يصادف اليوم الـ13 من شهر نوفمبر، الذكرى الــ61 لحريق عامودا (مدينة تقع بمحافظة الحسكة بشمال شرق سورية).
هي محطة تاريخية خالدة تتجلى فيها أسمى مظاهر التلاحم ونضال الشعبين الجزائري والسوري ضد الاستعمار.
راح ضحية الحريق أكثر من 200 تلميذا في عمر الزهور، دفعوا حياتهم في سبيل تضامنهم مع الثورة التحريرية. هذه الحادثة المأسوية التي لم يسمع عنها أغلب الجزائريين من جيل اليوم، مازالت تسكن ذاكرة أهالي المدينة، من خلال ما حكاه من عايشوها ونقلوا شواهدها المؤلمة إلى أبنائهم وأحفادهم.
تضامن مع الثورة التحريرية
تقول بعض الشهادات الحية والمصادر التاريخية أن وقائع هذه الحادثة، تعود إلى دعوة هؤلاء الأطفال لمشاهدة فيلم سينمائي، إلا أن هذه التظاهرة المدرسية التي كانت ستوجه مداخيلها لدعم الثورة التحريرية تحولت إلى مأساة.
فخلال العرض الذي احتضنته سينما ”شهرزاد” في الـ13 نوفمبر من سنة 1960، اندلعت النيران في قاعة العرض، لتطال بعد ذلك ألسنة اللهب أجساد الأطفال المذعورين.
ضرورة توثيق النضال المشترك
وشبه أستاذ التاريخ بجامعة المسيلة، البروفيسور عبد الله مقلاتي الحادثة، بواقعة “ساقية سيدي يوسف”، واعتبرها “صفحة ناصعة من سجل التضامن السوري مع ثورة الفاتح من نوفمبر المجيدة، التي تبرز عمق وأصالة العلاقات الأخوية بين الشعبين ونضالهما المشترك ضد المستعمر، والتي يمتد تاريخها إلى عهد الأمير عبد القادر”.
يقول إن “التاريخ حافل بمثل هكذا مبادرات تضامنية سورية مع الثورة الجزائرية، ويمكن أن نذكر على سبيل المثال، أسبوع التضامن مع الجزائر الذي كان ينظم في شهر مارس من كل سنة في تلك الفترة والمؤتمرات الطلابية، فضلا عن الدعوة إلى مقاطعة البضائع الفرنسية عام 1961 وتجنيد الإعلام السوري نصرة للقضية الجزائرية، وكذا إقامة نشاطات ثقافية تعددت أشكالها واختلفت مظاهرها”.
ويؤكد البروفيسور مقلاتي، أن دعم الحكومة السورية للثورة كان مبكرا، إذ شرع فيه عام 1955 عبر إطلاق حملات التبرع بالمال والسلاح، التي شهدت مشاركة مختلف فئات الشعب السوري وتنظيماته الجماهيرية.
ويشير إلى أن الدعم الحكومي السوري للثورة التحريرية، تضاعف في عهد الرئيس شكري القوتلي، الذي اتخذ على الصعيد السياسي مواقف مساندة للقضية الجزائرية للتعريف بها دوليا.
ويضيف أن الدعم السياسي السوري للثورة، تجلي في مظاهر، أبرزها تبني القضية الجزائرية، وطرحها في الجامعة العربية، والمؤتمرات الأفروآسيوية، وهيئة الأمم المتحدة.
و لم تدخر سوريا جهدا في توفير الدعم الدبلوماسي للجزائر، لاسيما من خلال فتح سفاراتها لخدمة الجزائر، والتعريف بالقضية الجزائرية وطلب دعمها من الدول الشقيقة والصديقة.
من جانبه، اعتبر أستاذ التاريخ بجامعة غرداية، الدكتور أحمد جعفري، مأساة عامودا عنوانا لفتية وهبوا حياتهم فداء لثورة التحرير الجزائرية.
وبغض النظر عن الأسباب، فإن النتائج وبقدر عظمتها وجسامتها لم تنصف أولئك الأبرياء، ولم تخلد الحادث في سجلات التاريخ المشترك بين الشعبين.
وبحسبه، المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الباحثين والمؤرخين الجزائريين بالدرجة الأولى، وهم مطالبون بالبحث والاستقصاء أكثر عن الأحداث التاريخية التي لم تنل حظها إعلاميا.
ويذكر الدكتور جعفري، “أن حادثة سينما عامودا، لا تقل أهمية عن غيرها من الأحداث التاريخية الكبرى التي تعد جزءا من الذاكرة المشتركة للبلدين اللذين تربطهما الوشائج والأواصر الأخوية”.
ويقول : “يعلم السوريون ومثلهم الجزائريون أن البطل المجاهد الأمير عبد القادر الجزائري، اختار سوريا الشقيقة، منفى له دون غيرها وجعل منها بلده الثاني، لما وجد فيها من الترحاب والكرم والطيبة”.
ويشير إلى أن مسألة تخليد وإعطاء هذه الحادثة مكانتها التاريخية في النضال المشترك للشعبين، “دين في أعناق الباحثين والمؤرخين الجزائريين”.
وبخصوص دعم السوريين بشكل عام للثورة التحريرية، استشهد الدكتور جعفري بعبارة للراحل عبد الحميد مهري، قال فيها أن هذا الدعم “كان دائما وباستمرار ثمينا ومعتبرا”، أما بالنسبة للحكومة السورية يسجل لنا التاريخ تلك المواقف المشرفة للبرلمان السوري الذي عقد دورات خاصة لمناقشة القضية الجزائرية، عبّر فيها النواب عن تأييدهم لكل أشكال مساندة الثورة ماديا ومعنويا، واستنكارهم لممارسات الاستعمار الفرنسي.
و يضيف الباحث :”طالبت الحكومة السورية بتوفير الدعم المطلق للجزائر والتي يمثل استقلالها جزء لا يتجزأ من مشروع الوحدة العربية في تلك الحقبة. كما لا يختلف الموقف الشعبي والجماهيري عن الموقف الرسمي تجاه الثورة”.
فقد حمل الدعم السوري أشكالا متعددة كتنظيم المظاهرات المساندة والاحتجاجات الرافضة للممارسات الاستعمارية وتقديم المساعدات الطبية وتشكيل لجان تأييد مع ممثلي جبهة التحرير الوطني في سوريا، علاوة على جمع التبرعات والأموال.
وحسب بعض المصادر السورية، من بين الأطفال الناجين حسن دريعي، الذي أصبح من بين أشهر المحامين في سوريا، حيث سجل جزءا من شهادته على الحادثة في كتابه “عامودا تحترق” الصادر سنة 2005، إلى جانب كتاب “حريق سينما عامودا” لمؤلفه أحمد نامي والذي ترجمه من اللغة الكردية إلى العربية عبد القادر عكيد.
ويضاف هذان العنوانان إلى مجموعة من المؤلفات والمقالات والأعمال الفنية بالكردية والعربية التي تطرقت إلى الحادثة.
ويذكر أن حديقة عمومية، أنشئت في مكان الحادثة التي اختلطت فيها دماء أبناء الشعب السوري من كرد وعرب، مسلمين ومسيحيين.
وأصبحت الحديقة التي أطلق عليها اسم “حديقة الشهداء” على أنقاض سينما شهرزاد، متحفا تاريخيا مخلدا للواقعة الأليمة، يضم صورا للشهداء وأسمائهم، من بينهم محمد سعيد آغا الدقوري، الذي قيل أنه رجل شجاع، استشهد خلال تدخله لإنقاذ الأطفال أثناء الحريق، و تم تشييد نصب تذكاري بها لثلاثة أطفال يحملون العلم الجزائري تعانقهم النيران.
محمد علي علقمي