسؤولياتنا تنحصر في تحرير الوطن، وتنفيذ الأوامر.
لكن اليوم وجب علينا أن نختار إحدى الطريقتين، إما أن نشنّ غارات عامة يحدث جراءها الانفجار الشامل، وبالتالي نحث كلّ الجهات على مضاعفة عملياتها، ويذاع صوت كفاحنا بكلّ صراحة على المستويين الداخلي والخارجي، وإما أن يكون هذا بمثابة برهان بأنّنا عاجزون على أن نقود هذا الشعب إلى الاستقلال، وبهذا نكون قد قاتلنا إلى آخر مرة، وتكون في النهاية عملية انتحارية.
أهداف الهجوم الكبير..
إنّ جمع المعلومات المختلفة من مصادرها المتنوّعة، وإخضاعها للنقد والتحليل، يسمحان لنا بحصر أهداف هجومات الشمال القسنطيني في مضاعفة عدد مراكز التوتر في أماكن كثيرة من المنطقة الثانية الشمال القسنطيني، كي يرفع الحصار المضروب على المنطقة الأولى الأوراس التي كانت تعاني من عمليات التمشيط المبكرة آنذاك، كما يسمح الهجوم بنقل الحرب الساخنة من الجبال والأرياف إلى المدن والقرى.
وبذلك يحقق هدفين في آن واحد، فيخفّف الضغط المفروض على الريف من أجل محاولة خنق التنظيم الثوري في مهده من جهة، ويتأكّد الاستعمار من أنّ الثورة في كلّ مكان، فتتسع الهوة بين السلطات الاستعمارية والجزائريين الذين كانوا ما يزالون متردّدين، من جهة أخرى.
وكان الثوار يعملون على إقناع الرأي العام الفرنسي والرأي العام العالمي، بأنّ الشعب الجزائري قد تبنى جبهة التحرير الوطني، وهو مستعد لمجابهة الرشاشات والدبابات من أجل تحرير البلاد.
وكان من بين الأهداف تدويل القضية الجزائرية، وذلك بحمل الجمعية العامة للأمم المتحدة على تسجيلها في جدول أعمال دورة 1955، يضاف إلى ذلك محاولة الثورة القضاء على السياسة التي جاء بها جاك سوستال، وهي التي لم تتوقف عند حدود العمل الأمني، بل كانت تهدف إلى تخريب الحركة الثورية في كلّ النواحي الشرقية من البلاد التي تشكل في واقع الأمر جبهة، وتسمح لسوستال بأن يختار من بين الممثلين السياسيين من الأحزاب القديمة وغيرها، مفاوضين مقبولين أيّ بمعنى أشخاص ليّنين لتكوين قوّة ثالثة.
في أثناء التحضير لعملية الهجومات، استدعى زيغود يوسف، مساعديه وتباحث معهم في طريقة تنفيذ العملية، وفي نهاية الاجتماع أمرهم بتحضير الجيش، فكان أول تجمع لهذه العملية – كما هو معروف – في بوساطور، دوار لخضر، بلدية سيدي مزغيش، وفي التجمع الثاني، أعطيت الأوامر لتنفيذ الهجوم بمشاركة الشعب، ووزّعت المهام والمسؤوليات، وتولى زيغود شخصيا الإشراف على تنظيم هجوم قسنطينة وضواحيها.
وحدّدت الأهداف التي ستشمل معظم مناطق الشمال القسنطيني كوادي الزناتي، عين عبيد، الحروش السمندو، فيليب فيل سكيكدة حاليا، قسنطينة الخروب، عزابة، قالمة، وميلة، وغيرها.
وتم تعيين أهم هدف، وهو مدينة فيليب فيل، كونها مركزا هاما للنشاط الاقتصادي والعسكري، وكذلك الطابع الجغرافي الذي تتميز به، حيث تعلوها جبال غابية ممّا يسهل عمليتي الهجوم والانسحاب، ولأنّ يوم 20 أوت كان يوم السبت المخصّص لسوق أسبوعية، حيث يكثر عدد الوافدين عليها، وقد خصّص لها ما يزيد عن عشرين فوجا ومجموعة، يتراوح عدد كلّ منها من عشرة إلى مائة فرد.
بدأ الهجوم في الوقت المضبوط، أيّ في منتصف النهار، وهو موعد وجبة الغداء عند الأوروبيين المدنيين، لأنّ العسكريين يتغدون قبل ذلك بساعة، ثم إنّ الوقت صيف وبعد الظهر تشتدّ الحرارة، ومعظم أفراد الجيش الفرنسي غير معتادين على ذلك، ومن جهة أخرى، فإنّ منتصف النهار، هو وقت أذان صلاة الظهر، وقد أراد زيغود يوسف أن تمتزج الدعوة للصلاة بالدعوة للجهاد، وهو ما حدث في أغلب القرى والمدن.
وفي اليوم 20 أوت عام 1955، انطلقت عملية الهجوم التي لم تكن مقتصرة على يوم واحد، بل كان مقررا لها أن تدوم ثلاثة أيام، وهذا ما حصل بالفعل بالنسبة لبعض النواحي بالشمال القسنطيني، فقد هاجمت أفواج جيش التحرير الوطني مدعّمة بالشعب، ثكنات العدو ومراكزه، وحررت بعض القرى تحريرا كليا مثل أراقو قرب جيجل، وفجّرت قنابل بالمدن داخل المحلات العامة للمعمّرين، وتم تحييد بعض الخونة، واستعمل في هذا الهجوم الخناجر والفؤوس والمداري والعصيّ والحجارة، إلى جانب بنادق الصيد.
إنّ الهجوم قد بدأ في الوقت المضبوط، ولكن ليس في كلّ الجهات المحدّدة، بل يمكن الجزم أنّ الجهة التي كان يشرف عليها الشهيد زيغود مباشرة، هي التي نفّذت الخطة بكلّ دقّة، لأجل ذلك، وقع كلّ الثقل تقريبا على الشريط الممتد بين سكيكدة، القل وقسنطينة، شاملا على الخصوص مدينة سكيكدة وضواحيها، مدينة الحروش، مدينة مزاج الدشيش، مدينة سيدي مزغيش، مدينة زيغود يوسف حاليا، ومدينة وادي الزناتي، ثم مدن القل ومليلة وقسنطينة والخروب.
ولقد كان رد فعل السلطات الفرنسية عنيفا، فقد رمت القوات الفرنسية بثقلها، وشنّت عمليات قمع رهيبة، وبدون تمييز، وقام الجيش الفرنسي عن طريق مليشيات مختصة في الإبادة الجماعية ضدّ الشعب، وكانت أكبر نسبة من التقتيل في مدينة فيليب فيل (سكيكدة)، فقد لجأ الاستعمار إلى الانتقام من المدنيين، حيث استشهد 1273 جزائريا، وقتل 123 فرنسيا، وأدّت إلى القطيعة بين المدنيين الأوروبيين والشعب الجزائري.
على مسار الثورة..
إنّ قيمة أيّ عمل رهينة بما يخلفه من نتائج إيجابية، أو سلبية، وبالنسبة لهجومات 20 أوت 1955 فقد تركت نتائج هامة في مسيرة الثورة التحريرية الكبرى، وقد كتب الكثير عن تلك الهجومات، وما حقّقته من نتائج على مسار الثورة، ونذكر بعض الآراء نقلا عن الطيب العلوي: حصر محمد حربي أهداف الهجومات في عدد من النقاط: أوّلها بث الرعب في أوساط المعمّرين وإشعارهم أنهم ليسوا بمنأى عن الخطر، والاستيلاء على الأسلحة، إضافة إلى مساعدة منطقة الأوراس المحاصرة بالقوات العسكرية الفرنسية، ومنح الفرصة الأخيرة للسياسيين الجزائريين كي يلتحقوا بجبهة التحرير الوطني.
– أما المجاهد مسعود معداد فقد كتب يقول: كان من الأهداف إغراق عمل البحث وأجهزة مباحث السلطات الاستعمارية في الجماهير الشعبية، والتخفيف من وطأة الحصار عن الأوراس، إضافة إلى ترتيب الجبهة في جوّ أوسع للتمكّن من بعثرة قوات العدو، وخلق حالة اللاعودة لتوسيع الشقّة الفاصلة بين المستعمر والشعب، وإبعاد كلّ المحاولات الهادفة إلى خلق لعبة المفاوض المقبول، بإقناع المتردّدين أنّ الشعب مصرّ على المضيّ قدما في تحرير البلاد، وهذا من شأنه أن يمحو الصورة التي روّج لها الاستعمار إعلاميا، حيث اعتبر المجاهدين مجرد عصابات إجرامية، ليكون هجوم 20 أوت بيانا على أنّ المسألة متعلقة بتحرير وطن، وأنّها خيار شعبي لا محيد عنه.
يمكن اعتبار هجومات 20 أوت 1955 مظهرا من مظاهر التنسيق العسكري، عملت منطقة الشمال القسنطيني على تجسيده من خلال الأهداف التي تحقّقت على المستوى الداخلي وهي: الاستجابة لنداء المنطقة الأولى وبالتالي فكّ الحصار على منطقة الأوراس، بتشتيت قوات العدو، والنزول بالثورة إلى الشارع لتصبح ثورة شعب لا ثورة نخبة من حزب الشعب، ومن ثمّة تأكيد استمرارية الثورة، وشموليتها المسلّحة لمختلف مناطق البلاد، وتفنيد مزاعم الاستعمار المدّعية بأنّ الثورة من عمل متمرّدين من منطقة الأوراس، فالهجومات رسالة إعلامية للمناطق الأخرى ليدرك القادة بأنّ الثورة ما تزال مستمرة، فيقوموا بدورهم بعمليات عسكرية مماثلة، نظرا لعزلة المناطق وصعوبة الاتصال بينها في هذه الفترة .