لم تمر مجازر الثامن ماي مرور الكرام، فقد كانت محل اهتمام من الصحافة العربية والعالمية، وتباينت المعالجة بين مؤيد ومعارض.
فهناك من وجّه أصابع الاتهام إلى الوطنيين وحمّلهم مسؤولية التخطيط لثورة اكتشفت قبل أوانها، فتعثرت وفشلت، ومنهم من وجهها إلى الفرنسيين وحمّلهم مسؤولية تدبير مؤامرة ضد الحركة الوطنية النامية، ومن بين الصحف العالمية صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية التي اختارت الخط الكولونيالي..
الصحيفة نقلت عـدد الضحايا الأوروبيـين ولم تهتم للجزائريين
كانت معالجة صحيفة “نيويورك تايمز”، لمجاز الثامن ماي 1945 حبيسة الإعلانات والبيانات، التي تصدر عن الإدارة الاستعمارية بالجزائر، والحكومة الفرنسية بباريس، حيث عمل مراسلوها على نقل كل ما يصرح به أو ينشر في الجرائد الفرنسية عن طريق تقارير تحمل عناوين بارزة ومثيرة، وبهذا، تكون الصحيفة قد روجت لطرح السلطة الاستعمارية، ولم تلتزم بفروض الموضوعية والمصداقية، حيث ساهمت هذه الصحيفة وغيرها، في جعل فرنسا تتحكم في الرأي العالمي تجاه ما يحدث بالجزائر وتمرير الرسائل التي تريدها.
ولم تتطرق الصحيفة لوقائع الثامن ماي في الجزائر في الفترة 1945- 1946، لدى وقوع أولى الاصطدامات في 08 ماي 1945 وما تبعها بعد ذلك، حيث التزمت الصمت بين 09 و11 ماي 1945، لأن السياسة الرسمية الفرنسية كانت قد أخّرت نشر أي تفاصيل عمّا حدث، وما كانت لتسمح بتسرب أي خبر إلى خارج الحدود الجزائرية.
ومع نشر بيان الحاكم العام في الجزائر يوم 11 ماي1945، ثم تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة الفرنسية، كتبت الصحيفة أول خبر لها يوم السبت 12 ماي 1945 في الصفحة الرابعة، جاء في 124 كلمة، بعنوان بارز: “أعمال الشغب بالجزائر تتأكد.. ومجلس الوزراء يتخذ الإجراءات لتخفيف العجز في وسائل التغذية”. كي تنقل ما جاء في البيان والتصريح حرفيا من أسباب ما وصفته بـ«الشغب”، وقالت إنها “تعود إلى النقص في وسائل التغذية”، وأن “الحكومة الفرنسية عازمة على إرسال الغذاء الى الجزائر”.
ويظهر جليا أن الصحيفة تبنّت ادعاءات السلطات الاستعمارية بأن السبب يعود إلى نقص الغذاء، واستمرّت في تبني هذا الإدعاء لتزيد من تأكيده عندما نشرت أول تقرير للجيش الأمريكي عن الحوادث يوم الجمعة 01 جوان من السنة نفسها، في الصفحة 05، وجاء في 258 كلمة هذه المرة، تحت عنوان بارز: “التقرير الكارثة”.
واستندت صحيفة نيويورك تايمز، على مراسلة من روما بتاريخ 31 ماي 1945 ذكرت فيها أن صحيفة نجوم وخطوط 14 التابعة للجيش الأمريكي، نشرت في طبعتها بروما برقية جاء فيها أن ما حدث بالجزائر يوم 08 ماي وما تلاه، ما هو إلا ثورة من أجل الطعام، وهو ما تولى نشره مراسلها من باريس أرشمبولت، يوم السبت 02 جوان في الصفحة 08 وبـ373 كلمة، بعنوان: “الفوضى في الجزائر يستمر بريقها”، وأن النظام لم يستتب بعد في أجزاء من الجزائر بعدما تصادفت الاحتفالات بعيد النصر أعمال شغب من أجل الطعام، ما يؤكد أن الصحيفة قد تبنت السبب، الذي تحدثت عنه مجلة الجيش الأمريكي السابقة الذكر.
ويلاحظ أن الصحيفة عادت مرة أخرى لتستقي معلوماتها من السلطات الفرنسية وهذه المرة في عدد الإثنين 02 جويلية 1945 الصفحة 04، وفي 186 كلمة، لتنقل ما جاء على لسان الإدارة الاستعمارية، وهذه المرة على لسان وزير الداخلية أدريان تيكسيبه، يوم 29 جوان الذي أكد أن التحقيق أوصله إلى نتيجة مفادها أن الحوادث كانت من عمل حزب أصدقاء البيان والحرية، وفروع من حزب الشعب الجزائري غير الشرعي؛ لأن أعضاء هذين الحزبين كانوا يقومون بنشاط منتظم ضد فرنسا وممثليها.
وخصصت الصحيفة بعد ذلك أعدادا للحديث عن الحلول، التي كانت فرنسا تسعى لإيجادها، لتلتقط آخر أنفاسها من حيث وسائل القمع والنتائج المترتبة عنه من خلال التطرق في أعدادها الأولى لدى معالجتها لمجازر الثامن ماي لعدد الضحايا من الأوروبيين دون الاهتمام بعدد الضحايا الجزائريين، على غرار ماورد في مقالها ليوم الأحد 13 ماي في الصفحة 05، في 70 كلمة، بعنوان: “العرب يقتلون خمسين شخصا في الجزائر”، صرّحت بعدد 50 أوروبيا قتلوا في مقاطعة قسنطينة من طرف عرب ثائرين أثناء الاحتفال بعيد النصر، على حد زعمهم.
واستمرت الصحيفة في الحديث عن عدد القتلى والجرحى على حسب تقارير السلطات الفرنسية لتعلن يوم الخميس 24 ماي الصفحة 10، في 100 كلمة، بعنوان: “300 أوروبي وألف جزائري بين قتيل وجريح”، وفي عدد 01 جوان صرحت بالعدد 10 آلاف ثائر عربي، بحسب تعبيرها بين قتيل وجريح وبعدد 97 قتيلا أوروبيا معظمهم من الإداريين الاستعماريين ومن المقيمين الأغنياء، واستمرت في ذلك إلى غاية 25 ديسمبر 1946، حيث قدرت عدد القتلى من الجزائريين بما بين 7 آلاف و18 ألف في 25 ديسمبر 1946.
وبخصوص الوسائل التي استخدمتها الإدارة الاستعمارية في قمع المتظاهرين، فقد تبنت الصحيفة ما صرحت به مجلة “نجوم وخطوط”، فذكرت أن القوات الفرنسية البرية والجوية قتلت وجرحت أكثر من 10 آلاف ثائر عربي في أوائل هذا الشهر خلال حملة دامت تسعة أيام، وأن الطائرات المقنبلة الفرنسية سحقت قرى أهلية بأكملها في المناطق الثائرة الواقعة حول المدينة الجزائرية الجبلية قسنطينة، عبر تنفيذها لـ 300 غارة في يوم واحد بطائرات مقنبلة بين متوسطة وثقيلة حصل عليها الفرنسيون من الولايات المتحدة الأمريكية.
وأضافت أن المحاربين الفرنسيين المستعملين لطائرات من صنع بريطاني، كانوا يتبعون الطائرات المقنبلة ويطلقون النار على السكان الهاربين أو يرمون القنابل على المراكز العربية في الجبال.
وقالت الجريدة بعد سنة من ذلك، إن الفرنسيين لم يستعملوا الجنود فقط، بل المقنبلات والسفن والزوارق الحربية أيضا على السواحل بين بجاية وجيجل لقمع الانتفاضة بأعنف ما تكون القسوة، ما يجعل من “نيويورك تايمز” الصحيفة الوحيدة، التي ذكرت أن القمع استخدمت فيه المقنبلات البحرية خلال مجازر الثامن ماي 1945.