الجزائر تحتفي باليوم الوطني للدبلوماسية وتستذكر شهيد الدبلوماسية الجزائرية إبان الثورة، وأول سفير عينته الحكومة المؤقتة بالصين في1960، وهو مصطفى فروخي.
زوليخة فروخي: أظهر كفاءة في المسؤوليات المسندة له
تروي ابنة السفير الشهيد، زوليخة فروخي، الناجية الوحيدة من أفراد العائلة، أن والدها كان من المناضلين النشطاء في حركة انتصار الحريات الديمقراطية وحزب الشعب الجزائري، خدم البلادإبان الثورة بإخلاص.
تقول في حديث لـ”ذاكرة “الشعب”: “هذا العام سنحتفي ببلوغه 100 سنة والذي صادف ستينية استرجاع السيادة الوطنية. والدي بدأ نضاله في سن مبكرة مع الشهيد محمد بوراس مؤسس الكشافة الإسلامية الجزائرية، وتحمس في نضاله بعد استشهاد بوراس في1941”.
وتضيف: “لا أتذكر شيئا عن والدي إلا من خلال الصور، لأنه حين غادر مسقط رأسه بمليانة كان عمري 3 سنوات، ومنذ ذلك الوقت لم أره. لتخليد ذكراه أنجزت شريطا مرسوما موجه للأطفال، وكتاب آخر بالفرنسية استنادا لوثائق وصور تحصلت عليها من اكس بروفانس، ومن أصدقائه”.
الشهيد مصطفى فررخي كان له دور كبير في التعريف بالقضية الجزائرية، فنظرا للخبرة والكفاءة التي اكتسبها كمنتخب في المجلس الجزائري، وممثلا لحركة إنتصار الحريات الديمقراطية في المؤتمرات الدولية بالخارج، جعل الحكومة المؤقتة في 1958 تكلفه بمهام دبلوماسية تخدم الثورة قصد الحصول على المساعدات المادية والمعنوية، وفضح جرائم الإستعمار الفرنسي، لتكون آخر مهمة له في 1960 بعد تعيينه مبعوثا للحكومة المؤقتة بالصين الشعبية.
ولد فروخي بحي العناصر بمدينة مليانة في 15 ديسمبر 1922، تربى وسط أسرة عريقة محافظة، حرص والده على تنشئته على حب العلم، فأدخله المدرسة القرآنية لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم.
إلتحق بالمدرسة الابتدائية Moubourguet ، حاليا مدرسة العربي التبسي، عند بلوغه سن السادسة من عمره، انتقل للمدرسة الابتدائية العليا الخاصة بالأوروبيين في 1936، درس فيها أربع سنوات.
بعد نجاحه إلتحق بالمدرسة الثعالبية بالجزائر العاصمة أين حصل على الإجازة، وكانت هذه المدرسة فرنسية تعمل على تكوين أشخاص يشاركون فرنسا سياستها الإستعمارية. درس في ثانوية بيجو الأمير عبد القادر حاليا، ونال شهادة البكالوريا التي سمحت له بمواصلة الدراسة الجامعية في العلوم القانونية والشريعة الإسلامية.
انضم إلى الكشافة الإسلامية الجزائرية في فوج ابن خلدون بمليانة الذي أسس من طرف صادق الفول ومحمد بوراس بمدينة مليانة، وهو أول فوج شكل بعد الإحتفالات المئوية لاحتلال الجزائر في 1930.
تشبع منها بالأفكار الوطنية والروح الثورية التي زادت في بناء شخصيته وحبه وإخلاصه لوطنه، عرف عن الشهيد من خلال شهادات من عايشوه بتدينه وأخلاقه العالية وذكائه وثقافته الواسعة وصفة الكرم التي اكتسبها بالوراثة من عائلته وأجداده، ربطته علاقات طيبة مع أصدقائه وزملائه من الحزب، الذي لم يتوان يوما عن تقديم المساعدة لهم كلما لجئوا إليه.
نشاط بارز في الحركة الوطنية
كان فررخي ممن يهتمون بتطورات الأحداث في الجزائر، ويتابعون الشؤون السياسية العامة، برزت مواهبه وقدراته كطالب بالمدرسة الثعالبية خاصة وأن الطلبة بالمدرسة كانوا على علاقة وثيقة بالمناضل حسين عسلة، الذي أشرف على توجيههم السياسي بأمر من حزب الشعب الجزائري فانضم إليه في 1942 و أعجب ببرنامج الحزب.
إضافة إلى تأثره بابن مدينته محمد بوراس الذي يعتبر رمزا من رموز الوطنية ومؤسس الكشافة الإسلامية الجزائرية، تقول ابنته. وتضيف أن الشهيد فروخي كلف في هذه الفترة بمهام عديدة، وهو لا يزال طالبا بالثانوية لأن الحزب كان بحاجة إلى مناضلين مثقفين لتحرير المناشير والمقالات باللغة العربية والفرنسية، وهو كان ذي ثقافة مزدوجة.
عاصر الشهيد التطورات التي عرفتها الساحة السياسية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث تطور وعيه وأصبح في سن يسمح له بالفهم الواسع لمجريات الأحداث والصراع الدائر على المستويين الوطني والدولي فيما يتعلق بمسار القضية الوطنية.
أظهر تأثره من خلال خطبه في الإجتماعات والتجمعات الشعبية، وبالأخص داخل المجلس الجزائري بحديثه كلما سنحت الفرصة عن مجازر 8 ماي 1945، حيث أيقن أنه لا أمل في التخلص من فرنسا المحتلة ووعودها إلا بالقوة المسلحة والعمل العسكري.
انتخب في 1948 نائبا بالمجلس الجزائري بعد تحقيق نجاح كبير بحصوله على 11.425 صوت من أصل 19.471 ناخب بمنطقة مليانة، واعتبرت الحركة الوطنية هذا المجلس منبرا للتعريف بالقضية الجزائرية والدفاع عن حقوق المسلمين الجزائريين.
اشترك إلى جانب زملائه من حزب حركة إنتصار الحريات الديمقراطية في إثارة القضايا الوطنية، بالرغم من الصعوبات الكثيرة التي واجهوها كالإعتقال والطرد، والاستهزاء من النواب الفرنسيين الذين اعتادوا سماع مداخلات تتميز بالخضوع واللطف من النواب الموالين للإدارة الفرنسية. لم يتقبلوا اللهجة التي يستعملها نواب حركة إنتصار الحريات الديمقراطية.
وخلال فترة تواجده بالمجلس الجزائري من 1948 إلى 1954 تطرق لقضايا عديدة تخص المسلمين الجزائريين منها قضية تزوير الانتخابات الخاصة بالقسم الثاني، والسياسة غير الديمقراطية التي تنتهجها الإدارة الفرنسية في إختيارها للمرشحين من تزوير، وترهيب وضغط واعتقالات.
إضافة إلى الدفاع عن مناطق الجنوب، والتنديد بالطريقة التي تسير بها هذه المناطق، المشاركة في مناقشة الميزانية وتعداد الأموال الضخمة التي تصرف لصالح المعمرين، التنديد بالأعمال القمعية والتعسفية التي تقوم بها الشرطة الفرنسية من اقتحام المنازل، التعذيب الجسدي، الأوضاع المزرية للمعتقلين السياسيين داخل السجون، المطالبة بتطبيق الضمان الإجتماعي للعمال الزراعيين المسلمين الجزائريين، وتحسين الحياة الاجتماعية والصحية للجزائريين، الدفاع عن القضايا الدينية منها فصل الدين الإسلامي عن الدولة وحق المسلمين في إدارة ممتلكاتهم (الأوقاف، المساجد، الحج، ..)،التنديد بالأعمال التعسفية ضد جرائد الحركة الوطنية الجزائرية والمصادرة الدائمة لها.
كان فروخي ضمن اللجنة الإنشائية التي تولت تأسيس الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها في جويلية 1951، والتي ضمت مختلف الأحزاب السياسية، انضم في 1952 إلى اللجنة المركزية ثم أصبح عضوا بالمكتب السياسي للحزب في 1953.
أسندت له مهام ومسؤوليات، عديدة منها العلاقات مع الشخصيات والتنظيمات السياسية والثقافية، العلاقات مع السلطات الإدارية، تكليفه ببعض القضايا الخارجية.
إنتقل إلى فرنسا برفقة شوقي مصطفاي والعربي دماغ العتروس في 1949 لحل مشكل الانقسام الذي حدث داخل الحزب أو ما يسمى الأزمة البربرية، لإعادة هيكلة فروعه في مختلف المناطق وحث الجزائريين للانضمام إليه، والعمل على تنشيط الإتصالات بين مقر فدرالية الحزب وبين الفروع الأخرى في باقي المناطق الفرنسية.
مثّل الحزب في الإجتماعات والمؤتمرات مثل مؤتمر السلام لجذب الرأي العام العالمي للقضية الجزائرية، وفي 1953 توجه إلى السفارة السوفياتية بباريس رفقة أعضاء لجنة الوحدة والعمل لشمال إفريقيا كممثل عن حزب الشعب الجزائري-حركة إنتصار الحريات الديمقراطية لتقديم التعازي بإسم شعب شمال إفريقيا إثر وفاة الماريشال ستالين.
أنشأ صحيفة صوت الجزائر في 1953
تولى فروخي كتابة الخطب وتحرير المقالات لصحافة الحزب، وإلقاء المحاضرات وعقد اللقاءات مع المناضلين لحل القضايا الداخلية الطارئة، نظرا لتمتعه بالكفاءة والثقافة الواسعة والفطرة الدبلوماسية.
أنشأ الشهيد صحيفة صوت الجزائر في 1953 لإطلاع الجماهير الجزائرية بالداخل والخارج على الأوضاع ونشاطات الحركة، وبقيت الصحيفة تنشط مدة 6 أشهر إلى غاية إندلاع الثورة التحريرية، صودرت من طرف إدارة الإحتلال واعتقل محرريها على رأسهم مصطفى فروخي في 22 ديسمبر 1954.
دامت مدة سجنه ببربروس 6 أشهر، وأطلق سراحه في 1955 بشرط البقاء تحت الإقامة الجبرية بمليانة مع المراقبة الدائمة لنشاطه، وتنقلاته من طرف المصالح الإستخباراتية الفرنسية.
لكنه إلتحق بالثورة في 1956 ما جعله متابعا من طرف الشرطة الفرنسية التي أصدرت بلاغا بالقبض عليه.
تلقى تهديدا من منظمة اليد الحمراء الإرهابية، مفادها: “تأمل الأرض الجزائرية جيدا فإنك لن تراها بعد”، ما دفعه للعيش في سرية تامة، إلى أن تمكن من السفر خارج الوطن متنكرا في ثياب عامل الميناء بعد تظاهره بحمله لحقيبة أحد المسافرين، واستطاع صعود الباخرة لغاية وصوله إلى مرسيليا.
انضم إلى فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا وعمل في ميدان التوعية، التعبئة وإنشاء شبكات الرصد والاستطلاع، أمرته الحكومة المؤقتة للإلتحاق بمكاتب الحكومة المؤقتة بتونس، فتسلل من فرنسا إلى إيطاليا متنكرا بزي راهب ليلتحق بعدها بتونس.
وعين بمصالح وزارة الداخلية بقيادة لخضر بن طوبال، كانت مهمته التنسيق بين المصالح الإدارية الخاصة بالوزارة وهي المصالح المالية، الصحية، الشؤون الاجتماعية، الرياضية، والثقافية وأظهر مقدرة فائقة في التسيير الإداري.
عُين مسؤولا سياسيا يتولى مهمة الجانب الدبلوماسي، ومن الأمور التي لا يعرفها البعض تقول ابنته زوليخة هو مساهمته خلال مرافقته لفريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم إلى بعض البلدان العربية والآسيوية في الحفاظ على وحدة اللاعبين بخبرته وثقافته، وتذكيرهم الدائم بالمهمة التي جاءوا من أجلها. ومن بين التعليمات تفادي العنف في اللعب لترك صورة حسنة تبين الأخلاق العالية للفريق، تحفيزهم وتحسيسهم بالمسؤولية الملقاة عليهم، كان يقول لهم: “إن الإحتراف في اللعب يكسب الخبرة، المال والشهرة وبالتالي التعريف بالثورة الجزائرية، وأن الاحترافية في اللعب تجعل المشاهدين يعجبون بالفريق”.
ويضيف: “بانتصاركم في الميدان سيدرك العالم أن المستوى العالي لهذا الفريق يقوده أبطال داخل الجزائر وخارجها”.
رافق فريق جبهة التحرير لكرة القدم
كان فروخي إلى جانب فريق جبهة التحرير الوطني خلال جولته الرياضية إلى الصين والفيتنام مدة شهرين ونصف، وفي 15 أكتوبر 1959 حل الفريق بالصين وحظي باستقبال مميز من طرف المسؤولين الصينين الذين أعجبوا بهم، وإندهشت السلطات الصينية بالثقافة الواسعة للشهيد فروخي عندما قدم لهم معلومات حول الصين وتاريخها وشخصياتها الرئيسية.
سافر الفريق جبهة التحرير الوطني إلى الفيتنام الشمالية يوم 5 نوفمبر 1959، وأجرى العديد من المقابلات مع الفريق الفيتنامي، ثم دعاه الرئيس الفيتنامي هوشي منه رفقة فريق جبهة التحرير لكرة القدم إلى منزله مجاملة واعترافا منه بالقضية الجزائرية.
وقال وزير الخارجية الفيتنامي جونغ دونغ -بعد أن تغلب الفريق الجزائري على المنتخب الفيتنامي بسبعة أهداف مقابل صفر :”نحن غلبنا فرنسا وأنتم غلبتمونا إذن ستغلبون فرنسا”.
نظرا لخبرته وكفاءته في العمل الدبلوماسي كلفته الحكومة المؤقتة بتمثيلها، وسافر إلى القاهرة للقيام ببعض المهام.
بعد اعتراف العديد من البلدان العربية والأجنبية بالحكومة المؤقتة، قررت هذه الأخيرة تعيين بعثات إلى الخارج،منهم مصطفى فروخي الذي عين مبعوثا بالصين الشعبية لكفاءته وماضيه النضالي في الحركة الوطنية.
كانت القاهرة هي المحطة الأولى رفقة عائلته، قضى فيها 19 يوما قبل السفر إلى الصين فكان أول رئيس للبعثة الدبلوماسية الجزائرية في بكين.
وبعد ساعات من مغادرته جاء خبر سقوط الطائرة الروسية Iliouchine1-18 التي كان على متنها فروخي فاستشهد مع زوجته وأولاده الثلاثة بتاريخ 17 أوت 1960 نواحي كييف عاصمة أوكرانيا، ما عدا ابنته الكبرى ذات 8 سنوات.. بعد الإستقلال نقل جثمانه الى الجزائر، ودفن بمقبرة العالية.
مفدي زكرياء يرثي شهيد الدبلوماسية
نقل الشهيد وعائلته إلى تونس وشيعت جنازته بحضور عدد كبير من أعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والحكومة التونسية، وأرسلت برقيات من العديد من الشخصيات من بينهم رئيس جمهورية الصين الشعبية لتقديم التعازي لفقدان شخصية مناضلة ودبلوماسي فذ.
ألقى عبد الحميد مهري، وزير الثقافة والشؤون الاجتماعية الجزائرية، كلمة تأبينية في مقبرة الجلاز، وألقى مفدي زكريا قصيدة رثي فيها الشهيد بالتذكير بنضاله في سبيل الجزائر يقول في مطلعها:
أي صقر في السماء اختفى؟
أي نجم في النهايات انطفى؟
أسفيرا نحو أملاك السما أم لبكين بعثتم مصطفى
أم رأي في الأفق ما قد راعه؟
في بلاد الصين نبلا.. فهذا؟