قامت جريدة المجاهد بدور فعال وأساسي في إبلاغ الرأي العام الدولي بحقيقة الثورة، وتعبئة وتوجيه الرأي العام الوطني ، ظهرت وقتها ضرورة ملحة لإشباع احتياجات المعركة الإعلامية وتعزيزها من أجل إحداث التوازن بين متطلبات الرأي العام الوطني والدولي، القائمة على الإقناع بأهداف القضية الجزائرية والرد الفوري على أجهزة الإعلام الغربية ولاسيما وكالات الأنباء المنحازة للسلطات الاستعمارية .
كان لهذه الأهداف وقع على وحدة الجزائريين والتفافهم حول القيادة الثورية مكن تنفيذها من تدويل القضية الوطنية واستقطاب مناصرين جدد لها، بعد أن تبنت دول شقيقة و صديقة رفع صوت الجزائر عبر اثيرها على غرار مصر ،ليبيا تونس و المغرب و المجر، ثم انبعاث صوت الثورة المجيدة من الحدود الغربية للوطن عبر اثير الاذاعة السرية سنة 1956 التي كانت مؤشرا على النضج الفكري والحضاري لقيادة الثورة التي فكرت في انشاء وسيلة إعلام سمعية خاصة بها .
الإعلام الثوري يعادل 50 بالمائة من الكفاح المسلح
عن نشأة الاذاعة السرية، يقول الباحث في التاريخ والاستاذ المتقاعد من جامعة معسكر ، الدكتور عدة بن داهة ، أنها أسست بإمكانيات بسيطة بعد أن استطاعت قيادة الثورة الحصول على أجهزة اتصالات متطورة أمريكية الصنع ادخلت عليها بعض التعديلات حتى تستعمل في البث الإذاعي، و بثت الإذاعة السرية برامجها الثورية بالعربية و الفرنسية والأمازيغية بعبارة “هنا إذاعة الجزائر المكافحة” أو “صوت جبهة التحرير يخاطبكم من قلب الجزائر” ، ما أدهش السلطات الإستعمارية و أربكها لدرجة أنها شنت حملات استخباراتية لمعرفة مكان الإرسال الاذاعي الذي تواجد في أول الأمر بالحدود المغربية ثم تونس.
ويوضح الباحث أن محتوى برامج الإذاعة السرية تضمن بث البلاغات العسكرية والتعاليق السياسية والرد على الدعاية الإستعمارية وغيرها من البرامج ذات الطابع الدعائي و التحريضي على الإلتفاف بالثورة و نشر الأمل في نفوس الجزائريين التواقين للحرية حينها خاصة من خلال الأناشيد الثورية التي حملت رسائل قوية ، ولم تتوقف فرنسا الإستعمارية عن حملاتها الإستخباراتية والعسكرية والدعائية لكتم وخنق صوت الثورة فحسب، انما ذهبت لفرض رقابة شديدة على الجزائريين الذين كانوا يملكون أجهزة الراديو ، حيث كان ممنوعا على الجزائريين استعمال وامتلاك الراديو والإستماع إلى البرامج الإذاعية.
رغم ذلك يقول الدكتور عدة بن داهة كشاهد عيان على تلك الفترة من عمر الثورة أن الإستماع إلى البرامج الاذاعية كان يتم خلسة، في حين كان لأجهزة الراديو القليلة التي توفرت وقتها غالبا لدى الأسر الثرية فوائد عظيمة، ويشير أن عمليات تفتيش عسكرية كانت تداهم البيوت للبحث عن أجهزة الراديو التي يعاقب مالكها بالحبس لمدة تزيد عن 6 أشهر .
ويضيف محدثنا أن قادة الثورة و الأبطال الذين أشرفوا على تسيير الإذاعة السرية التي لم تبق سرية و وصل صوتها إلى غاية العراق ، كانوا يملكون خبرة في استراق الصوت و حنكة ديبلوماسية عالية المستوى مكنتهم من الحصول على أجهزة ارسال و استقبال أوروبية الصنع من دول مشاركة في الحلف الأطلسي، وينوه بالدور الهام الذي أدته المحطات الإذاعية العربية الشقيقة لاسيما مصر و تونس في دعم الثورة المباركة من ناحية الامداد بالأسلحة الحربية إلى اسماع صوت الثورة .
لجان سرية بالمعتقلات..
ولو أنه تعذر علينا نقل خبرة المجاهد والصحفي بالإذاعة الجزائرية عبد الوهاب كمال الدين لدواعي صحية، تحدث المجاهد الباحث في التاريخ تواقين احمد لـذاكرة”الشعب” ، عن شهادته التاريخية حول الإذاعة السرية من المعتقلات التي قبع فيها بافلو وكو مارشال بتيزي وزو ، يقول أن اللجان الثورية السرية كانت تعمل على نقل أخبار المعتقلين و تمدهم بأخبار الثورة المتناقلة عبر الإذاعات العربية والإذاعة السرية .
ويضيف أن أخبار المعتقلين كانت تنقل للإذاعة السرية من خلال تنقلات زوار المعتقلات المرخص له ، كان الهدف من بث الإذاعة السرية تزويد الشعب الجزائري المكافح بالمعلومات ورفع معنويات جيش وجبهة التحرير ولإبطال مفعول دعايات السلطات المدنية والعسكرية الفرنسية، وإعطاء صورة حقيقية عن ما يجري من عمل مسلح بالجبال والمدن من ضربات موجعة للعدو ، لافتا أن الإذاعة السرية كملت العمل الذي كانت تقوم به وسائل الإعلام الثورية من صحف ومنشورات تحمل رسائل مشفرة لقواتنا في الميدان العسكري .
وذكر المجاهد تواقين أحمد ، أنه في السنتين الأوليتين من تاريخ الثورة التحريرية المباركة ، اعتمدت قيادة الثورة الجزائرية في إيصال صوتها إلى الشعب الجزائري والى العالم عبر إذاعات الدول العربية ، وعلى الخصوص المصرية التي أعطت الدعم والسند المطلق للجزائريين قبل وبعد الثورة، والتونسية التي خصصت برنامج “هنا صوت الجزائر المجاهدة الشقيقة” يذاع ثلاث مرات في الأسبوع و كان المرحوم محمد عيسى مسعودي يشرف على بث الأخبار العسكرية والتعاليق السياسية بطريقة إلقاء مازالت محفورة في الذاكرة .
بلغت المعركة الاعلامية التي شنتها قيادة الثورة المباركة أهدافها المسطرة، من خلال كسب تأييد الرأي العام الدولي اتجاه القضية الوطنية والدفاع عنها ، والتصويت لصالحها في المحافل الأممية وكسب تعاطف الحكومات، ما أثر ايجابا على الإمداد الحربي بالمؤن والأسلحة، والأكثر من ذلك مكنت العبقرية الإعلامية الثورية، من حشد موقف شعبي جماعي شكل محركا للسلاح الإعلامي .
ويؤكد النشاط الإعلامي خلال الثورة المباركة أن هذه الأخيرة لم تكن معزولة عن العالم و لا عن المجتمع الجزائري رغم التضييق الإستعماري وقلة وسائل الإعلام والإتصال وبساطتها، بل كان شكلا من أشكال العبقرية الحربية لدى قادة الثورة و رجالاتها الذين سايروا التطورات الحاصلة في الميدان الإعلامي والحربي وأدركوا أهميته مبكرا كعامل لكسب المعركة النفسية الإعلامية التي لا تقل أهمية عن الكفاح المسلح.
ويستدرجنا التاريخ اليوم لاستخلاص العبر والدروس من المعركة الإعلامية التي خاضتها الجزائر في وجه الغطرسة الفرنسية، وإدراك المسؤولية التي تقع على عاتق الجزائريين اليوم لمواجهة الحروب النفسية والإعلامية التي يقودها تحالف الدول المتواطئة في شن مؤامرات لا تقل دناءة عن اساليب الإستعمار القديم.