إلتفت طبقة التجار والعمال الجزائريين حول الثورة ملبين نداء جبهة التحرير الوطني بتنظيم إضراب شامل مدة ثمانية أيام، وكان هذا الإضراب محطة مفصلية في مسار الثورة.
كان للإتحاد العام للعمال الجزائريين والإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، إضافة إلى إتحاد التجار، دور بارز في تنظيم قطاع النقل، البريد والمواصلات والمصالح البلدية والأسواق وغيرها لإنجاح الإضراب،الذي أبطل مزاعم فرنسا بأن من يقود الثورة مجرد قطاع طرق ولصوص، وتبن لهم الخبر اليقين بأن الجزائريين داعمين لجبهتهم الشرعية المكافحة من أجل نيل الحرية.
إضراب الثمانية أيام التاريخي كان انتصارا للقضية الجزائرية في المحافل الدولية، وتكريسا لحق جبهة التحرير الوطني في تمثيل الثورة في الداخل والخارج.
لانجاح الإضراب دعت جبهة التحرير الوطني كافة المناضلين إلى مباشرة الدعاية لهذا الحدث، وإعداد العدة، وقصد شل الحركة من العاصمة طيلة المدة المحددة أي طيلة ثمانية أيام من 28 جانفي إلى 04 فيفري 1957، أعلم السكان بقرار الإضراب.
وفي هذا الصدد عملت اللجان المختصة على مستوى العائلات المحتاجة لتزويدها بالمواد الغذائية والإعانات المالية وغيرها من المساعدات.
يؤكد المرحوم ياسف سعدي، في شهادته، أن عبان رمضان، التقى العربي بن مهيدي، وأخبره بقرار تنظيم الإضراب وكلف بعدها بالتحضير له وسط العاصمة، بالقصبة، واختير بيت للإلتقاء بالجماعة، التي عينت لتنفيذ قرار الجبهة، وكان المتحدث احد منظميها، فكلف بمهمة تنظيم الإضراب على اعتبار أنه يعرف العاصمة جيدا بكل أزقتها وأحيائها.
ويضيف: “هنا كان لابد من تحديد من يقوم بالإضراب… فاتفق على أن يكون بالمدن الكبرى، واختيرت العاصمة باعتبارها تضم أكبر كثافة سكانية.. لتبدأ أصعب خطوة وهي إقناع 80 ألف ساكن أو أكثر بالاستجابة للإضراب”.
10 ملايين فرنك فرنسي لتأمين الأكل للعائلات الجزائرية
ويشير ياسف سعدي الى أنه قصد إنجاح الإضراب سلمه العربي بن مهيدي، مبلغ 10 ملايين فرنك فرنسي لتأمين الأكل للعائلات الجزائرية في فترة الإضراب.
و على الصعيد العسكري، أعطيت الأوامر لجيش التحرير الوطني بتكثيف عملياته عبر كامل التراب الوطني، ومع اقتراب الموعد وزعت كل ولاية مناشير تحدد تاريخ بداية الإضراب ونهايته، ووجهت نداءات بالإذاعة السرية “صوت الجزائر المكافحة” في أول بث لها في ديسمبر 1956، وتعدت الدعوة تراب الجزائر فوصلت تونس والمغرب وفرنسا لإنجاح هذا الإضراب.
فنانات ساهمن في الإضراب
يروي ياسف سعدي: “أتذكر الممثل المسرحي رضا حبيب، الذي كان يشتغل بالإذاعة يومها فاستنجدت به وكلفته بإحضار الفنانات اللواتي يشتغلن معه أمثال فضيلة الجزائرية، قوسم عويشة، للقيام بإحصاء العائلات الفقيرة، التي كان علينا تأمين المؤونة لها أيام الإضراب”.
وفي هذا السياق، برز دور الإتحاد العام للعمال الجزائريين، والإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، إضافة إلى إتحاد التجار في تنظيم قطاع النقل، البريد والمواصلات والمصالح البلدية والأسواق وغيرها.
انطلق الإضراب في اليوم المحدد رغم التهديدات، التي سبقته من قبل السلطات الإستعمارية، وتحولت المدن النشيطة إلى مدن مشلولة، توقفت حركة النقل، التجارة والفلاحة والتعليم والإدارة لمدة أسبوع كامل.
هدوء ثم مكبرات صوت..
وخيّم صمت رهيب على المدن في صباح ذلك اليوم من تاريخ الـ28 جانفي 1957، ولم يعكر صفو هذا الصمت سوى مكبرات الصوت، التي كان المستعمر يستعملها لإفشال الإضراب، وتوالت الأيام الثمانية والصمت لا يزال يخيم على المدن بالرغم من تكثيف دوريات العدو للأعمال الإجرامية الوحشية، لم يشمل الإضراب أصحاب المتاجر والموظفين والعمال بل تعدي إلى جماهير الجزائريين، التي قاطعت متاجر المستوطنين القليلة التي فتحت فقد رفض الجزائريون أن يشتروا من المحلات المفتوحة التابعة للمتسوطنين الأوربيين.
تحدثت صحيفة “العامل الجزائري” في عددها 13 الصادر يوم 26 جانفي 1957، عن الإضراب، وصودرت أعدادها كلها باستثناء العدد الأول جاء فيه حول الإضراب: “الطبقة العاملة تشن إضرابا عاما لمدة 8 أيام بمناسبة مناقشة القضية الجزائرية في الأمم المتحدة “.
وصدر نداء الإضراب العام على صدر الصفحة الأولى بعنوان”المعركة الكبرى” جاء فيه: “إن العمال الجزائريين بمختلف فئاتهم شأن جميع المواطنين، لفخورين باستحقاق الإعجاب العالمي والتضامن الدولي، إنهم يدركون جيدا الأهمية القصوى لهذا الهجوم الدبلوماسي والسياسي”
وتضيف: “المطلوب أولا تزكية جبهة التحرير الوطني كناطق وحيد بإسم جيش التحرير الوطني وكقائد للثورة الجزائرية المظفرة. ثانيا دعوة الأمم المتحدة للضغط على حكومة باريس من أجل قبول وقف إطلاق النار مع الإعتراف بحقنا في الإستقلال الوطني، لكل هذا يخوض العمال الجزائريون الأقوياء بالوحدة الوطنية عبر الجزائر المكافحة كلها المشجعون بالتضامن الدولي النشيط، والمؤمنون بالنصر القريب، يخوضون بشجاعة هادئة معركة الأمم المتحدة الكبرى، التي سيحدد تاريخها قريبا”.
بن يوسف بن خدة عن نتائج هذا الإضراب: “نجاح الإضراب بشهادة الصحف الفرنسية، فصحيفة “لوموند” الفرنسية كتبتها في عددها الصادر يوم 29 جانفي 1957 تصف الإضراب بالعاصمة :”سكون مؤثر يخيم على مدينة خالية “.
وقدرت مجلة” فرانس أوبسرفاتور “الأسبوعية نسبة نجاح الإضراب 99 بالمائة، حيث شكل هذا الإضراب ضربة قاسية لمقولة الجزائر فرنسية، وأكد على وحدة الجزائريين، وبذلك انضم الجزائريون إلى جبهة التحرير الوطني جماعيا، وجمدت الفرقة العاشرة للمظليين وانتهت الجمهورية الرابعة الفرنسية يوم 13 ماي1958، أي بعد عام من الإضراب.
في اليوم الثاني قام حوالي 10 آلاف جندي من الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال ماسو، بكسر أبواب المحلات التجارية وإتلاف ما فيها وأرغموا الجزائريين على العمل، واعتقلوا بعشوائية الرجال والنساء، وأصبحت المدينة تعيش معركة حربية حقيقية، ورغم كل هذا استمر الإضراب.
الإضراب في الصحف العالمية
وتداولت الصحف العربية والعالمية نبأ الإضراب، كتبت جريدة “الصباح التونسية” في مقال بعنوان :”إضراب عام بمدينة الجزائر، الجيش يحاصر الأحياء العربية والطائرات العمودية تحلق فوقها “، جاء فيه ما يلي :” قام أصحاب الدكاكين العربية بالعاصمة الجزائرية منذ صبيحة الأمس بإيصاد أبواب محلاتهم، وقد احتشدت قوات كبيرة من الجند بالحي العربي، وأخذت الطائرات العمودية تحلق فوق الأحياء العربية و قامت قوات الشرطة والأمن بتنظيم حملات تفتيش واسعة النطاق بالعاصمة الجزائرية”.
في دراسة للدكتور جيلالي تكران من جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف حول انعكاسات الإضراب على تطور الثورة الجزائرية، يؤكد الباحث أنه حسب التقارير السرية المنشورة شهري جانفي وفيفري 1957، الإضراب عرف نجاحا في يومه الأول بتعاون التجار والحرفيين الجزائريين، وتراجع بشكل محسوس في اليوم الثاني، وأن الحياة بدأت تعود إلى مجراها شيئا فشيئا، لكن الخوف كان باديا على كل الوجوه سواء المستوطنين الأوروبيين أو الجزائريين، وكشف التقرير أن الإضراب أفشلته قوات حفظ الأمن بفضل تدخلاتها وتفكيك المضربين داخل المدن، وذكر التقرير أن الإضراب هدد المستعمرة مدة شهر كامل.
وكتبت التقارير توضح متابعتها لهذا الحدث قبل وبعد حدوثه، ومن بين استعدادات جبهة التحرير الوطني فقد كان الإهتمام منصبا على الدعاية والإعلام، وفي هذا الإطار أنشئ سلك المحافظين السياسيين إلى جانب الإستعلامات الأخرى، قام هذا الجهاز بدور هام في التوعية والتعبئة والتفاف الجماهير حول الثورة، ومقاومة الحلول الجزئية والانهزامية التي كان العدو يروج لها.
وكشفت التقارير مخاوف فرنسا من تفوق جبهة التحرير الوطني عليها في الحقل السياسي، حيث كذب الإضراب ما ادعته فرنسا بأن العمليات العسكرية، التي يقوم بها جيش التحرير الوطني مجرد عمليات للصوص وقطاع الطرق.
يقول الباحث: “الشئ الذي اكتشفناه في التقارير الفرنسية هو الجهل الكلي للمدة، التي يستغرقها الإضراب العام عبر كامل التراب الوطني، وهي نقطة أربكت الأجهزة الأمنية، أظهر الإضراب مدى تمسك الجزائريين والتفافه بجبهة التحرير الوطني، جعل الإضراب وسيلة لمعرفة مدى تجنيد الشعب الجزائري وتمسكه بثورته”.
لاحق الإستعمار الفرنسي النقابين والعمال المتعاطفين مع الإتحاد العام للعمال الجزائريين، ففي حصة صوت العرب ليوم 20 فيفري 1957، نشرت الإذاعة المصرية نداء لمكتب جبهة التحرير الوطني بالقاهرة يطلب من الجزائريين الوقوف مع الإتحاد العام للعمال الجزائريين، ومساندته باعتباره النقابة الوحيدة التي فهمت العمال وتطمح نحو تحقيق الإستقلال المنشود.
الخوف من تصعيد الوضع دفع قوات الجيش الفرنسي بتنشيط معاقل الثوار، في فيفري 1957، جاء في تقرير هذا الشهر استشهاد 1261 مجاهدا عبر الوطن، بينما أعلن تقرير جانفي عن استشهاد 842 مجاهدا، هذا ما أثار خوف المستوطنين.
لقد تفننت الإدارة الإستعمارية في سجن واعتقال وتعذيب الجزائريين من عمال ونقابين من قبل المظليين، تجاوزت كل القوانين والأعراف الدولية في التعامل مع المعتقلين واستنطاقهم للوصول إلى قادة الثورة، وتعرض مؤسسو الإتحاد العام للعمال الجزائريين إلى تعذيب شنيع، وعلى رأسهم عيسات إيدير الذي نكل بجسده إلى درجة الحرق حتى الموت.
وحسب تقارير الإدارة الإستعمارية، قتل حوالي 100 ألف جزائري أثناء الإضراب وبعده. وتفيد المصادر الجزائرية بقتل 400 ألف جزائري.
وحسب تقرير البعثة الدولية التي زارت المعتقلات والمحتشدات وتفتيشها، نتيجة لما لاحظته من تعذيب مفرط بواسطة التيار الكهربائي والشنق في حق المساجين لانتزاع منهم الاعترافات، أشارت إلى أن هناك جنودا فرنسيين قد اعترفوا بممارسة التعذيب بأشكاله في حق المضربين.
التزام الجزائريين داخل البلاد وخارجها بتعليمات قيادة جبهة التحرير الوطني، مكنت من إحداث الصدى الإعلامي الدولي، وتعزيز موقف الوفد الجزائري لدى الأمم المتحدة، بالرغم من كل محاولات المستعمر الفرنسي لكسر الإضراب باستعمال كل أشكال العنف.
المجاهد غفير: جاليتنا بفرنسا شلت إقتصاد العدو
لم يقتصر الإضراب على الجزائريين في الداخل، بل أن العمال الجزائريين في المهجر وبالتحديد في فرنسا شاركوا في إضراب الثمانية أيام تنفيذا لتعليمات لجنة التنسيق والتنفيذ.
في هذا الصدد يؤكد المجاهد محمد غفير، المدعو موح كليشي، عضو في فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا والذي عايش إضراب الثمانية أيام، أن هذا الأخير كان تجسيدا فعليا لبنود مؤتمر الصومام الذي حث على ضرورة تفعيل الدعم الشعبي وتوظيفه لمساندة الثورة.
ويضيف لـ” ذاكرة الشعب”، أن الإضراب في عقر دار العدو نجح وشل الإقتصاد الفرنسي.
ويروي محدثنا تكليفه لمجموعة من المناضلين بتوزيع المناشير ودعوة الجزائريين للإضراب، تنفيذا لأوامر عبان رمضان الذي أرسل محمد لبجاوي، وصالح لوانشي، أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية ومسؤولين عن الفيدرالية، للتحضير للإضراب بفرنسا والتوقف عن العمل بالمصانع الفرنسية وإلتزام المنازل،حيث استجاب له العمال الجزائريون.
يقول غفير: “يصفتي مسؤول بمنطقة شمال باريس عن مقاطعة كليشي، بفرنسا تسلمت وثيقة تشرح أسباب وأهداف الإضراب، ليلة الـ 26 جانفي قمنا بتوعية الجالية لتحضير أنفسهم “.
وقد نجح الإضراب بفرنسا حسب شهادة موح كليشي، حيث ساهم في انخراط العديد من الجزائريين الذين كانوا مترددين في البداية، ودفعوا اشتراكاتهم.
وكان رد فعل السلطات الفرنسية كالعادة القمع ومطاردة المناضلين الذين وصفتهم بالخارجين عن القانون، حيث استقدمت حوالي 100 ألف جندي من الجزائر للقضاء على الثورة في الولاية السابعة (فرنسا).