تطرق الدكتور عمر بوضربة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة المسيلة، والدكتور أسامة بوشماخ، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة تيسمسيلت، إلى فكرة ظهور الحكومة المؤقتة ومراحل تجسيدها، ودورها الدبلوماسي في تدويل القضية الجزائرية، وأكدا على أهمية التاريخ والهوية في حماية الجزائر من التهديدات الإقليمية.
قال الدكتور بوضربة إن ظهور فكرة الحكومة المؤقتة كان نهاية 1955، وليس في 1958.وطرحت الفكرة بشكل أكثر جدية بعد اختطاف طائرة الزعماء في 22 أكتوبر 1956، وفي مؤتمر المجلس الوطني للثورة المنعقد في القاهرة سنة 1957، والذي سيرخص للجنة التنسيق والتنفيذ بإمكانية دراسة فكرة تأسيس في المنفى حكومة مؤقتة لما تكون الظروف مناسبة.
وأوضح الباحث أن السلطات الفرنسية كانت تتبع أخبار هذا النبأ عن طريق التقارير التي تأتي من قنصلياتها وسفاراتها في البلدان العربية، خاصة القاهرة، في مداخلة بعنوان “دور الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في تفعيل العمل الدبلوماسي للثورة التحريرية”، نظمت بمركز الدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954 بالأبيار.
وأضاف أن هذه الفكرة طرحت أيضا في مؤتمرات مغاربية، وشرع في تنفيذها في ربيع 1958، حيث أسست لجنة التنسيق والتنفيذ ما يعرف بالمصالح الوزارية وكانت ثمانية مصالح شكلت نواة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وهي الوزارات الأساسية: وزارة الشؤون الحربية، الشؤون الخارجية والداخلية وغيرها من الوزارات.
فيما بعد ستؤسس لجنة من طرف لجنة التنسيق والتنفيذ، هدفها إجراء استشارات لدى إطارات الثورة حول جدوى وإمكانية تأسيس حكومة مؤقتة، هذه اللجنة كان يشرف عليها المرحوم عبد الحميد مهري الذي أجرى مجموعة من الاستشارات.
وكلف مجموعة من إطارات الثورة بما فيهم بعض أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، بإعداد تقارير حول تقييم الوضع الداخلي والخارجي هل هو مناسب لتأسيس حكومة جزائرية في المنفى أو حكومة مؤقتة،قال الباحث بوضربة.
وأشار الدكتور بوضربة إلى أن، التقارير كانت إيجابية وستحسم مسألة تأسيس حكومة مؤقتة في 9 سبتمبر 1958 من طرف لجنة التنسيق والتنفيذ.
وأضاف أن عملية تدويل القضية بدأ منذ بداية الثورة من طرف الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني، والذي كان يقوده محمد خيضر وكان أعضاءه حسين ايت احمد،و احمد بن بلة ثم توسع الوفد ليشمل عناصر أخرى.
وقال: ” عملية التدويل لن تعرف عمقها وفعاليتها إلا بعد تأسيس الحكومة المؤقتة لان هذه الأخيرة أعطت للثورة ولجبهة التحرير الوطني الشخصية الدولية شبه الرسمية، وهو الأمر الذي كانت تفتقده جبهة التحرير الوطني، كقائدة لهذه الثورة التحريرية”.
وأشار الباحث إلى أن، الحكومات الفرنسية المتعاقبة كانت تتحجج وتستعمل في دعايتها أن جبهة التحرير الوطني مجموعة من العصابات والقتلة، ولا يملكون مشروعا سياسيا ولا واجهة سياسية يتفاوضون من خلالها ولا برنامج سياسي ولا استيراتيجية دبلوماسية.
وأبرز أن تأسيس هذه الحكومة المؤقتة سينزع هذه الورقة من الطرف الفرنسي وسيقدم ضربة دبلوماسية موجعة للطرف الفرنسي، وبتأسيس الحكومة المؤقتة سيفعل عمل المكاتب الخارجية في البلدان العربية، والأسيوية والإفريقية، لان جبهة التحرير كانت تملك مكتبا في نيويورك أسسه حسين ايت احمد ثم ترأسه فيما بعد امحمد يزيد ثم عبد القادر شندرلي.
وستفعل هذه المكاتب لتصبح أشبه بسفارات وقنصليات خاصة في البلدان العربية التي اعترفت بالحكومة المؤقتة، وأصبحت هذه المكاتب، تضم مصالح قنصلية وإدارية ومصالح تهتم باللاجئين، وغيرها من المصالح التي نعرفها اليوم في تنظيم القنصليات.
وأوضح المحاضر أن هذه المكاتب ازداد نشاطها وتعمق، وأصبحت تمارس نشاطا إعلاميا ودعائيا بتوزيع جريدة المجاهد والمناشير المختلفة، والمذكرات التي تصدر عن الحكومة المؤقتة توزعها على القنصليات والسفارات المعتمدة، في هذه البلدان الموجودة بها.
وأكد أن الدعم المادي والمعنوي بتأسيس الحكومة المؤقتة سيتضاعف، ويصبح مبررا من طرف الحكومات الداعمة للثورة التحريرية، من خلال المساعدات الموجهة للاجئين في المناطق الحدودية، والتي كانت متنوعة.
إضافة إلى اللوجسيتيك من ذخيرة وأسلحة وغيرها فأصبحت أيام وأسابيع الجزائر المنظمة في البلدان العربية والافرو أسيوية، والتي كانت تجمع المساعدات لجبهة التحرير وتحظى بدعاية إعلامية اكبر وأصبحت حصيلتها من المساعدات اكبر، مما كانت عليه قبل تأسيس الحكومة المؤقتة.
تدويل القضية الجزائرية بدأ مع الحكومة المؤقتة
وأضاف بوضربة أن تدويل القضية الجزائرية وهو الأساس شهد بعد تأسيس الحكومة المؤقتة تفعيلا أكثر من خلال حضور عديد المؤتمرات الدولية والإقليمية والعربية، حيث رفع فيها العلم الجزائرية لأول مرة في مؤتمر ماتروفيا في 1959 بحضور وفد عن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
وأشار إلى أن، هذه الحكومات الداعمة للثورة الجزائرية قدمت دعوات لرئيس الحكومة ووزرائها لزيارة هذه البلدان، وهو ما حظي بتغطيات إعلامية ودعاية، وهذا ما عرف أكثر بالقضية الجزائرية وزاد من حجم التضامن العربي والافر أسيوي، وحتى الغربي.
وبعد تأسيس الحكومة المؤقتة أصبح وفد جبهة التحرير الوطني في نيويورك في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة، يحظى بدعم أكثر وحضور رئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس، وبعض الوزراء ما أدى لتفعيل عملية تسجيل ومناقشة القضية الجزائرية وفق ما يخدم طرح الثورة الجزائرية وجبهة التحرير.
وقال: “كل هذا سيزيد من حجم الضغوط على الطرف الفرنسي الذي سيضطر إلى الجلوس على طاولة المفاوضات، إضافة إلى تزامنه وتناغمه مع ما كان يحدث في الداخل من تعبئة شعبية ومن عمليات فدائية وعسكرية، واشتباكات في الأرياف والجبال”.
المعارك الدبلوماسية لا تقل أهمية عن المعارك العسكرية
وأشار إلى أن، ثورة التحرير استخدمت مختلف أساليب مواجهة القوة الاستدمارية الأكبر في العالم، و في الداخل استعملت المواجهة العسكرية بمختلف أنواعها انسجاما مع طبيعة ارض المعركة، وفي الخارج استعملت الدعاية الدبلوماسية.
واستشهد بما قاله فرحات عباس أن المعارك الدبلوماسية لا تقل خطورة وأهمية عن المعارك العسكرية التي كانت تحدث في الداخل.
وأبرز الدكتور بوضربة أنه، بتأسيس الحكومة المؤقتة ستبدأ معركة جديدة وهي معركة المفاوضات تقودها هذه الحكومة التي قدمت ملفات ثقيلة للتفاوض، وهي ملفات تقنية فيها جانب تاريخي وقانوني وجوانب طوبوغرافية دقيقة، واستعانت بخبراء جزائريين وعرب في مختلف هذه التخصصات في مواجهة وفد فرنسي متمرس ومتخرج من معاهد متخصصة في الدبلوماسية.
لكن –أضاف- المناضلون الدبلوماسيون الجزائريون استطاعوا بإخلاصهم ووطنيتهم الصمود وتحقيق المطالب الأساسية الواردة في بيان أول نوفمبر1954، وفي مختلف مواثيق الثورة من خلال معركة المفاوضات، وساهمت الحكومة المؤقتة بشكل فعال دبلوماسيا في استرجاع الجزائر لسيادتها وحكومتها المغيبة منذ بداية الاستعمار الفرنسي.
حنكة الدبلوماسيين الجزائريين
وأبرز الدكتور أسامة بوشماخ أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة تيسمسيلت حنكة الدبلوماسيين الجزائريين الذين رسموا السياسة الخارجية والدبلوماسية الجزائرية، وذلك في مداخلة بعنوان “الدبلوماسية الجزائرية قوة في العقيدة وثبات في المواقف”.
وأشار بوشماخ إلى أننا مقبلون على تحولات دولية كبيرة جدا تعصف بكينونة الدولة الوطنية، وإن لم تكن لهذه الدولة الوطنية معاني ثابتة في التاريخ والهوية لا محال ستؤول للزوال.
قال: ” اعتقد أن القيادة السياسية الحالية في الجزائر، تركز كثيرا على التاريخ والهوية في مواجهة هاته التحولات في العشر سنوات القادمة التي ستعصف بالكثير من الدول”.
وأكد الدكتور يوشماخ أن هناك تقرير الماريشال الصادر سنة 2018 التابع للولايات المتحدة الأمريكية حول الدول المستهدفة في منطقة الشرق الأوسط الدولة، والجزائر مصنفة رقم واحد، والتقرير الأخير لحلف الشمال الأطلسي حول استيراتيجية 2030 التي تتحدث على ضرورة كبح الجزائر باعتبارها مرتكزا طاقويا، سيعول عليه الكثير في النظام الدولي الجديد.
وأشار المحاضر إلى أن الجزائر انتقلت من دبلوماسية النضال إلى دبلوماسية البناء والتشييد وحاليا دبلوماسية الانتشار، وهذا بإشراك جميع القطاعات، ويضيف أن السياسي لم يعد هو من يمارس الدبلوماسية، ولكن الإعلامي والفقيه والأستاذ في الجامعة والطلبة كلهم معنيون و يقتضي بهم العمل الدبلوماسي.
وقال: ” من خلال هذه التحولات والتحديات في التحولات المجتمعية والتقنية، والعسكرية أصبح مفهوم جديد للدبلوماسية تغيرت الأسماء فقط”.
وذكر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بفريق جبهة التحرير الوطني الذي كان يمثل الدبلوماسية الرياضية، و الإعلام أيضا كان له دور دبلوماسي، فقد رسمت الدبلوماسية الجزائرية خطوط واضحة لمواجهة أية تحولات.
وتطرق الدكتور بوشماخ إلى المبادئ التي تقوم عليها الدبلوماسية الجزائرية، وهي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهي مبدأ من مبادئ السياسة الدبلوماسية التي ورثناها في 1959.
وقال: ” الجزائر كان لديها حواضن متعددة، ولكن صنع القرار كان داخليا لهذا الجزائر دائما ترفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بل تذهب إلى عقد الصلح والكثير من القمم التي من خلالها استطاعت حل العديد من الأزمات في القرن الإفريقي، منطقة الساحل، منطقة الشرق الأوسط، لهذا تميزت هذه الدبلوماسية بالحيوية”.
وأضاف أنه من الروافد الدبلوماسية التي نشأت عليها الثورة الجزائرية، مبدأ التعاون بين الدول المتجاورة، باعتبار أن الجزائر تفضل حلحلة الأزمات الدولية بالطرق السلمية وفي إطار القمم، فأنشأت الاتحاد الإفريقي، الاتحاد المغاربي، وهي الركيزة الأساسية لجامعة الدول العربية، وقيادتها لمنظمة النيباد، من خلال التراكم التاريخي الذي مكنها من أداء هذا الدور وباحترامها لجميع الدول للجزائر، قال بوشماخ.
وأكد الباحث أن الجزائر، بنضالها وتاريخها استطاعت أن تكون رافدا مهما، ومركزا وقطبا كبيرا في نضال الدول في قضايا التحرر مثل قضية الصحراء الغربية والقضية الفلسطينية. وأشار إلى الاجتماع القادم لجامعة الدول العربية، ولم الشمل نظرا لما سيتجه إليه النضال الإقليمي العربي.
وقال: ” الجزائر أصرت على إعادة النظر، وإجماع بين القادة العرب لمواجهة هذه التحولات والتحديات، وبالتالي مبدأ المبادرة والنضال من أجل السيادة كان من أهم العناصر التي ترتكز عليها السياسة الخارجية الجزائرية”.
وأشار إلى أن، الجزائر تركز دائما على حلحلة جميع الأزمات والأدوار والضوابط السياسية القانونية الاقتصادية والقانونية والمجتمعية والإعلامية، لأنه في آخر محطة تصل للحل السياسي.
وأكد بوشماخ أن، التحولات الدولية المستقبلية والانتقال الجيوبوليتيكي الحضاري من المركزية الغربية إلى الحواف الأخرى من الصين، روسيا، تركيا كلها تعتمد على الهوية والتاريخ.
وقال: ” الجزائر من خلال منطلقاتها الحضارية والإقليمية أولت الإهتمام بالهوية والتاريخ ،وهي من أهم العوامل التي تكون من خلالها الجزائر منطلقا حضاريا يعول عليه في بناء السلم والأمن الدوليين معتمدين على الخبرة الدبلوماسية التي أسسها الإباء”.