لا غرو أن يواكب فن المسرح- سواء على مستوى النصوص أو على مستوى العروض- الثورة الجزائرية فبين أيدينا بعض المصادر المسرحية التي تبرز صدى ثورة نوفمبر 1954 في المسرح الجزائري والعربي والعالمي.
كل هذه المصادر تستلهم حوادثها وتحاول تشخيص بطولاتها وقيمها فبالنسبة للمسرح الجزائري نشير إلى المسرحيات الآتية، وهي مسرحيات كتبت وعرضت إبان الثورة التحريرية.
مسرحية « الجثة المطوقة»(le cadavreencerclé) لكاتب ياسين « والتي نشرت أول مرة في مجلة (أسبري esprit) الفرنسية في ديسمبر 1954 وجانفي 1955.
وقد عرضت بمسرح موليير في بروكسل، يومي 25 و26 نوفمبر 1958 ثم بباريس في أفريل 1959، وهذا من طرف فرقة (جان ماري سيرو: jean mariserrou ) هذا الفنان الذي لعب دور لخضر».
ومن خلال هذه المسرحية التي تعد من بواكير المسرحيات التي تناولت الثورة الجزائرية، نجد « كاتب ياسين» وقد: « كشف أمام الرأي العام العالمي حقيقة مأساة الجزائر، لقد تغنى بالثورة والجزائر، ووصف حرب الإبادة التي شنتها فرنسا، عبر عن آلام وآمال الشعب بقوة لم يستطع أحد قبله ولا بعده أن يعبر بها»
مسرحية: «الباب الأخير» للأشرف مصطفى وهي تعد: «أول نص مسرحي جزائري نشر بتونس عن الثورة الجزائرية، صدر بمجلة الفكر خلال شهر جويلية 1957…وهذا النص كتب أصلا بالفرنسية، وأرسل به مؤلفه إلى هذه المجلة من سجن (لاسانتي) بباريس حيث كان معتقلا مع جملة زعماء الثورة الجزائرية… وقد ترجمتها أسرة المجلة».
ويعلق« سعد الله، أبو القاسم » على هذه المسرحية فيقول: « هي مسرحية تحمل سمات جديدة للواقع وللكفاح معا، إنها تصور الشعب الجزائري وقد تخلص من حيرته وبدأ يتحسس طريقه الشاق الذي يؤمن بأن اجتيازه لن يكون سهلا، والمسرحية تعطي الإشارة إلى بداية المعركة الفاصلة».
ونظرا لأهمية هذا النص فقد أنشأ الطلبة الجزائريون الزيتونيون فرقة مسرحية، وقاموا بتمثيل هذه المسرحية بإشراف صالح الخرفي.
مسرحية: « حنين إلى الجبل » للخرفي صالح، وهي مسرحية مقاومة، تصور في أربعة فصول وبأسلوب أدبي يمزج بين بلاغة النثر وسحر الشعر، تضحيات وبطولات الشعب الجزائري خلال الثورة التحريرية، كتبت هذه المسرحية بحسب إفادة المؤلف نفسه في 1957 وعرضت ضمن النشاط المسرحي للطلبة الجزائريين بتونس.
مسرحية: «مصرع الطغاة»، « للركيبي عبد الله »، وهي مسرحية نشرت في 1959 وفيها يستعيد الكاتب فجر الثورة التحريرية، فتصور المسرحية في أربعة فصول، اللقاءات السرية للقادة وتعطي صورة عن الوضع السياسي والاجتماعي العام السائد في الجزائر عشية انطلاق الثورة.
فتبرز يأس الشعب من السياسيين بسبب انقساماتهم، ومن ثمة استعداد عموم الشعب لخوض الكفاح المسلح بعد فشل النضال السياسي، وتقدم المسرحية مشاهد انطلاق الثورة وتبرز ذعر الاستعمار وانتقامه البشع وتختتم المسرحية بمشهد مصرع الطغاة وتحرير الوطن.
مسرحيات الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني: وهي الفرقة التي تأسست في مارس 1958 في المنفى بتونس بقيادة مصطفى كاتب وكانت تضم خمسة وثلاثين (35) عضوا موزعين على قسمين: قسم للمسرح وآخر للفنون الغنائية والرقص الشعبي.
ولقد تمثل النشاط المسرحي لهذه الفرقة في تقديم أربعة مسرحيات هي على الترتيب:
مسرحية: « نحو النور» أنتجت في ماي 1958 وهي من تأليف وإخراج مصطفى كاتب والعرض « عبارة عن لوحات من كفاحنا الخالد.
تبدأ القصة بمنظر شاب جزائري ألقي عليه القبض وعذب أشنع تعذيب، و زج به في السجن وهو في حالة تجعل المتفرج يتوقع موته من لحظة إلى لحظة، فتغمض عيناه وتقتحم خاطره صور من وطنه في شكل ذكريات عن فصول حياته وزفاف أخيه الأكبر وتنقلاته.
ومن خلال هذه المشاهد القصيرة، نشاهد معه نشأته وصباه فختانه.. ومن خلال هذه الحوادث العادية نعبر كل أنحاء الجزائر ونسمع أغانيها ونفتن بجمالها ونأسى بآلامها، ونزهو برقصاتها ونغماتها في عروض تتسم بالحيوية والألوان والتماسك والانسجام.
ويتطلع الفتى الجريح إلى المستقبل فنعيش معه بكل إيمان آلامه النبيلة، ويخرج من قلب لوحة (قرنيكة) المشهورة لبيكاسو رمز المغرب الكبير مكللا بالزهور، فيترك هذا المنظر أكثر من أثر في نفوس المتفرجين.
مسرحية: « أبناء القصبة » أنتجت في 1959 وهي من تأليف عبد الحليم رايس وإخراج مصطفى كاتب هذه المسرحية جسدت عظمة الثورة التحريرية، وشخصت صورة التضحيات والقيم البطولية التي بذلها الشعب الجزائري من خلال هذه العائلة.
فلكأن كل فرد منها يمثل بطولات شريحة كاملة… فمسرحية (أبناء القصبة) ليست مجرد حكاية عائلة تحملت ثقل الثورة التحريرية، وشاركت فيها، بل إنها حكاية وطن يتلمس طريقه وسط ليل الاستعمار حالما بفجر الحرية وشمس الاستقلال.
مسرحية: « الخالدون » أنتجت في أفريل 1960 وهي من تأليف عبد الحليم، رايس وإخراج مصطفى كاتب، تصور مشاهد حية من قلب المعارك التي يخوضها جيش التحرير الوطني، حيث كانت خير تعبير عن هذا الجانب النضالي من ثورة نوفمبر المجيدة، فسلطت الأضواء على الأحداث التي كانت تعيشها الثورة وعكست جانبا من واقع الجزائر الملتهبة.
مسرحية « دم الأحرار»: أنتجت في 1961 وهي من تأليف عبد الحليم رايس وإخراج مصطفى كاتب جسدت القيم والمبادئ العليا لثورة التحرير الجزائرية، معاناة المجاهدين في الجبال أيام المقاومة المسلحة، وتلاحم الثوار في العيش وفي الأهداف.
تدور أحداث المسرحية في الجبل بمعقل مجموعة من الثوار، احترام المجاهدين لبعضهم البعض والتعايش فيما بينهم، و قناعة الثوار بالاستمرارية الثورية إلى غاية استرجاع السيادة الوطنية.
المسرحيات الإذاعية: التي كانت تبث عبر أمواج الإذاعات العربية وخاصة من تونس والقاهرة، و كان للثورة فضل كبير على المسرح.
إذ أحدثت الوثبة التي نقلته من مرحلة الهواة إلى مرحلة الاحتراف عبر مشوار طويل وعسير كانت فيه بعض العواصم العربية أهم محطاته ابتداء من تونس، وانتهاء بالقاهرة اللتين فتحتا الأثير للمسرحيات الثورية عبر البث الإذاعي.
ونشير إلى أن موضوع الثورة التحريرية استمر حضوره في المسرح الجزائري بعد الاستقلال مثلما نجد ذلك عند « نور الدين، عبة» في « استراحة المهرجين » و هي مسرحية تعالج قضية تعذيب واستنطاق الجزائريين من طرف الجلادين المحتلين أيام الثورة التحريرية.
و مسرحية « احمرار الفجر » من تأليف، آسيا جبار واقتباس وليد غارن وإخراج مصطفى كاتب في 1969، تعالج مشاركة المرأة الجزائرية في الثورة التحريرية، والتمرد على الاحتجاب في البيت وتفضيلها، الالتحاق بالثورة التحريرية، على أن تبقى حبيسة البيت تتعرض للكآبة والقلق.
و إلى اليوم مازلنا نقرأ ونشاهد مسرحيات جزائرية تصور الثورة التحريرية وتستلهم حوادثها وقيمها، ومع ذلك فإن عظمة الثورة التحريرية مازالت تجل عن الوصف والتصوير فقد ظل الأدب الجزائري دون مستوى نوفمبر.
صدى الثورة في المسرح العربي:
وفيما يخص تفاعل المسرح العربي مع ثورة التحرير الجزائرية، فإنه ما لا شك فيه أن الثورة الجزائرية كانت من أكبر الثورات العربية التي حفزت وجدان المبدعين العرب مشرقا ومغربا، وفجرت أعماقهم، واستقطبت اهتمامهم، فاستلهموا أحداثها في الكثير من إبداعاتهم.
ويبدو أن رمزية الثورة الجزائرية تجسدت في المسرح العربي من خلال رمزية البطلة الأسطورة جميلة بوحيرد، ولذلك نجد قصتها وصمودها وتحديها للاستعمار وزبانيته هي أكثر ما استهوى المسرحيين العرب الذين كتبوا عن الثورة التحريرية، وفي هذا المجال يمكن أن نذكر المسرحيات الآتية:
مسرحية « البطلة» للكاتب التونسي محمد فرج، الشاذلي.
مسرحية« جميلة» للكاتب الليبي عبد الله، القويري.
والمسرحيتان منشورتان بمجلة « الفكر » التونسية، بمناسبة إصدار المجلة لعدد خاص عن المسرح وتتناولان موضوعا واحدا هو موضوع إسهام المرأة الجزائرية في الثورة، ومشاركتها الفعالة في النضال الوطني الجزائري، وتفردها بالبطولة في بعض المواقف.
مسرحية: « جميلة » للأديب السوري الأصل والجزائري الجنسية عبد الوهاب حقي.
وهي مسرحية تمجد الثورة الجزائرية وتشيد بنضال جميلة بوحيرد وصمودها الأسطوري، كتبت وعرضت بإخراج الكاتب نفسه إبان الثورة التحريرية إذ قام بأداء أدوارها فرقة « أصداء المسرح » في مدينة دير الزور بسوريا الشقيقة.
وطافت هذه المسرحية في العديد من المحافظات السورية، ومنح ريع مداخيلها إلى جيش التحرير الجزائري كتعبير عن تضامن الشعب السوري مع الثورة الجزائرية.
مسرحية « جميلة » للشاعر المصري كامل، الشناوي.
وهي أوبريت تصور بطولة المرأة في كفاحها من أجل تحرير الجزائر، يستحضر الشاعر شخصية جميلة، بوحيرد، ويبرز بشاعة التعذيب الذي لقيته حتى تبوح باسم قائد الفدائيين.
ورغم أن القائد يرسل إليها رسالة يطلب فيها أن تبوح باسمه لأن الفرنسيين لا يعرفونه ولن يهتدوا إليه، إلا أنها ترفض الرضوخ لمطلب جلاديها وتفضل الصمود والتحدي وتختتم الأوبريت بحوار رائق بين جميلة وقائدها باسل إذ تتصوره أمامها يحدثها وتحدثه.
ومن الواضح مثلما ذكرنا آنفا تركيز المسرح العربي على شخصية جميلة بوحيرد واقعا ورمزا وأسطورة ولاغرو في ذلك فهي شابة ثبثت للمحن والأرزاء بعزيمة، وتحمل لكل ما أفتن فيه السجانون من وحشية وقسوة، وهي بعد في ربيع العمر ونضارة الزهر.
فأذلت بثباتها، وقوة يقينها وحبها لوطنها الغشوم، وكانت رمزا للفتاة العربية المسلمة في جلدها وإيمانها وتضحيتها حتى صار ذكرها على كل لسان مثلا شرودا في البطولة والفداء.
مسرحية « مأساة جميلة» للكاتب عبد الرحمان الشرقاوي
وهي مسرحية من الشعر الحر كتبت ونشرت نصا في 1961، قبل أن يتم عرضها من طرف فرقة المسرح القومي المصري في موسم 1962 وهي من إخراج الفنان حمدي غيث.
تصور المسرحية مأساة البطلة الجزائرية جميلة بوحيرد، وتروي كيف اعتقلها الفرنسيون بعد أن ضبطوها وهي تشترك اشتراكا فعليا في النضال الجزائري المسلح، ثم تروي قصة تعذيبها بقصد إرغامها على كشف أسرار زملاء النضال.
ولكنها ترفض ذلك كل الرفض، ثم تروي القصة حكاية محاكمة جميلة، وكيف كانت صامدة كل الصمود في المحكمة.
وصفوة القول فإن، الفضاء المسرحي العربي احتضن الثورة الجزائرية وعبر عن حوادثها وبطولاتها ومثلما صهرت الثورة جهود الكتاب والشعراء من مختلف الأصقاع وخاصة كتاب المغرب العربي الذين كانوا في طليعة من اعتبر الثورة الجزائرية ثورته، وقضية الشعب الجزائري قضيته الشخصية وقضية المغرب العربي بأسره.
فقد كان فعل هذه الأحداث واحد بالنسبة لكتاب المسرح، و رأينا بعض التونسيين والليبيين يشاركون ببعض النصوص في التعريف بالثورة ونضالها جنبا إلى جنب مع كتاب الجزائر.
ويسهمون بذلك في إرساء أسس المسرح الثوري الذي كانت الثورة آنذاك بحاجة إليه، وكانت تعتبره إحدى الوسائل الفنية الفعالة للتعريف بها على أوسع نطاق.
تمجيد الثورة في مسرحية الستارات
إن صدى ثورة نوفمبر 1954 لم يقتصر فقط على المسرح الجزائري والعربي، بل شمل المسرح العالمي أيضا ومنه المسرح الفرنسي تحديدا، فقد ألف الكاتب جان جينيه مسرحية « الستارات » عن الثورة الجزائرية.
وأخرجها روجيه بلان وعرضها في صالة الأوديون، سنة 1966 ومنذ أول يوم لعرضها أحدثت هذه المسرحية ضجة سياسية عنيفة ليس لأن الكاتب جان جينيه راح فيها يمجد الثورة الجزائرية، ولكنه أكثر من ذلك راح يسخر من الجيش الفرنسي.
ففي المسرحية مشهد يقوم فيه العسكريون المحتلون بإحياء جنازة رفيق مات في الحرب، وأثناء الجنازة، (يضرطون) على وجهه ليتنسم آخر نفس من هواء بلاده.
لقد كان هذا المشهد صادما، وهو ما جعل بعض المشاهدين من أعضاء منظمة الجيش السري التي شاركت في حرب الجزائر، يقومون باحتلال المسرح ومنع متابعة المسرحية منادين بالموت لجان جينيه وعلى الرغم من تدخل وزير الثقافة الفرنسي أندريه مالرو لصالح المسرحية ودفاعا عن جينيه.
إلا أن عرض المسرحية لم يستمر سوى ثلاثة أسابيع وقدمتها غالبية العواصم العالمية لأشهر عدة مع حذف بعض المشاهد.
وتنقسم مسرحية «الستارات » إلى أربع مراحل، تصور في المرحلة الأولى حياة سعيد رفقة زوجته ليلى في فقر وبؤس تحت ظل الاحتلال الفرنسي.
وفي المرحلة الثانية، تتناول المسرحية صراع سعيد ضد إدارة الاحتلال، التي حولته إلى لص خارج عن القانون، ومنبوذ من طرف الجميع، وقبل أن يتم القبض عليه، ويلقى مع زوجته في السجن.
وفي المرحلة الثالثة فإن الكاتب جان حينيه يخصصها لاندلاع الثورة التحريرية، و نرى أهل القرية يقبلون على بيت الشهيدة خديجة ويتلقون من وحي روحها الدعوة للانخراط في الثورة ودعمها ومساندتها.
فيروي كل واحد منهم صراعه ضد المحتلين بطريقة رمزية، وفي مواقف درامية تبرز انتشار الثورة في ربوع الوطن وفي المرحلة الرابعة تصور المسرحية انتصار الثورة وطرد الاحتلال، وبالتالي ولادة عهد جديد.
وإذا كنا سنكتفي بذكر هذا النموذج المسرحي، فإنه من الواجب أن نشير إلى حضور الجزائر تاريخا وثورة وفضاء حضاريا واجتماعيا في الأدب العالمي، لقد أنتج الكتاب الأوروبيون أدبا كثيرا صاغوه من وحي الجزائر… ومن نافلة القول أن نعلن بأن ما كتبه هؤلاء عن الجزائر يفوق بكثير ما كتبه الجزائريون عن أنفسهم أضعافا مضاعفة.
وخلاصة القول أنه ثمة تراكم مسرحي جزائري ـ بالعربية الفصحى وبالدارجة وبالفرنسية ـ وعربي وعالمي، تفاعل مع الثورة التحريرية الجزائرية.
فواكبها وتفاعل معها ممجدا لتطلعاتها وقيمها ومقاوما للاستعمار، وذلك انتصارا لروح الرفض، نظرا للطبيعة التفاعلية بين المسرح والمقاومة.
إذ يكاد مسرح المقاومة أن يكون شكلا مستقلا من أشكال التعبير الدرامي … والمقاومة في ذاتها صراع بين قوتين، لهذا كانت بطبيعتها خامة درامية.
وإنه مهما يكن المستوى الفني لذلك التراكم المسرحي، بحكم طابعه المناسباتي وإمعانه في الواقعية التسجيلية وسرعة إنتاجه لارتباطه بالدعاية للثورة ودعمها ومناصرتها، مهما يكن ذلك كله فإن تلك المسرحيات قد حاولت تصوير الثورة الجزائرية في لوحات فنية.
وإن كانت لا تفي عظمة حوادث الثورة وقيمها الخالدة، إلا أنها تحاول أن تسجل حضور الثورة في التعبير المسرحي، وهذا في انتظار الكاتب الفذ الذي يسمو بثورة نوفمبر 1954 إلى مستواها الحقيقي كملحمة شعبية خالدة.
لقد لاحظنا من خلال دراستنا للإنتاج المسرحي الجزائري المتفاعل مع الثورة التحريرية أن هذا المسرح قد تحدى أسوار الحصار التي أقامها الاستعمار حوله، فكانت هجرته إلى الخارج هروبا بمشهد الثورة وصوتها.
ما جعل قيادة الثورة تعتمده سفيرا مفوضا مكلفا بمهمة التعبير عن الثورة التحريرية للرأي العام العالمي، وذلك من خلال إنشاء الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني بتونس.
وسواء أكان هذا النشاط المسرحي تحت مظلة الجبهة أم خارجها، فقد انعكست الثورة فيه، وتجاوز ما تنقله المرآة المسطحة بواقعية والتزام، إلى ما تصنعه المرآة المقعرة حيث تجمع خيوط الضوء وتركزها وتشعها من جديد أكثر تركيزا وقوة ووضوحا.
فكان مسرحا يشع الثورة، إذ تشعه ويخلقها إذ تخلقه، مثلما لاحظنا أن كثيرا من النصوص المسرحية المقاومة والتي تعود إلى فترة الثورة التحريرية، أو قبلها قد ضاعت، وهي في حاجة إلى من يبحث عنها وينشرها مثل مسرحية ” الحاجز الأخير” ” لمصطفى الأشرف، وعديد المسرحيات الإذاعية التي تشكل تراثا وطنيا هاما له علاقة مباشرة بذاكرة الأمة في لحظات فارقة من تاريخها.
إن المسرح الثوري الجزائري الذي حاول تشخيص ثورة أول نوفمبر 1954 قد قاوم الاستعمار باستعمال اللهجة الشعبية الدارجة وباللغة العربية الفصحى وباستعمال اللغة الفرنسية.
وقد سمح له هذا التنوع في لغة الحوار من مخاطبة شرائح واسعة من الجمهور.
فتمكن بذلك من إيصال مشهد الثورة وصوتها إلى أبعد مدى، كما أن الواقعية هي أهم ما طبع المسرح الجزائري المواكب والمعبر عن الثورة التحريرية. فتجلت حقيقة الثورة وشمولية الصراع من أجل انتزاع الحرية والاستقلال حتى أننا يمكن أن نعتبر تلك المسرحيات وثائق تاريخية تكشف حقيقة الثورة وقيمها.
لكنها واقعية متفائلة بحكم ارتباط هذا المسرح بوظيفته السياسة في الدعاية للثورة وتمجيدها ومناصرتها، ونتيجة ذلك يمكن أن يمتلأ الكاتب بالحماس الوطني الفياض، فيبادر إلى حسم الصراع لصالح الثورة وتبرز النبرة الخطابية في المشاهد.
غير أن بعض المسرحيات تجاوزت مثل هذه الهنات، وعلى العكس من ذلك استطاعت أن تبلغ مستوى فنيا عالميا راقيا امتزجت فيه قوة الرمز مع قوة الخطاب دراميا وشعريا وملحميا.
إن الإبداعات المسرحية الجزائرية التي واكبت الثورة التحريرية، وعبرت عنها قليلة جدا قياسا مع التراكم الشعري والقصصي، غير أن هذه النماذج القليلة استطاعت أن تعكس حقيقة الثورة وأن تشخص عمق الصراع بأشكاله المختلفة.