تشكلت النواة الأولى لميدان الصحة في الثورة ابتداء من الإضراب الطلابي في 19 ماي 1956، الذي سمح لصفوف الثورة أن تتدعم بأصحاب الاختصاص في القطاع الصحي.
أوكلت لهؤلاء مهمة تقديم المساعدة الطبية اللازمة والضرورية للجرحى من المجاهدين، لتنتقل إلى المدني بتفقد المرضى المدنيين في القرى والمداشر والأرياف.
وانتشرت العملية بين الولايات، وامتد دور هذا القطاع للإعتناء باللاجئين الجزائريين في المغرب وتونس.
في هذا الصدد، يؤكد البروفيسور مصطفى خياطي في كتابه” المآزر البيضاء خلال الثورة الجزائرية”، أن قطاع الصحة مرّ بمراحل تاريخية.
في البداية انحصر على العلاج البدائي، واستحدث أصحاب الإختصاص الذين التحقوا بالثورة أنواعا من المستشفيات، أولها المستشفيات النموذجية التي ظهرت بوادرها في الولاية التاريخية الثانية.
ومع تزايد القوة العسكرية الفرنسية، استحدث نوع آخر من المستشفيات، وهي المستشفيات المتنقلة، هدفها تفويت الفرصة على العدو في الاستيلاء على الأدوية، والأجهزة الطبية عند اقتحام المراكز.
ويضيف خياطي أن أول دورة تكوينية في فرق التدخل السريع، أشرف عليها محمد الصغير نقاش متخذا منزله مأوى ومكتبا بقرية ناقر-المدينة الجديدة بوهران.
تمت هذه الدورة صيف 1954، والتي تضمنت 40 شابا قادمين من الجهة الغربية.
أول تدخل لهذه العناصر كان فعالا في ثورة التحرير، منهم محمد المكامي، وعبد الملاليم محاري أحد أعمدة هذه المجموعة.
كان مسؤولو أعمدة جبهة التحرير الوطني ملزمين بالإحتفاظ بما أقر به مؤتمر الصومام، وكان في المقاطعات الستة استعلامات ذات طابع عسكري على الصحة، بتكليف العناصر المتربصة والخاصة، رغم مشكلة الحاجات الزائدة والإمكانيات القليلة.
الأشخاص الذين كانوا يهتمون بالإسعافات (منهم أطباء وممرضون)، كانوا عرضة لمراقبة السلطة الإستعمارية، ورغم تلك المراقبة تأسست شبكتين للإعتناء بالمرضى والجرحى والذين شاركوا في شبكات خفية.
أنشأت قواعد صحية بعدد أكبر في القواعد العسكرية للدعم والمساندة في الشرق والغرب، وكان أول طبيبين في القاعدة الشرقية بداية 1956 يشرف عليها الدكتور محمد الصغير نقاش وشوقي مصطفى، وحضرت مجموعات من أطباء وطلبة طب بعد إضراب ماي 1956، بلغ عددهم 45 في تونس.
وعين أطباء جزائريون مسؤولين على مصالح الصحة في مستشفيات تونسية للإعتناء بالمجاهدين، منهم تيجاني هدام في مستشفى صديقي، والدكتور علي عقبي في السويس، وبشير منتوري وبلعباس بوذراع ومراد سليم طالب في الكاف، والشيء نفسه جرى للممرضين الجزائريين.
انضم عدد كبير من الطلبة الجزائريين بصفة متربصين في مستشفيات تونسية، لتقديم المساعدة للمرضى الجزائريين والتونسيين.
وأنشأت لجنة أعضاء ولجنة تنسيق وتنفيذ في تونس، ما سهل إعادة تجنيد الأطباء وأطقم الصحة الجزائريين في تونس.
وعلى مستوى القاعدة الغربية كان عدد الأطباء محدود، منهم الدكتور حسان لزرق، محمد بن عيسى، أمير عبد السلام هدام، والصيدلي محمد علي باشا، بالخير بن بوعلي وغيرهم.
ميلاد الصحة العمومية
عند الاستقلال تسبب الرحيل الفجائي للجهاز الطبي وشبه الطبي والإداري لمستشفيات الجزائر، بنقص صحي تام، لأن أغلبية هذه الأجهزة كانت أوروبية.
وأحصت منظمة الصحة العمومية بجنيف في1963، أنه عشية الثاني من جويلية 1962، غادر الجزائر 2200 طبيب و2700 ممرض وممرضة، وترك 144 مستشفى بدون أي جهاز إداري أو تقني.
وفي المقابل، لم تكن الجزائر تملك سوى 154 طبيا مسلما، نصفهم بالدول المجاورة أو ببعض الدول الأوروبية لإنهاء تكوينهم الطبي، وقد وجه لهم نداء للإلتحاق بوطنهم من أجل المساهمة في بناءه.
وحسب شهادة دانيال مين، كان في الجزائر 285 طبيا و38 جراحا للأسنان و70 صيدليا سنة 1963، هذا الرقم يشمل جميع الممارسين في الجزائر مهما كانت جنسياتهم أو توجهاتهم.
كان عدد قليل من النساء، 06 طبيبات، 03 جراحات أسنان وأربع صيادلة، ومن ضمن 504 طالبا مسلما بالجامعة، تواجدت 22 فتاة فقط.
وأمام هذه الوضعية، استعان المسؤولون الجزائريون بالدول الشقيقة والصديقة، ولبى النداء أكثر من 500 طبيب قدموا من مختلف الدول.
وصل الجزائر في ماي 1963 فريق كوبي مكون من أطباء وممرضين، وكانت هذه أول مرة ترسل فيها كوبا فريقا طبيا خارج البلاد.و المساهمة الأكبر كانت من طرف الكتلة الإشتراكية، يوغسلافيا، بلغاريا، تشيكوسلوفاكيا، المجر، الإتحاد السوفياتي، بولونيا، ألمانيا الشرقية، كوبا والصين.
وساهمت بشكل أول كل من الولايات المتحدة الأمريكية، الشيلي، مصر، العراق وسوريا.
وكحالات معزولة قدم فريق أو اثنين من فرنسا، في إطار غير رسمي مثل فريق جراحة القلب رفقة فريق طبي عشية الاستقلال إلى مستشفى البليدة.
أول مسؤول للصحة الجزائر المستقلة
أول مسؤول عن الصحة العمومية بالجزائر، الدكتور محمد الصغير نقاش، الذي عين شهر سبتمبر 1962 كوزير للشؤون الاجتماعية، لتتفرد بعدها بأشهر وزارة الصحة كهيكل قائم بذاته وخصص لها عمارة بحي محمد الخامس.
شمل فريق الوزارة عدد ضئيل من الموظفين، وهم الدكتور مختار جغري، مصطفى يادي (درس بغرونوبل في الموسم 1958-1959)، أرزقي عزي، أنات روجي وأحمد بن حملة رفقة عزي لم يتم استكمال دراستهما بعد.
عمل هذا الفريق مع الدكتور نقاش بمحاذاة الحدود التونسية الجزائرية أثناء الثورة التحريرية.
نقص التغطية الصحية، أجبر الأطباء على العمل التطوعي، فجميع الأطباء العاملين بالقطاع الخاص خصصوا فترة الصباح للعمل بالمستشفيات العمومية، أو بالهياكل الصحية في المناطق التي يمارسون فيها.
وعلى مستوى التراب الوطني، عين أطباء عامون وأقلية متخصصين على رأس مصالح استشفائية لضمان العناية الصحية بالمستشفيات، أمثال الدكتور لعرباوي بسطيف، شيبان بتيزي وزو، سونة بتيارت، بن عبيد ببرج بوعريريج، بن عليوة، جلول هدام بمستغانم، الدكاترة مدني بن كريتلي، فتحي حميدو، أبو بكر بتلمسان.
إضافة إلى بلعيد بن سفير بمعسكر، طاهر بخلوة بغليزان، أحمد قادي ببالكو، عبد الكريم جباري بسعيدة، بن حفيظ بباتنة ودنيس بنعابة.
وبفضل مجهودات هؤلاء الأطباء، أعادت المستشفيات فتح أبوابها عبر مختلف مناطق التراب الوطني، وأكملت المهمة مختلف الفرق الطبية القادمة من الدول الشقيقة والصديقة.
الأولوية لمستشفيات المدن الكبرى
خصص الأطباء الخواص نصف دوامهم لصالح الصحة العمومية، ودعموا فيما بعد بأطباء جيش وجبهة التحرير الوطني، وبالأطباء القادمين من الدول المجاورة أو من الدول الصديقة.
أخذت هذه الفئة على عاتقها تسيير مستشفيات المدن الكبرى والتي افتتحت من جديد، من بين الأطباء البارزين في هذه الفئة الدكتور أتسامينا بمستشفى قسنطينة، منتوري منصوري، تومي، مارتيني، شولي، العقبي كولونا، أيلول، ياكر، بن علاق، بن ديب، شيتور، وطالب أحمد.
أقام هؤلاء بمستشفى مصطفى باشا، مراد طالب وبوذراع بمستشفى وهران، وثلاث أطباء فرنسيين فقط مكثوا بمناصبهم بمستشفيات العاصمة صيف 1962، وهذا بعد رحيل زملائهم الآخرين جاهير Jahier، بونافوس، Bonafos، وقوتراي gautray، وهم أساتذة في طب النساء والتوليد، و قوتراي عاد إلى الجزائر بمساعدة الفرق المتطوعة بعد إعلان وقف إطلاق النار.
في أوت 1962، أعيد إفتتاح مستشفى مصطفى باشا ضم قسم الجراحة منصوري، مارتيني، بن دالي عمور وصديق بصفة جراحين، بن عباجي، محفوظ بن هبيل، بوعياض، معمر بيكات، وغليب جيلالي بصفة جراحين مساعدين.
وصلت إلى الجزائر عديد الهيئات الطبية من البلدان العربية مثل الهيئة الطبية السورية والمصرية، ضمت الدكتور مصطفى الذي حول إلى جراحة الأطفال، ومكث هناك حتى سنوات الثمانينيات، وأيضا الهيئة العراقية التي وجهت إلى مستشفى بارني نفيسة حمود حاليا.
إضافة إلى هيئة طبية أمريكية ببني مسوس، في حين وجهت الهيئة الطبية للدول الشرقية (يوغسلافيا، بلغاريا، بولونيا)، إلى المناطق الداخلية.
سمحت معاهدات التعاون بين الجزائر وفرنسا للمختصين بالعودة أو بالمكوث بالجزائر، خاصة أن التكوين الجامعي كان في أمس الحاجة لهؤلاء.
بقي مركز بيار ماري وكوري، ومعهد باستور مسير من طرف إدارة فرنسية برئاسة الدكتور برييو brehant، الذي كان رئيسا لمصلحة الجراحة، وكان مولاي مريوة أول طبيب بدرجة جامعية يحول إلى هذا المركز.
اكتسبت مستشفيات الجزائر تدريجيا فريقا طبيا وشبه طبي، وبدأت في مزاولة نشاطها أربعة مصالح عرفت تواجدا لفريق مكتمل العدة والعدد، ونظمت مداومات الإستعجالات الجراحية بمستشفى مصطفى باشا ضمت علي العقبي، الهادي منصوري،بشير منتوري، وسعد الدين زميرلي.
اشتمل مستشفى مصطفى باشا بعد الإستقلال على 14 مصلحة.
أنشأت المدرسة الوطنية لجراحة الأعصاب، نهاية 1962، ضمت الدكتور عبادة وعبد المؤمن متخصص في فيزيولوجيا الأعصاب ومعاونان فرنسيان وايطاليين هما البروفيسور جيوفاني والدكتور غالي، إلتحق بهذا الفريق فيما بعد كل من الدكتور بوعسلة وبوتمان.