لا يزال تاريخ ثورة التحرير محل أبحاث ودراسات بما أنه في كل مرة تظهر وثائق أو شهادات جديدة ، تجعلنا نعيد ضبط بوصلته ليكون أقرب للموضوعية، بعيدا عن المزايدات أو التوجيه، و الوثائق الأرشيفية التي بين أيدينا تصب في هذا المجال لأنها صادرة عن دولة نأت بنفسها عن كل الصراعات الدولية، مما يجعل هذه الوثائق تكسب نوعا من المصداقية، والمواضيع التي تناولها أرشيف الدبلوماسية السويسرية كثيرة اخترنا واحدا منها حسب المناسبة.
من وثائق الأرشيف الدبلوماسي السويسري
حادثة اختطاف الطائرة اكتست أهمية كبيرة في وقتها لانها أول قرصنة جوية في التاريخ، وكذلك لأهمية الأشخاص الذين تم اختطافهم والتفاعل الدولي معها، بعد أن ظهرت كبريات الصحف العالمية شاجبة للعملية منددة بالمسؤولين عنها، مما جعل فرنسا تسعى لإظهار الأمر على انه قضية داخلية لا أكثر لتخرج نفسها من الحرج الذي أوقعها فيه المسؤولين عن العملية .
إذن ، كيف تناولت هذه الوثائق الأرشيفية قضية اختطاف الطائرة ؟وما هي المعطيات الجديدة التي حوتها؟
في حوزتنا 3 وثائق صادرة عن السفارة السويسرية في باريس صادرة عن السفير السويسري في باريس ، الأولى مؤرخة في 26 أكتوبر 1956، الثانية شهرا بعد ذلك بتاريخ 26 نوفمبر 1956، والثالثة في 31 جويلية 1958، كلها مصنفة في خانة السري جدا ، أفرج عنها الأرشيف الدبلوماسي السويسري مؤخرا.
حاولت أن أُدعّم مقالي هذا ببعض الوثائق والمصادر الأخرى على غرار وثيقة صادرة عن الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي وحوار للهاشمي الطود وشهادة لأحمد بن بلة لإعطاء الموضوع أكثر موضوعية، مع التركيز أكثر على الأرشيف السويسري، حاولنا من خلال وثائقه استخلاص بعض الحقائق عن الهدف الحقيقي من عملية القرصنة ، والقراءة التي قدّمها الطرف السويسري للحادثة .
الوثيقة الأولى التي صدرت أربعة أيام فقط بعد عملية القرصنة، عبارة عن تقرير سياسي سري موجّه للحكومة السويسرية للقاء دار بين السفير السويسري في باريس بيار ميشيل وشخصيتين فرنسيتين.
الشخصية الأولى دبلوماسي كبير من مبنى الكيدورسي لم يرد الإفصاح عن اسمه، و الثانية هي قوليوم قيندي (Guillaume Guindey) المكلف بالمفاوضات مع المغرب.
يذكر الدبلوماسي الفرنسي للسفير السويسري أن عملية توقيف بن بلة ورفاقه تدخل في إطار سعي الحكومة الفرنسية للقضاء على المحركين الأساسيين للأحداث الدائرة في الجزائر.
هؤلاء الأشخاص يتحملون مسؤوليتها بشكل كبير فهم يتميزون بهمجيته ووحشية ، وأن لهم عداء لكل ما هو غربي، في إشارة إلى أن الأمر فيه نوع من المؤامرة.
يذكر هذا الشخص أن الطائرة التي تم اختطافها فرنسية وبطاقم كله فرنسي وضعت للتو في خدمة المغاربة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه من تداعيات هذه العملية حدوث أزمة كبيرة بين المغرب وفرنسا، حسب وثيقة من الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي تحمل رقم A-G 5/7-23 ، أين تم الإتفاق بين الطرفين على تشكيل لجنة تحقيق دولية مكونة من البلجيكي فييشر وهو عضو سابق في المحكمة الدولية بلاهاي، الإيطالي آقو أستاذ الحقوق، اللبناني مكاوي محامي ، وذلك من أجل البت في من تملك أحقية الطائرة.
هل هي المغرب لانها تابعة للخطوط الملكية، أم فرنسا لأن الطائرة تحمل ترقيما فرنسيا؟
أما المسؤول عن عملية القرصنة فتذكر الوثيقة السويسرية سابقة الذكر أن الترتيب لها كان سري جدا فالمعلومة لم تكن معروفة إلا عند أقلية عسكرية.
الدليل أن الحاكم العام في الجزائر روبير لا كوست والذي كان في تلك الفترة في فرنسا و بالضبط في بوردو متوجها إلى باريس – لحضور جلسات حول القضايا الإفريقية – تم إعلامه بعملية الإختطاف دقائق قبل تنفيذها عن طريق مكالمة هاتفية من طرف قيادة القوات الجوية، وهذا لسببين، حسب الدبلوماسي الفرنسي.
السبب الأول، لوضعه أمام الأمر الواقع ، وحتى لا يكون له الوقت الكافي للقيام برد فعل قد ينسف بالعملية.
والسبب الثاني، حتى يتم تهيئته نفسيا من أجل الدفاع عن العملية أمام مجلس النواب. ونفس الشيء بالنسبة لرئيس المجلس الوطني الذي لم يعلم بالأمر إلا في المساء.
يقول الدبلوماسي للسفير السويسري : “إنه في الوقت الذي تم إعلام رئيس المجلس بالحادثة كان المختطفين يضعون الكماشات في أيديهم” .
و يصف نفس الشخص حالة أعضاء البرلمان الفرنسي الذين سمعوا للتو بالخبر وهم في حفل عشاء ، ” أنه ظهرت عليهم بعض بوادر الإرتياح لكنها ممزوجة بالخوف ..” .
ورغم المعارضة التي أعلنها بعض الفرنسيين لعملية القرصنة مثلما هو الحال بالنسبة لآلان سافاري كاتب الدولة للشؤون المغربية و التونسية، الذي قدّم استقالته عل إثر هذه الحادثة.
و رغم الإنعكاسات السلبية لعملية القرصنة على فرنسا خاصة مع المغرب و تونس باعتبار أنهما يتحملان أخلاقيا جزء من المسؤولية، وصلت لحد القيام باغتيالات ضد الفرنسيين خاصة في المغرب ، إلّا أن حكومة قي مولي حازت على ثقة 330 نائب مقابل معارضة 140 .
و لعل السبب الرئيس في هذا الدعم للحكومة يعود إلى الأحداث التي حدثت خلال سنة 1956 أي مع بداية حكومة قي مولي في العمل شهر فيفري 1956 والذي يتمثل أساسا في اكتشاف السفينة آتوس محملة بكمية كبيرة من الأسلحة موجّهة إلى الجبال الجزائرية ، ثم بعدها تم إلقاء القبض على أكبر المطلوبين خلال عملية القرصنة حسب الوثيقة المؤرخة في 26 نوفمبر 1956 ، ويمكن أن نرجع هذه النجاحات الظرفية للفرنسيين، إلى أسلوب وضيع آخر استعملته فرنسا لا يقل دناءة عن أسلوب القرصنة، مناف لكل العلاقات الدولية وهو الجوسسة غير المشروعة .
القرصنة الجوية وصمة عار لفرنسا
وثيقة أرشيفية أخرى صادرة عن مسؤول دائرة الشؤون الخارجية السويسرية بتاريخ 21 مارس 1957 تؤكد أن فرنسا قامت بتجنيد النائب العام السويسري روني دوبوا للتجسس على السفارة المصرية في بيرن بين 1954 و 1957.
قام هذا النائب العام بتسجيل كل المكالمات من و إلى السفارة المصرية، دون المرور على الإجراءات القانونية ، مما مكّن الفرنسيين الحصول على معلومات هامة خاصة وأن السفارة المصرية في بيرن كانت مكان تحرك و انطلاق أعضاء جبهة التحرير في مختلف أنحاء أوروبا.
و بالتالي يمكن أن يكون هذا العمل الجوسسي مصدر المعلومات التي أدت إلى اكتشاف السفينة أتوس و عملية الإختطاف ، و أنها كانت تؤكد طرح فرنسا بأن مصر هي الحاضنة الأولى للثورة في الخارج مما أدى بفرنسا للمشاركة بقوة في العدوان الثلاثي أكتوبر 1956.
ومنه يمكن القول أن مثلما كانت القرصنة الجوية وصمة عار لفرنسا فإن عملية الجوسسة هاته كانت هي الأخرى محل احتقار للفرنسيين ،حيث ساءت العلاقات بين الدولتين ، و قام النائب العام بالإنتحار بتاريخ 23 مارس 1957 في فضيحة مدوية للقضاء السويسري و للحكومة الفرنسية .
أما حقيقة الخلاف مثلما تذكر نفس هذه الوثيقة يرجع إلى سعي السياسيين الفرنسيين إلى إقامة فيدرالية شمال افريقية بدعم فرنسي ، و يقول قوليوم قيندي المكلف بالمفاوضات بين فرنسا و المغرب – حسب الوثيقة المذكورة- “أن القمة المغاربية كانت تسعى لإيجاد تقارب بين جبهة التحرير الوطني والمعسكر الغربي في محاولة لإبعاد الجزائر عن تأثير عبد الناصر بوساطة مغربية تونسية “، ففرنسا كانت و منذ الأيام الأولى للثورة تلقي باللائمة على المعسكر الشرقي عموما والقاهرة بصفة خاصة في دعمها للثورة و احتضان قادتها .
لذلك أرادت من خلال اتفاق مع المغرب وتونس أن يكون لهما دورا في أبعاد تأثير جمال عبد الناصر على الجزائريين ، و يؤكد هذا الكلام الهاشمي الطود – مناضل مغربي له مساهمة كبيرة في مكتب تحرير المغرب العربي في القاهرة ، أين أشرف على تدريب عديد الجزائريين في الثورة منهم العقيد هواري بومدين قبل التحاقه بالثورة ، ففي حوار مع جريدة النصر بتاريخ 29 سبتمبر 2004 اعتبر الطود أن استدراج بن بلة و رفاقه إلى اجتماع تونس كان يصب في هذا المسعى ، من أجل تجسيد الإتفاق الثلاثي(فرنسا-تونس –المغرب) و القاضي بإسناد ولاية العرش على الجزائر للأمير الحسن .
و يضيف العقيد المغربي :” فرنسا كانت تخطط رفقة المغرب و تونس لوقف الحرب في الجزائر ، لذلك بدأوا يفكرون في «إطار صلح» أو شبه استقلال داخلي لمدة خمسة أو عشرة سنوات، وعرضت الفكرة على بورقيبة، لكن هذا الأخير نصح الفرنسيين باستغلال العلاقة الطيبة بين محمد الخامس والجزائريين وقال صراحة لمحدثيه أن قادة الثورة الجزائرية لا يحبونه ويشككون في سلوكه.
وعلى هذا الأساس تم الإتفاق مع العرش العلوي الذي وافق على الخطة الفرنسية شريطة أن يتولى الحسن الثاني ولي العهد آنذاك عرش الجزائر، وتم الاتصال بالإخوة الجزائريين، ووجدت الفكرة صدى لدى بعض القادة إلى درجة أنه بدأ الترويج للولاء للعرش العلوي في خطب جمعة بالغرب الجزائري وتحديدا في وهران فيما يشبه مبايعة لمحمد الخامس في انتظار مبايعة ابنه .”
لكن كان لصقور الجيش الفرنسي رأيا آخر رافضين التنازل عن الجزائر لأي كان ،وجاءت عملية القرصنة في هذا الاتجاه ،و يقول بن بلة في برنامج شاهد على العصر الجزء6، أن قائد أركان الجيش الفرنسي قال له بعد أن عملية الإختطاف : ” نريد أن نتفاوض معكم ، فأجبته بأننا في مفاوضات معكم منذ ثمانية أشهر ، رد علي الجنرال قائلا : لا علاقة لنا بمفاوضاتكم مع السياسيين ، هؤلاء خونة ، نحن نمثل الجيش….”
فهذا الكلام يدل على أن هناك خلاف كبير بين السياسيين و العسكر في فرنسا في كيفية تعاملهم مع الثورة التحريرية التي بدأت في تحطيم أسطورة الجيش الفرنسي من خلال الإنتصارات السياسية و العسكرية.
الهدف.. إيقاف اتصالات سرية بين جبهة التحرير و الأمريكان
الحقيقة التي كشفت عنها وثيقة أرشيفية أخرى مؤرخة في 26 نوفمبر 1956،عبارة عن تقرير من طرف السفير السويسري في باريس موجه إلى المستشار الفدرالي السويسري ، يوضح فيها أن فرنسا أصبحت منزعجة من الموقف الأمريكي تجاه القضية الجزائرية ،ويذكر السفير أنه التقى رئيس المجلس الوطني الفرنسي قي مولي الذي بدا ضجرا من التغير المفاجئ للسياسة الأمريكية تجاه القضية الجزائرية.
فحسب السفير السويسري نقلا عن رئيس المجلس الفرنسي أن الدعم الأمريكي للثورة ظهر جليا ، من خلال موقف الأمين العام للكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة ( sisl )، الأمريكي إيروين بروان ذو التوجه الرأسمالي، من خلال قبول انخراط الإتحاد العام للعمال الجزائريين ضمن هذه الكونفدرالية رغم المعارضة الشديدة من طرف فرنسا و بلجيكا ، ثم المفاجئة الأخرى كانت إثر اكتشاف وثائق لدى الزعماء الجزائريين في الطائرة المختطفة ، عبارة عن مراسلات بين جبهة التحرير و بعض من شركات النفط الأمريكية تطلب فيها الجبهة دعم الثورة مقابل وعد بالسماح لهذه الشركات باستغلال البترول الجزائري بعد الإستقلال .
وثيقة أرشيفية أخرى مؤرخة في 31 جويلية 1958 تؤكد إقدام أحد البنوك الأمريكية بدفع مبلغ 500.000 دولار لصالح فرحات عباس قبل شهر واحد من تعيينه على رأس الحكومة المؤقتة ، كل هذه القرائن تدل على أن جبهة التحرير لم تكن منغلقة على جهة معينة فقط و إنما كانت تناور في مختلف الجبهات ومنها الجبهة الأمريكية التي كانت فرنسا تعتبرها حليف استراتيجي ضد الحركات التحررية.
ومنه يمكن القول أن الرأي القائل بأن الو .م .أ لم تدعم الثورة إلا بمجيء جون كيندي أصبح لاغيا بظهور هذه الوثائق و الحقائق ، خاصة الأرشيف غير الفرنسي الذي بدا يظهر و الذي حتما سيؤدي بنا إلى إعادة كتابة تاريخ ثورتنا بمعطيات جديدة .
الأستاذ محمد قدور
قسم التاريخ – جامعة الجزائر 02