بيان أوّل نوفمبر 1954 نص تاريخي يحمل صبغة سياسية، فهـو ميثاق وبلاغ اندلاع الثورة التحريرية.
يشرح ظروف اندلاعها وأهدافها ومواقفها ونظرتها لحل القضية الجزائرية، أصدرته الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني، الهيئة السياسية الجديدة لثوار اللجنة الثورية للوحدة والعـمل الذين عزموا على بدء الكـفاح التحريري..
في هذا الصدد، يؤكد البروفيسور عبد الله مقلاتي، مدير مخبر الدراسات والبحث في الثورة الجزائرية بجامعة المسيلة لـ«الشعب”، أن هذا البيان له أهميته التاريخية البارزة كونه الوثيقة الأولى المعرفة بالثورة الجزائرية، والميثاق الذي يتضمن المحتوى العقائدي والسياسي للثورة، وقد ذاع هذا البيان واشتهر، وأصبح مرجعا وميثاقا للثورة وأدبياتها وللجزائر المستقلة.
وقال مدير مخبر الدراسات والبحث في الثورة الجزائرية بجامعة المسيلة، إن بيان أول نوفمبر جاء موجزا في حدود صفحتين، ولكنه تضمن أفكارا عديدة، وأذيع أول مرة في صوت العرب.
تحدد بعض المصادر أربع شخصيات من بين الستة، كان لها الدور الحاسم في صياغة البيان هم: بوضياف، ديدوش، ابن بوالعيد وابن مهيدي، ويذكر بوضياف، في شهادته أن نقاشا مطولا دار بين أعضاء اللجنة الثورية حول المحتوى السياسي والتنظيمي للحركة الجديدة، وأنهم ركزوا في البيان على تأكيد مطلب الاستقلال دون تعمق في تحديد مدقق للحركة، فقد ركزوا – في البيان – على فكرة إنقاذ الحركة الثورية من الفشل، والتنديد بالصراعات الداخلية ومدبريها، وبوضع العمل المسلح في إطاره الاستراتيجي، وتحديد الاستقلال كهدف للكفاح.
وتقرر توزيع البيان ليلة اندلاع الثورة بشكل واسع، من أجل ذلك حمل بوضياف، وبعض قادة المناطق نسخا منه، وكلف الصحفي المناضل محمد العيشاوي برقنه واستنساخه، فأدى المهمة على أحسن ما يرام ونسخ في منطقة آمنة بالقبائل نحو 2300 نسخة، وتمّ نقلها يوم 27 أكتوبر إلى الجزائر العاصمة لتوزع على مختلف المناطق، وفي ليلة 31 أكتوبر 1954 وزع البيان على كامل التراب الوطني ليكون وثيقة تعريفية بثورة التحرير الجزائرية.
دوافع تحرير البيان واندلاع الثورة
ويمكن تقسيم النص إلى مجموعة فقرات بحسب الموضوعات التي تعالجها، وفقا لما أشار إليه البروفيسور مقلاتي، وتتمثل في ظروف ودوافع اندلاع الثورة والأهداف الداخلية والخارجية للثورة ووسائل الكفاح ودعوة الشعب لمباركة هذه الوثيقة.
ولفهم مضمون أفكار النص، يتوجب شرح فقرات النص فقرة فقرة – يقول الباحث- ففي بداية البيان يخاطب محرروه الشعب والمناضلين خصوصا باعتبارهم المعني الأول بالأمر، موضحين أهداف نشر هذا البيان، وهي بالأساس توضيح للأسباب التي دفعت لتفجير الثورة، والتعريف بالمشروع الثوري وأهدافه الاستقلالية، ورفع اللبس الذي قد يوقعه أعداء هذا المشروع ومناوئو العمل المسلح التحرري.
ويشرع المحررون في التعريف بملابسات اندلاع الثورة في هذا الوقت الحاسم، فهم يعتبرون أن الوقت مناسب على الرغم من أزمة انقسام حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وذلك باعتبار أن الحركة الوطنية نضجت ووصلت إلى مرحلة العمل الثوري، وآن لها أن تحقق أهدافها، وخاصة أن الظروف الداخلية والخارجية تبدو مناسبة، باعتبار أن الشعب المعول عليه لاحتضان الثورة مؤمن بفكرة الاستقلال ومستعد لدعمها، وأن الوضع الدولي المنفرج في إطار التعايش السلمي بين المعسكرين يسمح بتسوية قضية الجزائر التي تجد دعما دبلوماسيا من قبل العرب والمسلمين، وفي السياق ذاته، سجل المحررون وقفة أمام أهمية الظرف الذي تعرفه حركة التحرر.
ويعود المحررون للحديث عن الحركة الوطنية، موجهين انتقادات لاذعة لمنهجها وطريقة تسييرها، مؤكدين أنها تمر بمرحلة جمود وروتين، والقصد من ذلك هو تحميل قادتها المسؤولية، والتأكيد على حتمية التغيير واللجوء للعمل الثوري، حيث يخلص المحررون للقول أنه وأمام هذه الوضعية المشار إليها، توجب التدخل لعلاج المشكلة، وهو ما قامت به مجموعة الشبان الذين تحملوا مسؤولية تفجير الثورة وإنقاذ الحركة الوطنية من مأزقها، وهم مستقلون عن الجناحين الذين يتنازعان قيادة الحزب، وحركتهم الجديدة تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار وهي موجهة ضد الاستعمار الذي ظل يمنع الجزائريين عن حقوقهم المشروعة، ومؤكدا أن الثورة منفتحة أمام جميع الجزائريين للانخراط فيها.
أهداف الثورة الداخلية والخارجية
وأوضح البروفيسور مقلاتي، أن الفقرة الثانية تبين بوضوح أهداف الثورة متمثلة في تجـسيد “الاستقلال الوطني”، وهو المطلب القديم للحركة الثورية، ويقصد به الاستقلال التام دون غيره، تبعا لما ورد في فقرة موالية تنص على بناء دولة جزائرية مستقلة، ولا يمكن أن تعني استقلالا منقوصا كما فهم البعض، وأوضحت ذات الفقرة أن الاستقلال الوطني يتحقق بواسطة أمرين وهما “إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية والاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية، واحترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني”.
ويحمل هذان العنصران، اللذان على أساسهما تقوم الدولة الجزائرية، مضامين فكرية واسعة، خاصة مصطلحات: الديمقراطية، الاجتماعية، وإطار المبادئ الإسلامية، ويوضح مقلاتي، أن تجسيد ذلك يتم بتحقيق أهداف داخلية وأخرى خارجية، فالداخلية منها تتمثل في “التطهير السياسي” للحركة الوطنية وتوجيهها نحو الطريق السليم، وتجميع وتنظيم جميع الطاقات الفاعلة في المجتمع الجزائري لتصفية المستعمر، والخارجية فهي ثلاث، تدويل القضية الجزائرية وإخراجها من نطاقها الاستعماري المفروض قانونا، وتحقيق وحدة الشمال الإفريقي في إطارها العربي والإسلامي، وتأييد جميع الشعوب التي تعطف على القضية الجزائرية وفقا لمبادئ الأمم المتحدة.
وسائل الكفاح وطبيعة المعركة
وأبرز محدثنا أن الفقرة الموالية تبين وسائل الكفاح على المستوى الداخلي والخارجي، حيث تقرر إتباع كل الوسائل المنسجمة مع طبيعة العمل الثوري، وتم التأكيد على إنجاز مهمتين في وقت واحد، هما العمل الداخلي في المجالين السياسي والعسكري، والعمل الخارجي لفرض تدويل القضية الجزائرية بمساندة الأنصار الحقيقيين، وبذلك تنتهج كل الخيارات السياسية والعسكرية والدبلوماسية لتحقيق غاية الاستقلال.
ويتعمد المحررون ذلك للتأكيد بأن مهمة الثورة لن تكون سهلة وتتطلب تجنيد كل القوى والطاقات، والاستعداد لجميع الخيارات، بما في ذلك خيار الحل السلمي الذي سيكون خيارا حتميا، ومن أجل ذلك، استبقت جبهة التحرير الوطني الأحداث وتقدمت بمقترح سلمي لعلاج القضية الجزائرية يضمن حقوق الجزائريين من جهة ومصالح الفرنسيين من جهة أخرى، وتكون من خلال اعتراف فرنسا بالشخصية الجزائرية والدخول في مفاوضات مع ممثلي الشعب الحقيقيين وخلق أجواء الثقة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
دعوة الشعب إلى مباركة الوثيقة
في ختام البيان، يعود المحررون لمخاطبة الجزائريين، وذلك بدعوتهم إلى مباركة ما جاء في الوثيقة، وإلى مؤازرة واحتضان الثورة والانضمام إليها، مؤكدين أن جبهة التحرير الوطني هي جبهة الشعب وانتصارها هو انتصارهم، وأنهم بدورهم يقدمون في سبيل تحرير الجزائر أغلى ما يملكون.
وعن تقييم النص، أكد الأستاذ الجامعي، أن أفكار النص جاءت واضحة ومعبرة عن المعنى خاصة وأنها موجهة إلى جماهير الشعب، وتضمنت آراء وأفكار مفجري الثورة حول القضية الوطنية وتصورهم للخروج مـن المأزق الذي وقعـت فيه، وهو إعلان الكفاح المسلح، ونلاحظ جليا أن محرري البيان تعمدوا الاختصار والتركيز على المسائل الأساسية وتجنبوا الدخول في التفاصيل الإيديولوجية، السياسية، والتنظيمية للثورة، وطبيعة الاستقلال ومستقبل الدولة …إلخ.
وقد اعتمدوا في صياغته – يضيف محدثنا – على أدبيات الحركة الاستقلالية، وركزوا على جوانب أساسية، مثل الدور الإعلامي للبيان من خلال التعبئة الشعبية، ويبدو واضحا أنهم كانوا مطلعين على أبعاد القضية وعارفين بملابساتها، وبالواقع الاستعماري، وحتى الظروف الدولية الدقيقة، وذلك على الرغم من أنهم شبان لم تكن لهم تجربة نضالية واسعة أو تكوين سياسي وعقائدي مكين.
وتبدو كثير من الأفكار دقيقة ومدروسة، ومنها الأهداف التي دعت جبهة التحرير الوطني إلى تحقيـقها على المستوى الداخلي والخارجي، لكنها تحتاج إلى توضيح جوانب عديدة مثل طبيعة الاستقلال المطالب به ومبادئ الدولة الجزائرية.
وعن وسائل الكفاح، فإنها كانت لا تعدوا أن تكون جمعا بين العمل السياسي والعسكري وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي، في حين نظر البعض إلى الحل السلمي على أنه لا يتلاءم مع إستراتيجية حركة ثورية في بداية مشوارها، كما أن وجهة نظر محرري البيان تبدو واضحة المعالم، وخاصة في الفقرة الأولى التي تسرد ظروف ودوافع إعلان الثورة، ويتوجب علينا ألا نأخذ وجهة نظر اللجنة الثورية للوحدة والعمل سليمة دون غيرها من وجهات النظر الأخرى، كما أن أحكاما واضحة ضمنت في البيان، ومنها إطلاق صفة الجمود على الحزب واتهام مسؤوليه بالتقصير، واعتبار قضية الأشخاص والسمعة في قيادة الحركة من القضايا التافهة والمغلوطة.
وفي الختام أكد البروفيسور مقلاتي، أن بيان أول نوفمبر 1954 يعد الوثيقة التعريفية الأولى بالثورة الجزائرية وبمواقف وأهداف جبهة التحرير الوطني، جاء فيها توضيح لظروف ودوافع اندلاع الثورة الجزائرية، وبيان للأهداف المسطرة ووسائل الكفاح المنتهجة.
وكان الحرص واضحا على تحقيق هدف الاستقلال الوطني بكل الوسائل المشروعة، يقول مقلاتي ويضيف: “البيان رصد الأفكار والتوجهات الكبرى لهذه الحركة الجديدة، وهو ما سمح لجبهة التحرير الوطني بأخذ موقعها كحركة تحررية لها أهدافها واستراتيجياتها العملية ومبادئها، وسمح للشعب باحتضانها والتعويل عليها في تحقيق الاستقلال وتجسيد مطمح الشعب الجزائري في التخلص من براثن الاستعمار الفرنسي”.