راهن قادة الثورة على توظيف وإدماج عنصر النخب الطلابية عبر هياكلها وأجهزتها المختلفة نظرا لحاجتها في المرحلة الأولى للكفاح لمن يناصرها مثل الفئات الأخرى ، على إعتبار أن فئة الطلبة تمثل القوة الطلائعية في المجتمع وقوة فاعلة في تسيير مؤسسات الثورة وخزان لإطارات ما بعد الإستقلال.
يؤكد الدكتور أحمد مريوش في كتابه بعنوان :”الحركة الطلابية الجزائرية ودورها في القضية الوطنية وثورة التحرير 1954 “، فإنه خلال الفترة الأولى من الخمسينات عرفت الحركة الطلابية الجزائرية حركة نشاط جديدة دفعتها نحو التسابق إلى تشكيل تنظيمات أخرى، فقد أسس الطلبة الجزائريون بباريس سنة 1954 تنظيما طلابيا جديدا بإسم إتحاد الطلاب الجزائريين بباريس.
ولعله وسع من الهوة بين الطلبة الجزائريين أكثر ما سعى لتحقيق وحدتهم بفعل سياسة الإستخبارات الفرنسية التي أخذت على عاتقها تكسير كل قوة تشكل خطرا على تواجدها بالمنطقة.
تعبئة أكثر من 600 طالبا جامعي وثانوي في صفوف جبهة التحرير الوطني
ويوضح الدكتور مريوش أن، إسناد مسؤولية تسيير هذا التنظيم الجديد للشيوعيين الفرنسيين المتعاطفين مع الطلبة الشيوعيين الجزائريين لم يكن مرغوب فيه لدى جميع الطلبة الجزائريين المتواجدين بفرنسا، مما تولد عن ذلك شرخ في الإتحاد الطلابي الجزائري بباريس الذي أصبح يمثل شريحة طلابية ضيقة، وهي لا تتلاءم مع التكوين السياسي والديني لباقي الطلبة الجزائريين خصوصا بعد إندلاع الثورة التحريرية.
تأسس الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين سنة 1955 بفرنسا، وقد سبق ميلاده العديد من الإجتماعات التحضيرية ما بين 1953 و1955، حيث تأسس مكتب خاص بالطلبة الجزائريين في جامعة الجزائر في فيفري 1955 بالمطعم الجامعي المسمى اليوم مطعم عميروش حتى يكون التمثيل الطلابي ناجحا، وقريبا من الواقع الجزائري المستجد، وقد نشطت خلال هذه الفترة مجموعة من الطلبة أمثال لمين خان وبغلي وعبد الكريم حسني والأخضر الإبراهيمي وبابا أحمد وغيرهم.
يقول صالح بلقبي في شهادته لذاكرة الشعب حول ظروف تأسيس الإتحاد أنه خلال هذه الفترة الهامة من إعادة هيكلة التنظيم الطلابي، وبرغم مشكلة الميم (الإسلام) المرفوضة من قبل بعض الطلبة اليساريين الذين ظلوا على ولائهم لتوجيهات الحزب الشيوعي الفرنسي، فإنه تمكن من التوصل إلى كتابة بيان يساند من خلاله قضايا الطلبة الجزائريين، و تمسكهم بالقضية الجزائرية.
أما شهادة عبد الكريم حساني فيقول أن الجامعة كانت لها خلايا طلابية مشكلة تابعة لجبهة التحرير الوطني قبل 1956، حتى قبل التفكير في الإضراب العام للطلبة الذي دعا إليه الإتحاد.
تمكنت جبهة التحرير الوطني من تعبئة ما يزيد عن 600 طالبا بين الجامعيين والثانويين في صفوفها، ومن بين الطلبة البارزين الشهيد عمارة رشيد، ويذكر زهير إحدادن الذي كان آنذاك طالبا في جامعة الجزائر منذ الموسم1950-1951 أن الطالب عمارة رشيد اتصل به بغرض التنسيق، ووقع لقاء بينهما في حديقة الحامة بالجزائر العاصمة بحضور كل من خالد وعبان رمضان الممثل لجبهة التحرير الوطني بالوسط.
ويضيف أنه خلال هذه الفترة نشط ممثلو الطلبة في عملية تحسيسية بهدف الوصول إلى إئتلاف طلابي موحد، وسافر على جناح السرعة إلى باريس وفد طلابي لشرح هذا الهدف بين جموع الطلبة على إختلاف مشاربهم السياسية، ومن بين عناصر الوفد لمين خان، محمد الصديق بن يحيى وبغلي.
وقد استطاع الوفد تبليغ الرسالة وإقناع العديد من الطلبة بأنه قد حان الأوان أكثر من أي وقت مضى للبحث عن الوحدة الطلابية خدمة لصالح الثورة التحريرية، وقد تمكن الوفد من ترجيح الكفة لصالح طلبة الجناح المؤيد للإتجاه الإسلامي أي تثبيت حرف الميم في المسار الطلابي بدلا من البقاء على ولاء الإتحاد الوطني للطلبة المشوب بالتوجه اليساري المرتبط بالتوجهات والمصالح الفرنسية من جهة، والتخلي عن تتبع توجيهات جناح الطلبة الداعي إلى اللائكية المقيتة.
احتضنت باريس ما بين 4 و7 أفريل 1955 الإجتماع التحضيري للتشاور في كيفية تشكيل منظمة طلابية جزائرية موحدة، وقد ضم الإجتماع بعض الممثلين عن طلبة جامعة الجزائر والطلبة الجزائريين بالجامعات الفرنسية، وخلاله أعلن عن تشكيل الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، الذي ولد بعد مخاض عسير ومناقشات حادة تمت خلال اللقاءات التحضيرية التي تركزت حول تسمية الإتحاد الذي يحمل بين طياته مدلول التوجه الإيديولوجي الجديد لجموع الطلبة.
حسب المؤرخ يحي بوعزيز فإن الرواد المؤسسين للإتحاد العام سواء داخل أو خارج الوطن محمد بن يحي ومسعود أيت شعلال، عبد السلام بلعيد، أحمد طالب الإبراهيمي، عبد الرحمان مهري، عبد الرحمان شريط وعيسى مسعودي ، الجنيدي خليفة، مولود قاسم، شلالي عبد القادر ، يحيي بوعزيز، الطاهر عمراوي، صالحي أرزقي، البشير كعيس، عيسى بوضياف، عبد الحميد بن هدوقة، نور عبد القادر، قاسي عبد القادر، أبو القاسم سعد الله، منور مروش، زعبوب إبراهيم، محمد فارح، علي جغاب، ومصطفى بوزيان.
معركة “الميم” حسمت لصالح الثورة
إن حرب “الميم” قد جلب للإتحاد بعض المتاعب، وظهرت صراعات بين الطلبة خصوصا من طرف مجموعة الشيوعيين والإندماجيين الذين رفضوا الإنتساب للإسلام ودافعوا عن التوجه اللائكي وقبلوا العيش في كنف الوجود الفرنسي، لكن مناوراتهم باءت بالفشل ولم تتمكن من تحييد كلمة الإسلام وإلغائها من تسمية الطلبة، حسب ما قاله بلعيد عبد السلام في محاضرة ألقاها سنة 1990 بمعهد الإقتصاد بجامعة الجزائر بالخروبة.
بعضهم يحبذ الإبقاء على تسمية الإتحاد الوطني للطلبة الجزائريين، في حين يؤكد الطرف الآخر تبني التوجه الإسلامي في التنظيم الطلابي، وتسمية الإتحاد بإسم الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين أي إضافة كلمة الميم.
ولذلك سميت القضية وقتها بمعركة الميم بين أجنحة صفوف الطلبة ، وحسب شهادات بعض الطلبة فإن التسمية الجديدة جاءت لحسم الموقف والتعبير عن الإنتماءات الحضارية للطلبة الجزائريين، الذين ناضلوا من أجل هذا التوجه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى خلال مؤتمرات طلبة مسلمي شمال إفريقيا ، رافضين التنازل عن أقدس مقومات شخصيتهم وهو الدين وطلبوا بترسيم هذا الإنتماء خلال مؤتمرهم التأسيسي الذي إحتضنه قصر التعاون بباريس ما بين 8 إلى 14 جويلية 1955.
عبر الإتحاد على أنه ليس في حاجة إلى الشهادة الجامعية ، بل في حاجة إلى شهادة الإستقلال، وأن الدراسة والشهادة أصبحت غير فعالة مقارنة بتضحيات الإخوة الطلبة والمجاهدين .
الإتحاد راهن على توحيد الطلبة وربط مصيرهم بشعبهم
إن إختيار باريس كمقر رسمي للإتحاد مرده سهولة النشاط الطلابي في باريس، ووجود بعض الحريات التي كانت منعدمة في الجزائر التي يحكمها المستوطنون المتطرفين، وكذا كثرة الطلبة الجزائريين بفرنسا ، وحتى الطلبة الأجانب من دول عربية وأجنبية التي عادة ما كانت تساند قضايانا، كان الهدف الأسمى الذي راهن عليه الإتحاد هو توحيد الإتجاه الطلابي وربط مصير المثقف بمصير غيره من أفراد الشعب الجزائري.
تجسدت مبادئ الإتحاد منذ المؤتمر التأسيسي من خلال المداخلات والخطب الهامة منها خطبة أحمد طالب الإبراهيمي قائلا :”أيها الطلبة لنا أن نكافح في سبيل تعبئة الطلاب الجزائريين مكافحة كبيرة لتذليل الصعوبات التي تعترض طريقنا… أيها الطلاب المسلمون إننا نتألم من أعماق أرواحنا ونحن نشاهد إضطهاد الإستعمار للغتنا بإعتبارها كلغة أجنبية في بلادنا، وهي المركز الأساسي لحضارتنا ومن تم لن يهدأ لنا بال إلا عندما تسترجع مكانتنا اللائقة بها شرعا وقانونا… علينا نحن المحظوظون بين شبابنا أن نكافح كفاحا مستمرا لضمان التعليم لكل طفل جزائري وصل سن الدراسة، سننتزع لأطفالنا التعليم والتربية التي هي حق من حقوقهم المشروعة… “.
ارتكز برنامج الإتحاد على خدمة الثورة الجزائرية عبر التمثيل الدبلوماسي وجمع التبرعات والكتابة ونشر الدعاية، وإعداد الإطارات والفنيين والمكونين، ويعتمد ذلك على الإكثار من البعثات الطلابية إلى إتمام الدراسة في الخارج سواء إلى أوروبا الشرقية أو الغربية وحتى العالم الجديد، وجنوب شرق آسيا بما فيها الصين وتعزيز الإرسال الطلابي إلى مصر، بلاد الشام، تونس والمغرب.
وحسب الإحصائيات فإن عدد الطلبة الجزائريين بجامعة الجزائر ما بين 1960 و1961 بلغ 1317 موزعين على شعبة الآداب ب450 طالبا منهم 83 إناث و367 ذكور، و420 في شعبة الحقوق والعلوم السياسية والإقتصادية منهم 22 إناثا و398 ذكورا، و271 طالبا في شعبة العلوم منهم 232 ذكور و39 إناث و170 طالبا في شعبة طب وصيدلة منهم 148 ذكور و28 إناث.
جاءت الدعوة إلى الإضراب بعد سلسلة من المشاورات بين الهيئة الرسمية للإتحاد وممثلين عن تلاميذ الثانويات خصوصا المتواجدة بالجزائر العاصمة، هذه الأخيرة أدت الدور الأساسي في تحقيق فكرة الإعلان عن الإضراب العام وتنفيذه، وبحسب المعاصرين لتلك الفترة فإن دور الطلبة الثانويين كان رائدا في تحضير وتوفير مناخ الإضراب وتمكنوا من فرض أنفسهم حتى على طلبة جامعة الجزائر، واشتركوا معهم في التصويت لترجيح كفة الداعيين لأسلوب الإضراب وكان على رأس هؤلاء الثانويين عمارة رشيد ومريم بلميهوب.
وفي هذا الشأن يذكر النقيب محمد صايكي في مذكراته المنشورة سنة 2003 وهو من مسؤولي الثورة في الولاية الرابعة في مذكراته أن ترك التلاميذ لمقاعد الدراسة عند أعمار لا تتجاوز سبع عشر سنة، وإلتحاقهم بالجيش والجبهة مكن من استمرارية الثورة بعد أن إلتحقوا بصفوف الثورة تدريجيا وصاروا من الذين يسيرون الثورة بكل أجهزتها.
وهذا عكس الطلبة الجامعيين الذين لم يلتحقوا جميعا بالجبال وفضل منهم مواصلة الدراسة خارج الوطن، وبعد تبلور القناعة الطلابية بفكرة الإضراب قامت الهيئة التنفيذية للإتحاد بسحب بيان الإضراب ليلا في مقر جبهة التحرير الوطني بالجزائر التي كانت تحت الحضر والمراقبة المشددة الفرنسية.
فئة الطلبة خزان لإطارات ما بعد الإستقلال
أصبح للثانويين الجزائريين وقتها تنظيم خاص بهم يدعى جمعية الشبيبة الطلابية الإسلامية، وعززوا من علاقاتهم مع الإتحاد الطلابي من جهة، كما استطاعوا أن يوفقوا في تعبئة الطلبة الثانويين في العديد من الثانويات لصالح الإضراب، ومن أمثلة ذلك عائشة حاج سليمان التي كانت تدرس بثانوية الثعالبية بالعاصمة واستطاعت إقناع زملائها بشرعية الإضراب، ثم إلتحقت بصفوف الثورة وهي في مقتبل العمر وأصبحت تدعى فوزية ، حيث إشتغلت كمرشدة سياسية وإجتماعية بالمنطقة الخامسة، واستشهدت سنة 1957 بمنطقة مسيردة حين حاولت عبور الحدود المغربية برفقة إخوانها المجاهدين.
خص الإضراب في البداية طلبة جامعة الجزائر لوحدهم، لكن نشاط خلية جبهة التحرير الوطني بالعاصمة بزعامة بن يوسف بن خدة وعبان رمضان كانت وراء توسيع الإضراب إلى أبعد حد وربطته مباشرة بالثورة، وعقدت سلسلة من الجمعيات أولها في نادي الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري تلاه إجتماع أخر في مقر الإتحاد .
وحسب شهادة المرحوم لمين خان فإن جبهة التحرير الوطني طلبت منه إعلان الإضراب فورا، حيث إمتثل للأمر بإصدار بيان الإضراب لفرع الجزائر وذلك بتاريخ 19 ماي 1956 وفي نفس الوقت إتصل بفرع باريس للطلبة لتبليغهم بالقرار، والإعلان عنه في الجزائر.
ترك الطلبة مقاعد الدراسة وإلتحقوا بجيش التحرير وخلايا جبهة التحرير ، وتعددت مسؤولياتهم من الجندية إلى الإعلام والأخبار والمحافظة إلى النشاط الدبلوماسي إلى التمريض والقضاء والتدريس والتربية، التوعية والتعبئة العامة مع صفوف الثورة .
تضمن نص النداء:” إننا لنشعر بأن وقوفنا موقف القاعد المتفرج أمام الحرب التي تجري معاركها تحت أعيننا يجعلنا شركاء المفتريات البديئة الصادرة من الأفاكين الآثمين ضد جيشنا الوطني الباسل…ولذا فإن الواجب ينادينا إلى القيام بمهمات تفرضها الظروف علينا فرضا وتتسم بسمة السمو والمجد، فالواجب ينادينا إلى تحمل الآلام ليلا ونهارا بجانب من يكافحون ويموتون أحرار اتجاه العدو…فلنهجر مقاعد الجامعات ولنتوجه إلى الجبال والأوعار، ولنلتحق كافة بجيش التحرير الوطني وبمنظمته السياسية جبهة التحرير الوطني..”.
أدى الإضراب إلى حدوث مشادات عنيفة بين البوليس الفرنسي المدجج بالأسلحة وبين الطلبة الجزائريين، وتم تجريد الطلبة من وثائقهم ومنعهم من دعم الخدمات الجامعية وطردهم من الإيواء بالأحياء السكنية ، وهددوا بالشطب من القوائم الدراسية نهائيا ، وبعد نجاح الإضراب طلبت جبهة التحرير من الطلبة العودة لمقاعد الدراسة ، وكسب التحصيل العلمي والمعرفي لتزويد الجزائر ما بعد الإستقلال.