يعتبر الباحث والمؤرخ الأستاذ صادق بخوش تصريحات الإليزي اليوم على لسان رئيسها بأنه مجرد كلام سياسوي، ظلت تردده الدولة الفرنسية من خلال رموزها منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، قائلا في تصريح لـ”ذاكرة الشعب”: “ما قانون تمجيد إيجابيات الإستعمار الصادر عن البرلمان الفرنسي سنة 2005، إلا دليل عن ذهنية راسخة لدى هذه الدولة المصابة بلوثة الإستعمار البغيض مع استثناءات من المؤرخين الفرنسيين الموضوعيين”.
ويضيف أنه على الجزائر ونخبها السياسية والفكرية مهمة إنسانية وهي تحرير المخيال الفرنسي المتوقف عند عصور الإمبراطوريات الإستعمارية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
في المقابل، يشير إلى أن الخلاف الأساسي في مجازر الـ17 أكتوبر 1961 وغيرها تقع مسئوليتها علينا بضرورة تحقيق النِدِيَة على كل الصّعد مع فرنسا، لكي نجسر معها سبل التفاهم على مستقبل العلاقات الثنائية.
الشعب: نحيي الذكرى الـ60 لمظاهرات الـ17 أكتوبر 1961، ما هو الدور الذي لعبته جاليتنا بالمهجر لصالح الثورة؟
الباحث صادق بخوش: يستوجب التذكير بأن شغيلتنا في أوروبا و فرنسا تحديدا منذ مطلع القرن العشرين و اختلاطها بالحركات النقابية و التيارات الثورية ، و بداية المد الشيوعي المناهض للاستغلال و هضم حقوق الكادحين و الفلاحين ، بصر عمالنا المهاجرين بالفوارق بين ما كانوا يعانونه في بلادهم من استعباد و استغلال و احتقار على يد الإدارة الإستعمارية و عصابات المستوطنين ، لاسيما من الملاك الكبار الإحتكاريين و بين الوعي السائد في أوروبا و الميتروبول ، دفاعا عن حقوق العمال المختلفة، الأمر الذي هيأ لنهوض وعي عمالي جزائري تطور إلى تأسيس حزب الشمال الإفريقي ثم حزب الشعب و أخيرا حركة الانتصار للحريات الديمقراطية. و تنامى هذا الوعي ليشمل الشغيلة في بلادنا و جماهير الشعب المستعبدة فوق أرضها.
حتى إذا اندلعت ثورة التحرير سنة 1954، و توسع مجالها ليشمل كل الجزائر على خلاف الانتفاضات السابقة، تمكنت جبهة التحرير من أن تستوعب كافة التيارات بداخلها من انتخابيين، و إصلاحيين إسلاميين، و يساريين كأفراد، بل و جميع أطياف الشعب.
و قد واجهت فرنسا هذا المدّ الثوري الشعبي بإرهاب الدولة سياسيا و عسكريا و إداريا. عندها فكرت القيادة المتنورة للثورة التحريرية بنقل الفعل الثوري إلى عاصمة المحتل و إلى باقي مناطقه. و قد قال بهذا الخصوص الشهيد الرمزّ” العربي بن مهيدي” لجلاديه من كبار جنرالات فرنسا قبل اغتياله بتلك الطريقة الهمجية الجبانة : ” إن جبهة التحرير ستعمم الثورة ليس في الجزائر و حسب ، و إنما ستنتشر من دانكارك إلى تمنراست”.
و لم تفلح فرنسا بترسانتها العسكرية و مخابراتها و عملائها من أتباع الميصاليين و ممن جندتهم من الحركة و القومية و المرتزقة العالمية ، في القضاء على إرادة المقاتلين الجزائريين في سبيل قضيتهم العادلة.
تصريحات الإليزي على لسان رئيسها مجرد كلام سياسوي
يأتي الإحتفال بهذه الذكرى في ظل التصريحات النارية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في رأيكم لماذا في كل مرة تستعمل فرنسا ورقة الجزائر لتغطية مشاكلها الداخلية؟
أما بخصوص ما يتعلق بواقعنا الراهن اليوم و ما أحدثته تصريحات رئيس فرنسا الحالي ، فهذه المسألة ليست معزولة عن الماضي بل هي امتداد منطقي لما يمكن التعبير عنه بالظاهرة الكولونيالية ، إذ ثمة فرق بين الوعي بحركة التاريخ و بين الجهل بها من خلال عدم التصديق و عدم فهم تنامي الوعي الإنساني بإدراك حقوقه و واجباته في سبيل أن يتحرر من جهله، و من أنانيته ، كأنما لم يفقه مقولة الفيلسوف قبل أكثر من ألفي سنة بأن المرء لا يستحم في نفس النهر مرتين ، دلالة على أن الدينامكية تتجاوز في كل لحظة الستاتكية .
و من المخزي أن الفرنسيين قادة و مؤرخين في عمومهم لم يدركوا أن ثورة التحرير الجزائرية ، قد أخرجتهم من الظلمات إلى النور، و حررتهم من أنفسهم المريضة ، لكونهم يعتقدون أنهم الجنس الراقي الذي جاء ليحرر الهمج منذ القرن التاسع عشر ، في حين أن الجزائريين في الثلث الأول من القرن الثامن عشر ، كان ثمانون بالمائة منهم يحسنون القراءة و الكتابة بلغتهم ، في حين لم يتجاوز المتعلمون من الفرنسيين خمسة عشر بالمائة.
و أن الجزائر النوميدية قد أسهمت مع الفينيقيين بقيادة الملك ” كادموس ” و أخته ” أوروبا” في نقل الأبجدي و الوسائل الأساسية للحياة إلى أوروبا منذ 1500 سنة قبل الميلاد ، لما كانت جميع مضارب القارة الأوروبية في ظلام الهمجية المطلقة.
ناهيك عن أن جامعة باريس استجلبت العلوم النظرية و العملية ، و استقى علماؤها الأولون من جامعة بجاية في عهد الدولة الحمادية ، فتعلموا الكيمياء و الرياضيات و المنطق و الفنون و الآداب و ما إليها.
أما أفضال الجزائر على فرنسا خلال ثورتها الكبرى في نهاية القرن الثامن عشر لا يمكن تجاهلها ، بحيث أنقذت الجزائر فرنسا من براثن المجاعة و البؤس و قد كان ملوك فرنسا من” لويس الرابع عشر” حتى ” شارل العاشر” مرورا ب”نابليون بونابرث” يبدؤون رسائلهم إلى دايات الجزائر بما يلي:
” إلى السادة الأمجاد العظام “
و نقف عند ” لويس السادس عشر” و قادة الثورة الفرنسية و الجمهورية الأولى و هم يقولون ” إلى سيدي حسن الصديق الحليف، القديم للأمة الفرنسية” .
و في نفس المرحلة كان أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية جورج واشنطن يسعى لدى قيصرة روسيا ” كاثرين الثانية” يدعوها للانضمام إلى حلف أوروبا أمريكا لمواجهة الجزائر. و لكنه خضع في نهاية المقام بشروط الجزائر و عقد معها معاهدة . فكانت بذلك أمريكا سنة 1814، ضمن تكتل من سبعة دول تحارب بحرية الجزائر و هي الدانمارك ، و هولندا ، و إيطاليا و إسبانيا و بروسيا و روسيا و أمريكا.
و لن نطيل الحديث في هذا الشأن مادام قنصل فرنسا واحد من بين قناصل الغرب ، لا يفارق الجزائر يستجدي قمحها و دعمها لفرنسا في حروبها القارية .
إن أكبر معضلة تؤرق فرنسا اليوم وعلى مدى عقود قادمة ، عسرها عن هضم هزيمتها العسكرية و السياسية و المخابراتية ، و الثقافية و الجيو- سياسية أمام الشعب الجزائري في ثورته التحريرية .
و على الرغم من ثورتها المضادة في بلادنا و طابورها الخامس ، الذي اشتغل لحسابها على مدى ستين عاما من استقلال الجزائر، لم تفلح فرنسا في ترويض الوعي الوطني ، إذ يكفي قولة واحدة تثير كرامة الجزائريين من قبل مسئول في الدولة الفرنسية حتى يتحرك وعي وطني جماعي ، فيصدمها كما صدمتها ثورة التحرير.
إن ثورة التحرير الجزائرية حالة متفردة في التاريخ المعاصر، لكونها لم تحرر الأرض فحسب، و إنما حررت الذهن و الإرادة، و رفعت وعي المستضعف في كل مكان إلى درجة ألا تراجع عن الحرية كمبدأ إنساني مشترك لا ينفصم ، و قد أدرك هذه الحقيقة بعض المتنورين في فرنسا أمثال الفيلسوف ” جان بول سارتر” و ” روجي غارودي” و المؤرخ المعاصر ” أوليفي قراند ميزون” و من إليهم.
بالرغم من جهود فرنسا عبر الثورة المضادة للإبقاء على إفريقيا تحديدا ضمن مجالها الحيوي للمساومة بها كرقم هام في المعادلة الجيو- سياسية اليوم ، فإن هذه الخطة تنكسر أوهامها على صخرة الجزائر بدليل أن الدبلوماسية الجزائرية اليوم تحاصرها في الساحل الإفريقي و في ليبيا الشقيقة ، و في سوريا ، و في الصحراء الغربية التي يسعى المخزن في المغرب الأقصى لإستعمارها بوصفه فصيلا متقدما لمشروع العمالة الغربية في المنطقة. هذا فضلا عن تنامي القوة العسكرية للجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير ، الذي له عقيدة دفاعية لا هجومية ، و لكنه قادر على تكذيب العديد من الحسابات فيما يعرف بالتوازنات الإقليمية .
أعتقد أن للجزائر و نخبها السياسية و الفكرية مهمة إنسانية بعد تحرير الجزائر إلى تحرير المخيال الفرنسي المتوقف عند عصور الإمبراطوريات الاستعمارية في القرن التاسع عشر و القرن العشرين.
نشاهد أن كل الحملة الانتخابية الابتدائية في فرنسا اليوم ، يستمد المتنافسون أوراق الفوز فيها ، على حساب معاداة الجزائر شعبا و تاريخا و دينا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار المزيف، و جميعها خاضع للمصالح الرّبويّة الصهيونية و الرأسمالية المتوحشة ، الأمر الذي غرّر بالرئيس الحالي لفرنسا ليهرف بما لا يعرف. هذا الأجير لدى مؤسسة ” روش فيلد” الصهيونية ، فخولت له نفسه الجاهلة أن ينكر تاريخ أمة ضاربة أصلابها في أعماق التاريخ ظنا منه بذلك إرضاء تجار السياسة و ممولي الحملات الانتخابية.
إن ما يجري في فرنسا اليوم لا يثير غضبنا بقدر ما يثير شفقتنا على دولة و أمة كانت لها مكانتها في التاريخ من خلال مفكريها و علمائها ، و أدباءها و فنانيها.
نعتقد أن تاريخ فرنسا بما يحمله من أوهام قد بدأ يحتضر في انتظار أن يؤبن و يقبر ، لاسيما و العالم اليوم بدأ يتخلص من القطبية الفردية بعد القطبية الثنائية لينفسح المجال إلى قوى ناهضة من خارج قارة أمريكا و أوروبا.
لا نملك مدرسة وطنية لكتابة التاريخ الجزائري بكل حقبه
في هذا الإطار أين هو دور مؤرخينا والسياسيين للرد على تصريحات الإليزي؟
إن مفهوم السيادة لا يتعلق بالسيادة الترابية و الجوية و البحرية فقط . إذ لابد أن تكون للجزائريين سيادة على تاريخهم الخاص و العام، و أن كتابة تاريخ أية أمة لا يمكن أن يكتبه إلا أبناؤها من منطلق رؤية و منهج علمي متحرر ، من قواعد المدارس الكولونيالية لكتابة التاريخ .
و على الرغم مما كتبه الجزائريون قبل و بعد الإستقلال فإلى اليوم لم تتبلور لدينا مدرسة وطنية لكتابة التاريخ الجزائري و نقصد بهذا التاريخ منذ ما قبل التاريخ مرورا بكل الحقب إلى يومنا هذا . فالتاريخ كالهرم الشاهق يقام بجهد علمي و مادي و تنقيب و حفر في الفضاء الجغرافي و في الذاكرة المكتوبة و المروية و المجسمة إلخ….
إذ إلى اليوم مازال المؤرخ في بلادنا يعتمد على ما كتبه الآخرون ، غثه و سمينه و ليس هذا قصورا من قبل مؤرخينا ، و لكن القصور في إقامة مشروع مجتمع تتقاطع فيه كل أبعاد الأمة المادية و اللامادية . و عليه لا يليق بنا أن نكون دائما في موقع من يرد الفعل لا من يصنع الفعل الخلاق ، طبقا للنظرية البالفلوفية.
بل علينا أن ندرك مبدأ التحدي و الإستجابة على رأي المؤرخ ” توينبي”، إن منظومة التاريخ كإحساس في المخيال العام و كنمط حياة و كمرتكز تأصيلي في مختلف مراحله بالنسبة لبلادنا يعد ضرورة لتنمية المجتمع و ترقيته ، و تحصينه من كل العوارض في الداخل و الخارج .
أما كلام الدولة الفرنسية اليوم على لسان رئيسها و كذلك ما بشر به من كلفه الرئيس ، بصياغة مشروع ما يسمى بالذاكرة المشتركة الجزائرية الفرنسية فهو مجرد كلام سياسوي ، ظلت تردده الدولة الفرنسية من خلال رموزها منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، و ما قانون تمجيد إيجابيات الإستعمار الصادر عن البرلمان الفرنسي سنة 2005 ، إلا دليل عن ذهنية راسخة لدى هذه الدولة المصابة بلوثة الإستعمار البغيض مع استثناءات من المؤرخين الفرنسيين الموضوعيين، الذين يغلبون الضمير المهني و الأخلاقي عن النزوات و العنصرية و احتقار الآخر.
إننا في الحقيقة لسنا معنيين بما يقول المغرضون الفرنسيون من سياسيين و مؤرخين و تجار النخاسة في المواعيد و الإستحقاقات الإنتخابية.
أما فيما يتعلق بالسياسيين فقد تكفل ممثلو الدولة الجزائرية اليوم بالرد على تراهات السلطة الفرنسية ، هذا و تملك الدولة الجزائرية عديد الأوراق ذات التأثير في المعادلة الجيو- سياسية ضمن علاقاتنا الاقتصادية و الثقافية و الجوارية و ما إليها مع فرنسا، بما يصحح هذه العلاقة المخطوءة لصالح فرنسا منذ عدة عقود.
إن الدولة الفرنسية و الإقتصاد الفرنسي و الثقافة الفرنسية هي المستفيد الأكبر من علاقاتنا معها .
وتكفي بعض الإجراءات في تقديرنا المتواضع ، ستجعل من الدولة الفرنسية تراجع مختلف حساباتها معنا ، و أقصد بذلك مراجعة الدولة الجزائرية لمنظومتها التربوية و نزع الإمتياز عن اللغة الفرنسية في منظومتنا و إدارتنا ، أولا لصالح اللغة الوطنية العربية و اللغة الأمازيغية بعد صياغتها علميا و تحريرها من صراع اللهجات ، و إعطاء مكانة لكل اللغات الأجنبية الأخرى ، لاسيما الإنجليزية و الصينية و الألمانية و ما إليها ، و كذلك مراجعة موازين المعاملات التجارية التي هي استيراد فقط من فرنسا تحديدا دون توريد. بحيث منذ عقود طويلة ظل تعامل الجزائر مع فرنسا لا يقل عن ثمانين بالمائة من واردات هذه الدولة إلينا.
بالإضافة إلى جملة أخرى من الشروط كتنظيم جاليتنا في هذه الدولة و هي بالملايين على اعتبارهم قوة خلاقة لإنتاج الثروة في فرنسا دون أن تستفيد منهم خزينة الدولة الجزائرية ، و ما إلى ذلك من تفعيل علاقاتنا الإقتصادية و السياسية و التنسيق الأمني مع أشقائنا في إفريقيا و شمال إفريقيا و الأمة العربية في انتظار توسيع هذه الرؤية إلى كل بلدان العالم.
نعود لمظاهرات الـ17 أكتوبر 1961، كباحث في التاريخ ما هو المختلف فيها ؟
حاولت الدولة الفرنسية في السنوات الأخيرة الإلتفاف على جرائمها ضد الإنسانية و جرائم الحرب على مدى 132 سنة، بذرّ الرماد في العيون من خلال اعتبار مجازر ماي 1945 جرائم مدانة ، و قتل المئات من المدنيين العزل المسالمين بالرصاص و بإغراقهم في نهر ” لاسان” يوم 17 أكتوبر 1961، و إلصاق تهمة الدولة في ذلك الوقت بالمسئول الأول عن الشرطة الفرنسية ” موريس بابون” و ما هاتان الجريمتان إلا قطرة ضائعة في بحر من الجرائم.
وعليه فإننا نختلف جملة و تفصيلا مع الطرف المحتل الذي يريد أن يميع ما يسمى بالذاكرة المشتركة ويجزؤها من خلال قراءة انتقائية لهذا التاريخ الدامي لكي لا يعترف بكل تاريخه الإجرامي على مدى قرن وربع القرن من الزمن، وهي جرائم ضد الإنسان وضد الطبيعة والمحيط الإيكولوجي المزروع بالسموم النووية، وأبشع من ذلك و أنكى جرائمه ضد هوية الجزائريين ولغتهم ودينهم وعمرانهم ونسيجهم الاجتماعي إلخ…
أما في ما يتعلق بتفاصيل جريمة 17 أكتوبر 1961، فقد هون الرأي العام الفرنسي الرسمي من هولها وقلّل في عدد الضحايا، وهو ما دأب عليه على الدوام لكونه الخصم والحكم، يؤول على هواه مجازره ضد الإنسانية و يعتبرها عمليات تهدئة لحفظ الأمن وحماية مؤسساته ومواطنيه من الفرنسيين فحسب. على الرغم من زعمه أن الجزائريين في ذلك الوقت هم أيضا فرنسيون مسلمون.
إن الخلاف الأساسي في هذه المجزرة و غيرها تقع مسئوليتها علينا بضرورة تحقيق النِدِيَة على كل الصّعد مع هذه الدولة ، لكي نجسر معها سبل التفاهم على مستقبل العلاقات الثنائية.