إنّ للتاريخ عظماء، ولالة زينب من عظماء التاريخ الجزائري في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
عرفت كيف تؤسـّس لثورة المعرفة
اِمرأة استطاعت أن تجمع بين عبق التاريخ القديم وتستلهم وهجها من نور النّساء الصالحات اللّواتي صنعن مع الرجل وهج الحضارة العربية الإسلامية، وأن تكون في الوقت ذاته امرأة عصرية بمفهوم الفكر التنويري للمعاصرة، مازجة بين العلم والعمل الاجتماعي، بين الدين والقيادة، بين السياسة الإدارية والسياسة الإنسانية كفنّ تعاملي يستقطب أفراد المجتمع.
ليس غريبا عن المرأة الجزائرية اليوم أن تكون في مراكز القوى وأن تصنع وجه التاريخ المعاصر، لكن ما كان لها أن تصل إلى ما وصلت إليه اليوم، إلا بفضل ما قدّمته الأمهات عبر الأجيال الماضية، من رحلة جهاد نحو بناء الرجال والمجتمعات، والنحت في الصخر لتحافظ على المكانة التي كرّمها بها الإسلام، مكانة راحت تتراجع في عصور الجهل والظلام بتراجع الحضارة العربية الإسلامية، تراجعا انعكس على قيمة هذا الكيان الخلاّق المبدع.. المرأة.
لقد عرفت المرأة الجزائرية بالمواقف البطولية التي ساندت الرجل في بناء الجزائر كدولة مستقلة، ساعدته في التحرير وصنعت معه الثورة في قلب الثورة، ففي ثورتها مع الرجل نحو الاستقلال/
كانت تتحرّر من قيود صنعتها المجتمعات في عهد انحطاطها، عرفت المرأة الجزائرية بجلدها وصبرها، وقدّم لنا تاريخ الجزائر المعاصر نساء نقشت أسماءهن بحروف من ذهب: حسيبة بن بوعلي، جميلة بوحيرد، وريدة مداد جميلة بوعزة وغيرهنّ..
وإذا رجعنا قليلا إلى القرن التاسع عشر، نجد نساءً عظيمات تميّزن بالإضافة إلى الجهاد والفكر التحرّري الثوري، بطابع القيادة والسياسة کفنّ وإدارة طبعن المجتمع الذي كنّ فيه، وتفوّقن فيه على الرجل الذي ساندهنّ، وكان معهنّ برهانا ودليلا قاطعا على قوّة وتأثير المرأة الجزائرية في المجتمع، وعلى رأس هؤلاء الفضليات اللائي صنعن تاريخ الجزائر الحديث/
وتميّزن بالقيادة والريادة، وحسن تسيير المؤسّسات الاجتماعية في القرن التاسع عشر، البطلة المجاهدة لالة نسومر 1863.1830م، التي أطلق عليها المؤرخ الفرنسي لوي ماسينيون، لقب “جان دارك جرجرة”، تشبيها لها بالبطلة القومية الفرنسية “جان دارك”، غير أنّها كانت ترفض ذلك اللقب مفضّلة لقب “خولة جرجرة” نسبة إلى خولة بنت الأزور المجاهدة التي كانت تتنكّر في زيّ فارس في صفوف خالد بن الوليد.
ومن أعالي جبال جرجرة إلى امتداد الصحراء، وتحديدا إلى مدينة بوسعادة التي أنجبت واحدة من أهم النساء الجزائريات التي وصل صيتها إلى مختلف البلدان والمناطق الإفريقية والأوروبية، وكتب عنها الباحثون والمستشرقون.. إنّها الولية الصالحة لالة زينب بنت الشيخ سيدي محمد بن أبي القاسم 1850-1904م”، التي تقول عنها إيزابيل ابرهاردت: “ربّما هذه المرأة التي تلعب دورا إسلاميا عظيما هي الفريدة في شمال إفريقيا”.
هذه المرأة التي صنعت وجها آخر لتاريخ الجهاد وبناء المجتمع الجزائري، بفضل دورها الحضاري والاجتماعي الريادي في زواية الهامل، فتميّزت ولالا نسومر بمركز القيادة وفنّ السياسة، وخروج المرأة كقائدة وزعيمة اجتماعية روحية صوفية، تشرف على إدارة وقيادة مؤسّسة اجتماعية روحية.
كانت من أعظم زوايا شمال إفريقيا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، هي زاوية الهامل لوالدها المؤسّس الشيخ سيدي محمد بن أبي القاسم، والتي تولت مشيختها لالة زينب بعده.
ووصفها الشيخ العاشور الخنقي، بقوله : السيدة زينب الولية الصالحة، الغرة الواضحة القارئة كتاب الله عزّ وجل، العالمة المتفقهة في الدين التفقه الأجل، ولله در صاحب الرسالة القائل: “المرأة الصالحة خير من ألف رجل”، فسارت في المقام سيرة والدها الرجل بالرجل والقدم بالقدم، مطبّقة وصية والدها في رسالة جاء فيها : وأنت يا ابنتي السيدة زينب فكوني بنية طيبة من أمور الدار والعيال؛ لأنّي جاعلك بدلا من نفسي، أسأل الله تعالى أن يجعل البركة فيك وأن تكوني من النساء الصالحات اللاتي قال فيهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: امرأة صالحة خير من ألف رجل غير صالح”.
كانت لالة زينب قائدة وإدارية، فقد تمكّنت من مشيخة الزاوية بعد أن توفي والدها، ولقيت دعما كبيرا من المجتمع الهاملي، فأهم ما يثيرنا في هذه الشخصية، كيف لهذه المرأة المعجزة أن تحتل تلك المكانة وتصل إلى مركز القيادة لمؤسّسة ذاع صيتها في الأقطار.
وكانت الإدارة الفرنسية تحسب لها ألف حساب.. شخصية أثبتت وجودها.. إنّنا نتحدث عن مجتمع صحراوي، في بيئة وعصر صوفي ديني له معالمه وتقاليده مع هذا كان أكبر دور ريادي للالة زينب دورها الاجتماعي والحضاري الذي دعمها فيه هذا المجتمع، إنّه الإعجاز حقّا! فكيف استطاعت هذه المرأة أن تقلب المعادلة وتضع معادلة جديدة في هذا المجتمع؟
لقد استطاعت لالة زينب، أن تكسب حبّ الجماهير، وأن تكتسب احترام الإدارة الفرنسية، فنالت الاحترام واستطاعت أن توازن المعادلة بين مجتمع مكافح ودولة محتلة، إنّها كانت تجاهد وتكافح وفق منظور قريب من غاندي، أيّ بالسلام والعلم والحضارة، راحت تبني مجتمعها بالعلم والتمسّك باللغة العربية وبالدين، أيّ بثوابت المجتمع الجزائري كمجتمع مسلم، كما راحت بفكرها القيادي تسير على نهج والدها الشيخ المؤسّس.
فقد كانت ذراعه اليمنى في جميع حاله وأحواله، ترافقه في حلّه وترحاله، وأشرف بنفسه على تدريسها، وبنائها كشخصية علمية دينية اجتماعية، راحت تدرّس النساء والرجال، وتخاطب العلماء في المجالس، وأوكل لها الشيخ المؤسّس السجلات التجارية والعقارية، فكانت على علم بجميع التفاصيل الداخلية والخارجية لواحدة من أهم المؤسّسات الاجتماعية الروحية شرقا ومغربا، وهي زاوية الهامل التي يراها المستشرق الفرنسي جاك بيرك، من أهم الزوايا قائلا : إنّ تاريخ زاوية الهامل يهم تاريخ شمال إفريقيا بأسره من حيث المجهود الذي بذلته بكلّ عزم في زمن الاستعمار، وذلك باستنهاض القيم الروحية والاجتماعية التي تقوم مقام ملجأ الناس.
إنّ سرّ وسحر الإعجاز في هذه الشخصية هو بناء الرجل لها، وهو الشيخ المؤسّس الذي كان يعدّها لهذا الأمر، كعلامة وبيان وبرهان على سير الشيخ المؤسّس مع تعاليم الدين الإسلامي في إعطاء المرأة دورها الحضاري والقيادي، ولالة زينب جمعت بين دور المرأة الرئيسي كأم، في بناء الأجيال.
فكانت أما للآلاف من الأطفال اليتامى والمساكين، وبين الدور القيادي الإداري والسياسي بامتياز، وما شهادات أربعة من الباحثين والعلماء والمؤرخين الذين عاصروها وشاهدوها وكتبوا عنها إلا وثائق تاريخية على هذا البعد الحضاري لهذه الشخصية.
تميّزت السيدة زينب، بالحضور القوي والشخصية الفذّة، فبالنظر إلى سمعتها الطيبة وإمكاناتها العلمية وقوّة شخصيتها، استدرجت العلماء من جميع أنحاء الوطن بل ومن خارج الوطن، فتوجّهت الوفود إلى الهامل قصد الوقوف على هذا المعلم الثقافي، ومعرفة ما يجري به، من ذلك أنّ الرحالة بول أودال وجّه الرّحال إلى زاوية الهامل متطلعا لمعرفة معقل من معاقل العروبة والإسلام، حيث تحفيظ القرآن، ودراسة الفقه، بإدارة سيدة خلفت أباها في رئاسة الزاوية.
ولمعرفة هذه الشخصية محاولا فكّ أسرارها.. أسرار الإنسان والمكان ناقلا ذلك في كتابه “صورة الجزائر أرضا وإنسانا”، فكانت زاوية الهامل إحدى أهم عناوين المكان، ولالة زينب إحدى أهم محاور الإنسان، واصفا لقاءه مع هذه الشخصية: ولم يكن من اليسير يومئذ لقاء سيدة متعلمة، أو ربما عالمة بالقرآن والفقه، وفضلا عن ذلك تنهض بمهام هي من طبيعة الرجال سهرا، تخطيطا ومتابعة، وإدارة اتصالات عامة ثقافية دينية وسياسية، مع سلطات الاحتلال ومساعديه وعماله، وعملائه أيضا.
وسلّط أودال الضوء على مشيخة لالة زينب للزاوية، ورئاستها لأحد أهم المعاهد الإسلامية الصوفية في ذلك العصر: “ لالة زينب لم تخلف أباها طمعا كسيدة من الأخوات المنضويات داخل سلم الأسرة من أجل المرتبة، لكنّها كانت قوّة مؤثرة بنفوذها، وتفرد لديها لا يضاهى”، فمصدر تلك القيادة نابع من شخصيتها القوية المؤثرة في مجتمعها، هو المجتمع الذي أثرت فيه وأثر فيها، مجتمع تميّزت فيه بالقيادة الروحية والفكرية والسياسية.
فقادت مجتمعها بقيادتها لمؤسّسة عتيقة، ومعهد رئيسي محوري، فسرّ هذه الشخصية نابع من ذلك الذوبان في شخصية والدها وذوبانها في مجتمعها، فاستمدت روحه القيادية النابعة من علمه وحبه وتواضعه لغيره، إنّها قوّة نابعة من الذات الفانية نفسها في خدمة مجتمعها، فأصبح المجتمع نفسه ذاتها التي تقويها، تبنيه فيبنيها، تقويه فيقويها تعلو به، فتعلو به ومعه.
ويواصل بول أودال، وصفه لشخصية لالة زينب قائلا: “إنّها ولية في الإسلام، فهي من أصل شريف، ورثت علم أبيها وكلّ سلطته الروحية، الأخوية القوية التي كان يسير بها الزاوية، فيحول ذلك دون المساس بها، لذلك فإنّ 500 أو 600 من المتحمّسين لها، هم الذين يلتفّون حولها، يجنّبونها أيّ رهق، فمحبة لالة زينب التي توطّدت لدى مريديها المخلصين لا تنضب أبدا. فياله من تلاحم وياله من ذوبان بين القائد والمريدين.. بين الزعيم الروحي ومحبيه”.
ومن ذلك أنّ وفدا رفيع المستوى من كبار المثقفين الفرنسيين قدم إلى الجزائر في رحلة الأربعاء 29 ديسمير 1897م إلى الهامل، يرأسه شارل دي غالان، فلنستمع إليه وهو يصف لالة زينب ويقول: “عند خروجنا من ضريح الشيخ محمد بن أبي القاسم، وجدنا أنفسنا أمام ساحة صغيرة عند أقدام الجدران العلية في مواجهة البوابة الرئيسية، حيث وقف الطلبة من ورائنا.. كان الضغط شديدا بسبب تجمّع الأتباع والإخوان.
لكنّهم كعادتهم بنظام وسكينة، فجأة فتح باب ذو دفّتين، وعند عتبته وقفت إمرأة مكسوة كاللؤلؤة، إنّها لالة زينب في ثوبها الناصع البياض وسط شعبها، وكأنّها ملكة أو راهبة، وسرت رعشة في الجماهير المحتشدة لتحيّتها ثم تلاها سكون مطبق.. وواصل دي غالان قائلا: “ اقتربت منها وقبّلت يدها، وقالت لنا: مرحبا بكم… وشعرت كأنّ روح الشيخ تنبعث من جديد في شخصيتها، وأنّ سلطته تحوّلت إليها وأنّ النور الأبيض الذي يظهر من يوم لآخر حقيقة ويمثل الإيمان الحيّ”.
وتقول إبزابيل في مذكّراتها بعنوان كتابات على الرمال: أمس رجعنا من الهامل نحو حوالي الساعة الثانية مساءً.. في كلّ المرات التي رأيت فيها “لالة زينب”، كان ينتابني إحساس بالتجدّد، وبالطمأنينة، وبسعادة لا أعرف لها سببا واضحا، لقد قابلتها أمس مرتين خلال الصبيحة،.
وكانت جدّ طيبة وجدّ لطيفة معي، وأبدت سعادتها لمعاودة رؤيتي.. قمنا بزيارة ضريح محمد بن أبي القاسم، الصغير والبسيط، في المسجد الكبير الذي سيكون رائعا عند انتهاء بنائه، ثم قمنا بالدعاء في الجانب المقابل لمدفن الحجاج المؤسّسين للهامل .. أسطورة حجاج الهامل تثير فيّ رغبة الحلم.. هذه المذكرات التي بدأتها هناك في أرض المنفى البغيضة، في أحلك فترات حياتي وأكثرها ألما وتماسكا، وأكثرها خصوبة بعذابات حياتي انتهت اليوم، كلّ شيء في داخلي تغير جذريا، منذ سنة، ها أنا من جديد على أرض إفريقيا المباركة التي لا أرغب في مغادرتها أبدا.. صمت ثقيل، صمت الجنوب يخيم على بوسعادة، بقينا في هذه المدينة النائية جدّا عن حركة التل، نحسّ بثقل الحركة المميزة للجنوب، فليحفظ الله بوسعادة كما هي إلى الأبد.
لقد اهتمت لالة زينب ببناء المجتمع فكريا وروحيا، كما اهتمت به اجتماعيا عن طريق البناء الاقتصادي، فكانت تهتم بالأراضي، كذلك كان لها عناية هامة كفنانة من طراز الأول بالفن المعماري، فأكملت بناء زاوية الهامل التي أسّسها والدها سنة 1862م، واستقطبت لذلك البناء المعماري التحفة مهندسين من شتى أنحاء العالم.
وخصّصت ميزانية خاصة للهندسة المعمارية ليكون هذا البناء دالا على الوعي الفكري للبناء الحضاري للأمة في مجتمع كان يعاني الاستعمار والجهل والفقر.. كانت شخصية فنانة ذات وعي وفكر حضاري بامتياز. فلقد بقيت في مكان الصدارة والإدارة زمنا، استطاعت خلاله إنجاز كثير من الأعمال الهامة، كإتمام مسجد والدها الذي يعتبر تحفة معمارية، وآية من آيات الفن الإسلامي، استهلك آلاف الفرنكات.
وقام عليه بناؤون من جنسيات مختلفة، ساهموا في إنجاز هذا المشروع الضخم الذي كان يعدّ – حسب ظروف المكان والزمان – مظهرا من مظاهر الروعة والجلل والغنى، ودليلا على عناية السيدة بالدين الإسلامي، وتخليدا لذكرى والدها الراحل، وقد تركه والدها على ارتفاع حوالي مترين، فواصلت المشوار بعزيمة وثبات، إلى أن تم البناء سنة 1904م.
ولقد تمكّنت لالة زينب، من ترك أثر محمود في ميدان الإرشاد والتعليم، وبقي المعهد في أيامها محافظا على سيره الدقيق، ورغم تنبؤات القائد كروشار أنّ ابنة الشيخ لن تستطيع وحدها تسيير الثروة الكبيرة، والأملاك الواسعة الموزعة على ثلاث عمالات، إلا أنّها سارت في فترة توليها (7 سنوات) على نفس نهج والدها.
فقدت شهدت الزاوية رخاء كبيرا، والثروة التي تركها والدها لم تتأثر، بل ازدهرت البساتين حول الزاوية، وبقي العدد الكبير من الزوار يؤمون الزاوية، ففي عهدها ظلّ المريدون يتوافدون على الزاوية من كلّ حدب وصوب، من متيجة ومنطقتي القبائل الكبرى والصغرى إلى عنابة من جهة الشمال، ومن جهة الوسط مرورا بأولاد جلال وبسكرة وتبسة إلى خط الجريد بتونس. نفطة، وتوزر، فقفصة، ومن الغرب جنوبي الونشريس إلى تلمسان وبالأخص السرسو والمهدية والسوقر وتيهرت ومعسكر وبعض نواحي وهران وتلمسان، والتعليم كان متواصلا وظلّ الناس يلتفّون حول لالة زينب، لما لمسوا فيها من تواضع وكرم وقوّة شخصية، كلّ هذا رغم الصحة المتدهورة للسيدة زينب والعدد الهائل من المحتاجين والمساكين (بضع مئات يوميا) الذين كانوا تحت كفالة الزاوية.
إنّ لالة زينب وجه مشرق في تاريخ الجزائر، يجمع بين منطق النساء المسلمات الصالحات اللواتي نقشن أسماءهن في صرح تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وبين المنطق الثوري في صورة جديدة، هي صورة البناء الحضاري للمجتمع، لأنّ البناء الحضاري للعقول وتحرير الفكر أقوى بكثير من تحرير النفوس وتحرير الأرض، فكم من مجتمعات مقيّدة لكنّها مبدعة، وكم من مجتمعات متحرّرة لكنها مقيّدة.