يؤكد الدكتور رضوان شافو، في دراسة نشرها بالمجلة التاريخية الجزائرية، أن عمليات التعذيب والتنكيل، التي مارستها السلطة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر لم تبدأ في الجزائر مع مجازر الثامن ماي 1945م، ولا مع ثورة أول نوفمبر 1954م، ولا مع بداية الاحتلال، وإنما هي طبيعة متأصلة في ذات الفرنسيين بوجه خاص والأوروبيين بوجه عام.
الطبيعة المتأصلة في العنف في نفوس الفرنسيين والأوربيين تجعلهم يحتقرون الشعوب، التي لا تشاركها في جنسها وثقافاتها ودينها، ولذلك تهينهم وتذلهم.
يقول الباحث إن لفرنسا في مستعمراتها تاريخ متعدد الحلقات يخلد جرائمها ضد الإنسانية سواء في الجزائر، أو في مستعمراتها ما وراء البحار.
ويوضح المؤرخ أن هذا يدل على مدى تعطش الاستعمار الفرنسي للدم، واستشهد بمقولة الكاتب الفرنسي فرانسيس جانسون: “إن كلمة استعمار قبل أن تكون جريمة بشعة في حق الجزائرييين، فهي في حد ذاتها جريمة ضد الإنسانية”، وهو ما ذهب إليه المؤرخ احمد رضوان شرف الدين في قوله: “إن الممارسات الوحشية حقا التي برزت منذ الفاتح نوفمبر 1954م تثير الدهشة لما صارت عليه من التعتيم أكثر من أي اعتبار.
ويرى الدكتور شافو أن سلوك الجيش الفرنسي في الجزائر يدخل ضمن بنية السيطرة البوليسية والعنصرية الشاملة ونزع إنسانية الإنسان بصورة عقلانية، فالتعذيب – يقول أستاذ التاريخ – جزء من الكل الاستعماري .. والاستعمار الذي لا يجيز التعذيب والاغتصاب والإبادة هو استعمار غير قابل للفهم”.
مراكز التعذيب ووسائله
عن مراكز التعذيب والاعتقال، قال الدكتور شافو إن فرنسا الاستعمارية أنشأت مراكز للسجون والمعتقلات الاستعمارية ومخابر للتعذيب والاستنطاق والإعدام عبر جميع أنحاء القطر الجزائري، وكانت هذه المراكز – يضيف شافو – تهدف إلى زرع الرعب في نفوس الجزائريين، والإبقاء عليه بصفة دائمة من جهة، ومحاولة إخماد ثورة التحرير الوطني وذلك بضرب تنظيماتها وعناصرها من جهة أخرى، وتمثل عن ذلك بإنشاء فرنسا في أواخر 1956 مصلحة عسكرية للاستخبارات أطلقت عليها اسم “المفرزة العملية للوقاية”.
ومع مطلع العام الموالي صارت هذه المصلحة عملية في الميدان، وتتمثل مهمتها في تفكيك شبكات جبهة التحرير الوطني بكل الوسائل المتاحة وخاصة منها التعذيب بأبشع أساليبه القديمة.
وفي خريف 1959م عرفت المصلحة إعادة تنظيم فسميت بـ«كتائب المدفعية”، وهي تسمية وهمية الهدف منها تضليلي محض، بقصد إبعاد الاشتباه بحقيقة مهمتها الخاصة.
ويمكن القول أنه بإنشاء هذه المصلحة انتقل التعذيب إلى مرحلة عقلانية وفعالة وفنية وصناعية، فعّل فيها الاستعمار جميع أساليبه الهمجية المضادة للإنسان.
ويوضح الدكتور شافو أن مخبر الـ (DOP) يتشكل من ضابط في غالب الأحيان برتبة نقيب وضابطين أو ثلاثة معاونين له، ومن أربعة أو خمسة ضباط صف، ومن خمسة عشر فردا من جنود الاحتياط، وفي كل مفرزة ترجمان أو أكثر، وغالبا ما يكون هؤلاء من الأقدام السوداء أو من جنود الخدمة العسكرية المنتمين إلى الفئةنفسها أو من الخونة، والحركة كان لأفراد المصلحة حرية اختيار الانتماء إليها خاصة بالنسبة للمستدعيين لأداء الخدمة العسكرية.
وكان نظام العمل بها يمتاز بالمرونة والحرية الواسعة، فالزي النظامي لم يكن إجباريا فضلا عن الامتيازات الطبيعية، التي توفرها الصناديق الخاصة والهدايا بمناسبة رأس السنة الميلادية، وإطعام أفضل من غيره في الوحدات، وغياب مصالح الحراسة والخضوع، وناد مجهز بحيث لا يشكو أي نقص، وكانت إقامات عناصر الـ DOP مكيفة مع طبيعة المهمة المسندة لهم، فهي في الغالب عبارة عن فيلات واسعة بعيدة عن أي مجمع عسكري.
ويصف المؤرخ أفراد المصلحة بقوله إنهم كانوا أفراد من الضباط وضباط صف يحوزون “تكليفا بمهمة” دائما عليه الصورة وشريط ثلاثي الألوان، وينص التكليف على التسريح لحامله بنقل أشخاص من الجنسين في أي نوع كان من العربات، مع عدم إلزامية الكشف عن هويتهم، وتبرير تواجدهم أو جهتهم للمراقبة العسكرية.
أصناف التعذيب
وكان محتوى تعليمات المهمة في ظاهرها ينص على أنه يجب أن تتم الاستنطاقات بكيفية تكون فيها الكرامة الإنسانية مصونة، أما في باطنها يجب أن تنم الاستنطاقات بالكي بالسيجارة والتعذيب بالكهرباء، والغطس في الماء.
وتحدث الدكتور شافو عن مركز تعذيب بورقلة، وهو المعروف بـ«محتشد عين البيضاء أو دار الدوب DOP ، الذي أنشئ في 1957بقصد تجميع الجزائريين المعتقلين من أبطال الثورة فدائيين ومسبلين وكل مواطن مشتبه فيه، ليتم استنطاقهم باستعمال مختلف أساليب التعذيب، هذا المحتشد – يواصل شافو – كان في شكل ساحة نصبت فيها مجموعة من الخيم الصغيرة مخصصة لإقامة الضباط المكلفين بالاستنطاق، وخيمة كبيرة تتسع لحوالي 400 شخص خصصت للمعتقلين.
وبعد 1958م أزيل هذا المحتشد، ومنذ ذلك التاريخ بقي المكان خاليا باستثناء بعض الأجزاء، التي بنيت عليها مباني عمومية.
وعن أصناف التعذيب، يقول الدكتور شافو، إنها منوعة، منها: التكبيل بسلاسل حديدية من الرجلين واليدين بخلاف ( الرجل اليمنى مع اليد اليسرى، والرجل اليسرى مع اليد اليمنى). التعذيب بالحرق وذلك باستعمال شواظ قارورة غاز الخاص بالتلحيم ويستعمل حتى الموت وحتى يفصل اللحم عن العظم. التعذيب بالماء: وذلك في حالتين، الأولى: يكون الماء عكرا وملوثا في حوض صغير يغطس فيه المعتقل لساعات طويلة لاستنطاقه، والثانية: عن طريق تمرير الماء بمضخة المياه عبر أنبوب حديدي يوضع في فم المعذَّب حتى ينتفخ بطنه، وفي حالات ينفجر من شدة الضخ (ولكم أن تتصوروا الصورة البشعة).
التعذيب بالتجريح وبتر الأعضاء وتكسير العظام. التعذيب بالضرب المبرح بحيث يوضع المعذب (بفتح الذال) بين لوحتين ويتم إطباقهما عليه لمدة طويلة بعد ذلك يسكب عليه الماء البارد وبعدها يضرب ضربا مبرحا على رجليه، وتتم عادة في فصل الشتاء.
التعذيب بالطابوري: وهو حلقة حديدية يعلق المعذَّب داخلها في السقف فيدخل الحديد في ظهره.
التعذيب بالكلاب المدربة وذلك بتحريشها على السجين وهو عاري الجسد، التعذيب بالكهرباء حيث يطرح المعذب بفتح (الذال أرضا مسلسلا. الرجلين واليدين وتلصق به أسلاك كهربائية في أصابع القدمين، واليدين، والأذنين، كلها توصل بآلة تشبه الرحى لها ذراع يديرها المكلف بالتعذيب، وإذا أدارها بسرعة غاب المعذَّب عن وعيه.
وللحقيقة التاريخية، حاول الجلادون بمركز الدوب (DOP) استحداث أساليب جديدة أكثر فعالية، ويروي أحدهم أنه بذلت مجهودات جبارة لعب الخيال فيها دور المساعد إلى أن أتقن هذا “الفن”، فلقد تنبه إلى أن المولد دور الكهربائي ذا المدواس ينشئ تيارا أشد من الذي يتولد من جهاز اللاسلكي المنقول، لم يكن الدوب (DOP) يتوفر على مثل هذا الجهاز، لكن عناصره كانوا يلجأون إلى استعارته من مصالح الاتصالات الأقرب.