الشيخ العربي التبسي، من رجال الإصلاح في الجزائر أثناء الحقبة الإستعمارية شهيد بلا قبر.
قال عنه الشيخ البشير الابراهيمي: “ان هذا الرجل هو رجل أمة وليس رجل بلدة وهو رجل عظيم”.
الرابع أفريل 1957 ذكرى استشهاد رجل الإصلاح الشيخ العربي التبسي، الذي إختطفته أيادي الإجرام الفرنسية من منزله ولم ترحم كبر سنه ومرضه، وأخذته إلى مكان مجهول أين عذبته وأذابت جسده في الزيت المغلي على درجة حرارة قصوى.
في هذا الصدد، يقول البروفيسور حسان مغدوري، أستاذ التعليم العالي بجامعة الجلفة لذاكرة “الشعب” : ” تاريخ الشهيد الشيخ العربي التبسي، طويل حياة علمية بدأت تقريبا نهاية القرن التاسع عشر واختتمت ببداية العمل الإصلاحي الدعوي في 1927، ثم دخل مرحلة بناء الهوية الوطنية ونشر الثقافة الدينية انذاك الخلاقة النابعة من مصادر السلف الصالح”.
ويضيف الباحث: ” حين ننتبع حياة هذا الرجل الذي نهل من العلم من زوايا الجزائر، ثم انتقل الى الزيتونة ثم جامع الأزهر وحصل على مستويات العلم والمعرفة انذاك، وألم بمشاكل العالم الإسلامي، لكنه فضل البقاء مناضلا مكافحا، طرح بيداغوجية للتعليم، كان يعي بمهمة التي تنتظره في محاولة لدفع حالة الجمود الفكري، الذي ارادها الاستعمار”.
ويشير البروفيسور مغدوري: ” الإستعمار عمل جاهدا على تغييب المفهوم الصحيح للإسلام، الجزائري أصبح تقريبا في حضن الخرافة والدروشة وهؤلاء كان عليهم اصلاح هذا الوضع، الذي لا يقل أهمية عن الوقوف في وجه جيوش الاحتلال، هذه المهمة قام بها العربي التبسي، سواء في اطار الحركة الجمعوية التي بدأت مع جمعية الاتحاد والترقي بالعاصمة في 1926 او بعد التنظيم الهيكلي الكبير لجمعية العلماء المسلمين”.
ويبرز الباحث، الوحشية التي قتل بها الشيخ العربي التبسي، بقوله: ” تاريخ الاستعمار سجل مكدس بالمأسي والجرائم، كيف يمكن ان نتصور بعد الحرب العالمية الثانية والمواثيق الدولية، التي دافعت عن حقوق الانسان والشعوب في تقرير المصير، وكل المواثيق التي ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر، إنهاء حياة شيخ سخر حياته من أجل العلم كقيمة سامية عالمية، تنشدها الإنسانية”.
ويضيف: ” كيف يمكن انهاء حياة عقل بهذه الطريقة، بوضعه في زيت المحركات على درجة حرارة خيالية ويذاب جسمه وحرمانه حتى من الأثر الطبيعي، الذي نسميه قبرا فهو شهيد بلا قبر، هذه جريمة شنيعة في حق القيم الإنسانية والشرائع السماوية وكل المواثيق والقوانين، وهذه تعطيك الصورة المروعة عن هذا الاستعمار “.
ويؤكد البروفيسور مغدوري، “أن الشهيد الشيخ العربي التبسي، كان رجلا يحمل قضية أمة وملتزما يدعو الى الثورة وهذا ما ظهر في كافة خطاباته وما كتبه من مقالات، حيث كان يحمل فكرا ثوريا، وكان يعتبر أن فرنسا عدوا في الحياة، الذي حرم الجزائريين من أدنى الحقوق.”
ويشير الباحث، إلى أن المقربين من الشيخ العربي التبسي، دفعوه لمغادرة الجزائر فقال كلمته “ماذا سيبقى لهذا الشعب اذا كنت انا سأرحل”، ارادت فرنسا محو اثره فبقي خالدا في الذاكرة الوطنية، يقول أستاذ التعليم العالي بجامعة الجلفة.
17 سنة خارج الجزائر لتحصيل العلم والتفقه
ولد الشهيد الشيخ العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات جدري بناحية المقطع جنوب ولاية تبسة حوالي سنة 1895، لقب بالتبسي، حسب ما تذكره مصادر تاريخية.
ينتمي الى قبيلة النمامشة من عائلة فلاحية فقيرة، لكنها متدينة، حفظ القرآن على يد والده وإلتحق بزاوية سيدي ناجي بالأوراس في 1907، ومنها انتقل بتوصية من شيوخه الى زاوية مصطفى بن عزوز بنفطة في 1910، والتي كانت ذائعة الصيت خاصة ان خريجيها كان بإمكانهم الإلتحاق مباشرة بالزيتونة .
بعدما إتمام تكوينه بالزاوية في مختلف العلوم من فقه ومنطق وأصول، وفنون اللغة العربية والأدب وعلم الكلام إلتحق بالزيتونة في 1914، ونال الشهادة الأهلية بعد بضع سنوات من الإجتهاد والمثابرة والتحصيل، ورحل الى القاهرة حوالي سنة 1920، حيث انضم الى طلبة الأزهر الشريف وحصل على شهادة العالمية.
في هذا الصدد، تقول الدكتورة نفيسة دويدة، من المدرسة العليا للأساتذة ببوزريعة: “استغل فرصة وجوده بمصر ليحضر حلقات العلم ويزور المكتبات وذلك الى غاية 1927، حيث عاد الى تونس للحصول على شهادة التطويع المؤهلة لمباشرة مهنة التدريس”.
وتضيف: ” قضى العربي التبسي، حوالي 17سنة خارج الجزائر وهبها لتحصيل العلم والتفقه في مختلف الفنون والعلوم لاسيما الشرعية منها، وبعد عودته للجزائر شرع في الوعظ والتدريس للكبار والصغار في مسجد صغير ابن سعيد، بمسقط رأسه ولما ضاق بالناس انتقل الى مسجد المدينة العتيق الذي تشرف عليه الإدارة الإستعمارية، فضايقته وأوقفته فعاد ثانية الى المسجد الأول”.
اشتملت دروس العربي التبسي، على مختلف علوم الفقه والسيرة والتاريخ الإسلامي وجمع بين الحديث في أمور الدين والدنيا، لكنه سرعان ما تعرض للمضايقة من قبل أعداء الدعوة الاصلاحية من طرقيين واعوان الإدارة الإستعمارية خاصة بعدما كثر عدد المواظبين على حضور دروسه والمتأثرين بأفكاره.
ولما ضاق به الحال عمل بنصيحة الشيخ عبد الحميد بن باديس، وانتقل الى مدينة سيق بالغرب الجزائري في 1930، وأصبح مديرا لإحدى مدارسها الابتدائية ومدرسا بها، وكان له أكبر الأثر في بث روح الإصلاح في تلك المنطقة انضم إليه مجموعة من العلماء الرواد في إطار مساعي تكوين جمعية دينية اصلاحية.
كان للشهيد، له دور ومساعي في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان نائبا لكاتبها العام، وقد طلب منه أهل تبسة الرجوع اليهم، فعاد في 1933م، وشرع في التحضير لافتتاح مدرسة “التهذيب” للبنين والبنات في السنة الموالية (1934م)، حسب مصادر تاريخية.
“ولم يلبث الشيخ التبسي، ان اختير لتقلد منصب الكاتب العام للجمعية خلفا للشيخ الأمين العمودي، وذلك في 1935م، وتولى ايضًا رئاسة لجنة الافتاء نظرًا لزاده الفقهي والعلمي، واستمر على ذلك إلى غاية اندلاع الحرب العالمية الثانية. ”
” وبعد وفاة الشيخ ابن باديس، في 1940م انتخب الشيخ التبسي، نائبًا للشيخ الإبراهيمي، وكانت له مساعي كبيرة باسم الجمعية داخل ائتلاف حركة أحباب البيان والحرية (AML)؛ ما عرضه للسجن بتهمة التآمر مع الألمان ضد الدولة الفرنسية، وسجن لمدة ستة أشهر، وتكرر اتهامه بالتحريض على التمرد في ماي 1945 فاعتقل، ولم يفرج عنه الا مع صدور قانون العفو العام في 1946.”
وتشير مصادر تاريخية، إلى أنه بعد اطلاق سراح الشهيد، إلى التدريس بالجامع الأخضر بقسنطينة، كما تولى الإشراف على جمعية التربية والتعليم التابعة للجمعية، والتي نقل مقرها مؤقتا إلى تبسة.
وبعد افتتاح معهد الشيخ ابن باديس في 1947، عيّن الشيخ التبسي، مديرا له، ومما قال في الكلمة الافتتاحية ما يلي: “.. أيها الإخوان ان التعليم بوطنكم هذا في أمتكم هذه ميدان تضحية وجهاد، لا مسرح راحة ونعيم، فلنكن جنود العلم في هذه السنة الأولى، ولنسكن في المعهد كأبنائنا، ولنعش عيشهم، عيش الإغتراب عن الأهل فانسوا الأهل والعشيرة، ولا تزوروهم إلا لماما، أنا أضيقكم ذرعا بالعيال وعدم وجود الكافي، ومع ذلك فها أنا فاعل فاعلوا وها أنا ذا بادئ فاتبعوا”.
” وبقي العربي التبسي، مديرا للمعهد حتى إغلاقه أواخر 195، من طرف الادارة الاستعمارية. جمع مسؤوليات عديدة في آن واحد ابتداءً من 1952، حيث تولى رئاسة الجمعية نيابة عن الشيخ الإبراهيمي، الذي كان في المشرق”.
” واستمر أيضا في متابعة شؤون التعليم بالعاصمة، وأشرف على جريدة “البصائر”، اضافة إلى ادارة المعهد الباديسي وذلك إلى غاية اختطافه.”
لم يتخلف عن نداء الثورة
” استجاب الشيخ العربي التبسي، لنداء الثورة، وفي هذا الشأن تذكر مصادر حدوث اتصالات بينه وبين قادة الثورة، لاسيما أنه دعا شخصيا إليها منذ أمد بعيد، وقد دعا إلى تلبية نداء الجهاد الذي رفعه الثوار المجاهدون، وقد رصد التبسي أحداث أول نوفمبر 1954 على لسان الجمعية في مقال بعنوان “حوادث الليلة الليلاء”.
وكتب : “فوجئت البلاد الجزائرية بعدد عظيم من الحوادث المزعجة وقعت كلها ما بين الساعة الواحدة والساعة الخامسة من صبيحة الاثنين غرة نوفمبر، وهو عيد ذكرى الأموات، ولقد بلغ عدد تلك الحوادث ما يزيد عن الثلاثين ما بين الحدود التونسية وشرقي عمالة وهران، إلا أن عمالة قسنطينة؛ وخاصة جهتها الجنوبية كانت صاحبة المقام الأول فيها، وكادت تتركز الحوادث في جهات جبال أوراس في خط يسير من باتنة إلى خنشلة ثم يشمل الجنوب..”
وأضاف:” إننا لحد هذه الساعة لا نملك التفاصيل المقنعة عن هذه الحوادث وأسبابها، وليس بين أيدينا إلا ما تناقلته الصحف وشركات الأخبار؛ فلا نستطيع أن نعلق عليها أدنى تعليق إلى أن تتبين لنا طريق الصواب، فليس من شأن “البصائر” أن تتسرع في مثل هذه المواطن.. لكننا من جهة أخرى رأينا أنه لا يمكن أن يخلو هذا العدد من جريدتنا من ذكر هذه الحوادث التي تناقلت صحف العالم بأسره تفاصيلها، فقررنا الاكتفاء بذكر أهمها، ولسوف نتتبع ذلك بغاية الدقة والاهتمام..”
تابع الشيخ التبسي، باهتمام مستجدات الساحة السياسية بالجزائر.
وكتب مقالا بعنوان “كتاب الأدغال”على صفحات “البصائر” بتاريخ 18 فيفري 1955 قال فيه: “وتململوا وتحركوا، ودبت فيهم روح الحياة الحرة الجامحة التي تحطم كل معترض مهما كان قويًا عاتيًا، وتقدموا إلى الأمام يخوضون معركة الحياة، وقد حملوا أرواحهم فوق أيديهم؛ فيزحفون إلى الأمام، ولا يتقهقرون أبدًا إلى خلف، وقد علموا أن حياة لا عزة، ولا شرف، ولا علم فيها، ولا عمل، ولا حكم فيها ولبنيها، ولا سلطان فيها لذويها، إنما هي حياة خسة ومذلة أفضل منها الموت العزيز والفناء الشريف”.
” أثار نشاط الشيخ العربي التبسي، منذ عودته إلى الجزائر سخطًا عظيمًا لدى السلطات الاستعمارية؛ التي رأت فيه شخصًا عنيدًا لا يلين في الدفاع عن قضيته، خاصة أنها لمست آثار دعوته الاصلاحية، وفي إنارة الوعي الجزائري في كل المناطق التي زارها، او درَس بها؛ الأمر الذي جعل الشيخ التبسي، محل متابعة ومضايقة وترصد.”
اختطاف وإغتيال شنيع
وما زاد الأمر تعقيدًا – تقول الباحثة دويدة- فشل محاولات الترغيب والوعيد التي قامت بها الإدارة الإستعمارية، فوجدت نفسها أمام شخصيته الصلبة المؤيدة لرفع راية الجهاد، ودعم الثورة، فلجأت الإدارة إلى تدبير حادث اختطافه مساء يوم الخميس 04 أفريل 1957، ومن ثمة اغتياله بوحشية بعد أيام من التعذيب والتنكيل، وبقي قبره مجهولًا.
وقد نقلت “البصائر” عن تفاصيل الحادث ما يلي: “في مساء يوم الخميس 04 رمضان 1376هـ الموافق 04 أفريل 1957م، وعلى الساعة الحادية عشر ليلا اقتحم جماعة من الجند الفرنسيين التابعين لفرق المظلات.. سكنى فضيلة الأستاذ الجليل العربي التبسي؛ الرئيس الثاني لجمعية العلماء، والمباشر لتسيير شؤونها، وأكبر الشخصيات الدينية الاسلامية بالجزائر؛ بعد أن حطموا نوافذ الأقسام المدرسية الموجودة تحت الشقة التي يسكن بها بحي بلكور طريق التوت…، وكانوا يرتدون اللباس العسكري الرسمي للجيش الفرنسي.
وتضيف البصائر:” وجدوا فضيلة الشيخ، في فراش المرض الملازم له، وقد اشتد عليه منذ أوائل شهر مارس، فلم يراعوا حرمته الدينية، ولا سنه الكبيرة، ولا مرضه الشديد، وأزعجوه من فراش المرض بكل وحشية وفظاظة، ثم أخذوا في التفتيش الدقيق للسكن..، ثم أخرجوه حاسر الرأس حافي القدمين… ولكن المفاجأة كانت تامة عندما سئل عنه في اليوم الموالي الادارات الحكومية المدنية والعسكرية والشرطية والعدلية؛ فتبرأت كل إدارة من وجوده عندها أو مسؤوليتها عن اعتقاله أو من العلم بمكانه”.
تنوعت آثار الشيخ التبسي، المنشورة في جرائد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومجلة الشهاب وصحيفة النجاح، تؤكد الدكتورة نفيسة دويدة.
وتوضح: ” تناولت إجمالا محورين هامين في بناء الإنسان الجزائري المعاصر؛ هما: الجانب الفكري الخاص بتقويم الأخلاق والسلوكيات، وطلب العلم، وتصحيح العقيدة من الشوائب والبدع المستحدثة، والتفطن للمكائد المدبرة من طرف أعداء الدين والوطن”.
وفي الجانب العملي- تشير الباحثة- تضمن كل ما يتعلق بالإخلاص في أداء الواجبات، وتحمل المسؤوليات، ومحاربة الآفات الاجتماعية، والسعي للتغيير الايجابي، والاقتداء بالعلماء الصالحين. ورغم ذلك فإن الرصيد التراثي للشيخ التبسي لم يكن غزيرا؛ نظرا لالتزامه بالتدريس، وانتهاجه أسلوب التلقين الشفهي.