لقد كان حفل افتتاح انطلاق ألعاب البحر الأبيض المتوسط حفلا مذهلا ومخلدا.
ولعل أهم ما لفت الانتباه هو الحدث الأساس في الاحتفالية الأولمبية لعبارة رئيس الجمهورية عندما قال «تحيا الجزاير»، هذه العبارة التي سمعناها في العديد من المناسبات – وفي كل مرة – دون كلل، فهي تذكرنا بما كنّا وما أصبحنا عليه.
«تحيا الجزاير» لا تحمل المعنى الحرفي للعبارة فحسب؛ بل تحمل في طيّاتها معنى أعمق بكثير؛ فهي ترمز لمعاني قوية؛ وسمة من سمات بلد مر بمحطات طويلة جدا لم يتكبدها أي شعب في تاريخ البشرية، إنها تذكر كل من يتبادر له أن ينسى أن الجزائر خط أحمر لا يُسمح بتجاوزه.
لقد ترددت أصداء «تحيا الجزاير» ثناء على أبطال وأسرى ثورة التحرير، وكل من أُعدِموا بها؛ فهي ديباجة الخطاب وخاتمته… لكن الطريقة التي جاءت بها خلال حفل الافتتاح الرسمي لدورة الألعاب المتوسطية في وهران لم يسبق لها مثيل؛ من خلال طابعها الفوري؛ والمعنى الذي تم نقله بشكل إنسانيّ وحافل بالمعاني.
إن عبارة «تحيا الجزاير» تحمل طابعا خاصّا؛ إذ سرعان ما تحيي الذكريات، وتثير الإعجاب والاعتراف بالشخص الذي نطق بها، وأقصد هنا رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون.
إن هذه العبارة والطريقة التي قالها بها؛ تشهد على روح الوطنية للرئيس، وحبه للوطن، إنها نوع من الشجاعة – كما يُقال – خاصة عندما تخلل كل ذلك بلفتة رائعة ونادرة؛ حينما ضرب بأصبع السبابة على طاولة الميكروفون، وتلك النظرة الثاقبة التي تبعث برسائل كثيرة.
لقد تجاوزت أصداء عبارة «تحيا الجزاير» ملعب «مولود هدفي» في وهران، فكانت عبارة تحذير للمتشائمين، وكل من يحاول المساس بأسس الجمهورية، «تحيا الجزاير» تثير الحناجر، وتُحرّك قلب الوطنيّين، وتشجّعنا وتجبرنا على حبّ البلاد أكثر.
حب الوطن حب دون مقابل!
إن حب المرء لبلده هو أن يعرف ماضيه وحاضره ومستقبله – من بين أمور أخرى أيضا – ومنه السعي نحو المثل الأعلى، كتب «جاك بيرك» عن الجزائر: «ما من شعب […] دمره الغرب دمارا شاملا مثل الشعب الجزائري، ولم يخُض أي منها نضالا ضد الغرب مثلما خاضه هذا الشعب».
كم مرة سمعنا من البعض أنّهم وطنيون للدلالة على حبهم لبلدهم؛ فإن لم يتمكّن أحد من إنكار وطنية الثاني، ولا لعِبِ دور صاحب الأخلاق؛ فإن حب بلد هذا الشعب ليس مجرد أقوال بل أفعال ملموسة.
وحب المرء لبلده يعني التعرّف على تاريخه، والمشاركة في تقدمه وازدهاره؛ لبناء مجتمع يكون فيه لكل مواطن كل ما يحتاجه – المأوى والصحة والسلام والازدهار – ويعامل على قدم المساواة من جميع النواحي.
إن حب المرء لبلده هو مغامرة العقل والضمير، إذ يتوجب على المواطن أن يسأل نفسه عن «واجباته تجاه هذا البلد» قبل أن يطلب منه أي شيء؛ بالرغم من الصعوبات التي من المحتمل أن تمنع الارتقاء – في بعض الأحيان – لأسباب مختلفة؛ والتي من غير المناسب أن نذكرها هنا في هذا المقال.
إن حب المرء لبلده هو القيام بعمله بشكل صحيح، والتصرف كمواطن مسؤول ومتحضر، وأن يكون مواطنا فخورا بما هو عليه، ويحترم الآخرين، ويؤدي واجباته لضمان حقوقه.
أن نحب بلدنا هو أن نكون على دراية بأننا مواطنون قبل أن نكون من هذه المنطقة أو تلك، من هذه القبيلة أو تلك، من هذا الحزب السياسي أو ذاك، مقيم أو مغترب…
إن حب المرء لبلده يعني التفكير بتعاطف وإنسانية بدلا من تغذية الكراهية والافتراء، والانصراف عن كل ما يثير التفرقة؛ لأنه لا يمكن للمرء أن يحب وطنه دون أن يحب أبناء وطنه.
أن يحب المرء بلده يعني أن يكون مفيدا ونافعا له في كل مكان، وفي كل ظرف من الظروف.
أن يحب المرء بلده يعني أن يكون فخورا بالتحدث باسمه، وتمثيله بكرامة في الخارج. إن حب المرء لبلده يعني العيش فيه، والبحث عن الصعوبات التي يواجهها وتفهمها.
إن قولي هذا قد يحمل البعض على اعتباره مجرّد شعار يتردد أو تعبير عن المثالية أو القومية السعيدة، وهم أحرار في تفكيرهم؛ غير أن كل الجزائريين يفكرون على هذا النحو الذي ذكرته؛ لكنهم لا يتخذون الخطوة الأولى؛ لأنهم غير مستعدين.
إن عبارة «تحيا الجزائر» للرئيس تبون هي نشيد الفرح؛ في إشارة إلى القصيدة التي تحتفي بالمثل الأعلى للوحدة والأخوة الإنسانية؛ وقد أحدثت نفس تأثير النشيد الوطني لدى كل من يحرّكهم حبّ الوطن، فحب البلد حاضر في جميع الأوقات من خلال الوحدة، ويتجسّد في أعمال بسيطة تثبت دائما أننا موجودون لتحيا الجزائر.
أحب بلدي.. لا يعني أن أكره غيره؟
نحن نعيش في عالم حيث كل شيء متاح بفضل ثورة الإعلام الآلي، والبلد هو الشعب، وأن تكره بلدا ما يعني أن تكره شعبا بأكمله، إنّه أمر مثير للسخرية؛ لأنّه قد تكون لدينا مشاعر من هذا النوع؛ ولكن ليس إلى حد تعميمها.
وفي الجزائر؛ يجب ألا ننسى أبدا أننا رجال ونساء بعيوبنا ومحاسننا؛ فالعديد من البلدان تحبنا وتحترمنا، ويجب أن نحبهم ونحترمهم، والبعض الآخر يكرهنا؛ ولكن يجب أن نتجاوز جهلهم؛ لأنّ الجزائر بلد يستحيل أن يُكره.
وقد قال «مونتسكيو» في هذا الصدد: «إذا كنت أعرف شيئا مفيدا لي ويضر بعائلتي، فسأرفضه، وإذا كنت أعرف شيئا مفيدا لعائلتي وليس مفيدا لوطني، سأتجاوزه، ولو كنت أعرف شيئا مفيدا لوطني وضارا بالبشرية، لاعتبرته جريمة».
(Montesquieu, Mes pensées, œuvres complètes)
علينا أن نفكر أن نحب الجزائر بنفس الطريقة التي نحبّ بها أهالينا وأطفالنا…لذلك؛ من الضروري إبعاد الفكرة العدمية التي تميل إلى الاعتقاد بأن «أهم شيء هو أن الأسرة فقط هي من تحتاجنا، والباقي لا يهم».
لأن المرء لا يمكنه أن يكون سعيدا دون الآخرين، بدون بلد مكتمل…يجب أن نسعى للحصول على المساعدة، والاستجابة لنداء الجمعيات؛ لإعطاء الوقت للمحتاجين.
ولا ينبغي اعتبار الحقوق أمرا مفروغا منه قبل أداء المرء لواجباته، حتى وإن كانت منصوصا عليها في الدستور، كما يجب أن نقر بضرورة تسديد الضرائب التي علينا؛ علما أنها تستخدم لاقتناء الهياكل الأساسية والخدمات المشتركة.
وأخيرا؛ يجب أن نعلم أن حب الوطن لا يمكن أن يكون قرارا صادرا ينبغي تنفيذه؛ بل يتولّد فينا؛ حيث كل واحد يشارك بلبنته في بناء صرح الأمة الجزائرية، وتلعب الأحزاب السياسية دورا كبيرا في هذا البناء.
الخاتمة
يجب أن نحب الجزائر التي مّت بمراحل مختلفة عبر التاريخ – من ماسينيسا إلى الأمير عبد القادر – منتصرة على الطغاة، وكانت وما تزال بوصلة للثوار، ومنارة لكل الباحثين عن الحرية والأمل.
يجب أن نحب الجزائر ونحب أبناءها وشبابها وعمالها وأئمتها وسياسييها وأساتذتها وباحثيها ومعلميها – دون تمييز – وأطبائها ورياضييها وفنانيها وكتابها…يجب تمجيد جيشها وقوات النظام فيها، يجب أن نفخر بها؛ وألا نخاف من مواجهة المشاكل والسعي لإيجاد الحلول، يجب نشر المشاعر الإيجابية والتفاؤل.
أحب بلدي لأنني لم أكن لأكون هنا اليوم مواطنا جزائريا كاملا؛ دون تضحية شهدائنا الأبرار الذين ضحوا بحياتهم لـ «تحيا الجزاير».